لم يشرّع الإسلام العبادات بكافة صورها طقوسًا مجردة من المعنى والمضمون، بل إنّ كلّ عبادة تحمل في جوهرها قيمة أخلاقية مطلوب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدي لها، وأن تتضح جليًا في شخصيته وتعاملاته مع الغير، وفيما يرسمه لذاته من إطار يحرص على الالتزام به ولا يحيد عنه.
يقول الله تعالى: "يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون"(البقرة: 183)، وتقوى الله: مخافته، ووقاية النفس من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح.
الصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنيّة خالصة لله عز وجل؛ لما فيه من زكاة للنفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاق الرذيلة.. كما أنّه يعني الكفّ عن اللغو والغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، قال تعالى: "فإما ترينّ من البشر أحدًا فقولي إنّي نذرت للرحمن صومًا فلن أكلّم اليوم إنسيًا" (مريم:26)، والمراد أنّهم كانوا إذا صاموا في شرعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام.
وشروط الصيام رؤية الهلال، والنية، والإمساك عن إيصال شيء إلى الجوف عمدًا، والإمساك عن الجماع، والإمساك عن الاستمناء، والإمساك عن الاستقاء أو إخراج القيء.
وذهب حجة الإسلام ـ الإمام الغزالي إلى أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم: فهو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كفّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنيّة والأفكار الدنيوية وكفّه عما سوى الله عز وجل بالكلية، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين.
ومن آداب الصيام عدم الاستكثار من الطعام؛ إذ كيف يُستفاد من الصوم بكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته من ألوان الطعام في نهاره، فالاستكثار من الطعام يزيد اللذة ويضاعف قوتها. ومن جهة أخرى، ينبغي أن يتعلق القلب بعد الإفطار ويضطرب بين الخوف والرجاء؛ إذ لا يدري الصائم أيُقبل صومه أم لا!!..
إنّ المقصود بالصوم: تصفية القلب وتفريغ الهم لله عز وجل، ومن هنا تتجلى فوائد الصيام من خلال زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاق الرذيلة، وتزكية البدن وتضييق مسالك الشيطان، وذكر الله من خلال الخوف والرجاء، إلى جانب التمسك بحدود الله والطاعة، وكسر الشهوة الجنسية، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء" (البخاري:5065/ مسلم:1400).
إنّ الصوم تدريب عملي للصائم على الامتناع باختياره وإرادته عن تلبية رغباته وشهواته لفترة معينة، وأن يعلو على غرائزه لوقت معلوم، وبتكرار هذا السلوك يصبح طبعًا راسخًا في حياة الفرد، وبذلك يعلّمنا الصوم الصبر على الطاعة والصبر على المعصية رجاء الثواب، ونتربّى على مراقبة الله في أعمالنا، ومن ثمّ نتقنها.
وإذا لم يعط الصيام ثمرته السلوكية فلا طائل منه، استنادًا لقول الرسول الكريم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه" (البخاري:6057).
هذه مدرسة الصيام: حفظ اللسان، وغض البصر، وحفظ الفرج والجوارح، والصبر، والبذل والسخاء، وإتقان الأعمال، ومراقبة الله، وبالجملة: تقوى الله..