أحمد حسين حمزة*
ما أن يُمسك صفحاته البيضاء حتى تتشرَّب آماله وآلامه.. وما أن يخدش بياضها بقلمه حتى يتساقط عن كلماتٍ ترسم ملامح روحه المرهفة.. أحاول تخيل تلك الساعات العظيمة التي كُنتَ ترتحل فيها بين سماء الخيال وبحر الحكمة تدعو النجوم واللآلئ للرقص على سطور مؤلفاتك.. فيكاد يتجسم لنا قلمك وهو يبكي على صدور دفاترك حتى تذيب دموعه بياضها .. تستلقي الأوراق البيضاء أمامك باردة كلوحٍ من جليد ، لكن ما أن يرقص عليها قلمك حتى تذهب خطواته الدافئة ببياضها البارد..
بهذه العبارات المرهفة ابتدأ الأديب والناقد سامر منصور حديثه عن الأديب العالمي جبران خليل جبران الشاعر والكاتب والرسام اللبناني العربي ابن بلدة بشري مُلهم الكثيرين ونجم من نجوب الآداب العرب والعالميين حتى اليوم..
ولد جبران عام ١٨٨٣ وتوفي بداء السل في نيويورك عام ١٩٣١ و يعتبر من شعراء المهجر ومن مؤسسي الرابطة القلمية التي ضمت كوكبة من الأدباء والكتاب العرب ممن أرادوا تحديث أساليب الكتابة في الوطن العربي.. هذه القامة الأدبية شكلت محور عدد من الفعاليات النقدية والفنية التي خصصتها وزراة الثقافة السورية والتي انطلقت بالندوة النقدية التي حملت عنوان (جبران رائد النصوص القصيرة) ويليها معرض فني جماعي مستوحى من مؤلفات جبران يعقبه ندوة نقدية عن اللوحات المشاركة بإشراف الفنان التشكيلي أديب مخزوم يشارك فيها الكاتبة والإعلامية اللبنانية د.ريما نجم تحت عنوان جبران الفنان والمخلص وذلك في أعرق المركز الثقافية في العاصمة في حي أبي رمانة الدمشقي.
أكد الأديب والناقد سامر منصور في الندوة النقدية التي أقيمت مؤخراً أن جبران من القلائل الذين تفردوا في مطلع الحداثة في الأدب العربي بالمقدرة الهائلة على نسج نصوص اتخذ فيها موقف الحياد إزاء قضايا كبرى وعرض تلك القضايا بأقل مجهودٍ لغوي وعبر عنها بعمقٍ وموضوعية.. واتخذت هذه الندوة منحاً تفاعلياً حيث قُرِئت فيها نصوص وقصص قصيرة حملت مضمرات ورموزاً واتسمت بالانفتاح على قراءات متعددة.. وترك للحضور حرية المشاركة والتعبير عما فهموه وأوحت به لهم هذه النصوص.
خصائص النصوص القصيرة:
ونذكر من خصائص مؤلفات جبران التي تطرق لها منصور:
استخدام الحيوانات والأشياء وأنسنتها في سبيل طرح القضايا الجدلية الكبرى الأشهر في عصره ، وهو يمتلك القدرة على التجريد وهي مَلكة من ملكات العقل العُليا فهو أشبه بعين بصيرة من عيون الحقيقة تراقب وتمحّص وتبوح بما ترى دون أن تنجذب لطرفٍ دون آخر فهو لا يقوم بالوصف والإخبار بل بتشخيص صراع الأضداد والظواهر الاجتماعية المختلفة في فنتازيا مدروسة وغير مجانية وبذلك تجاوز عيوب الموروث الحكائي العربي الذي يفيض بالفنتازيا المجانية كما هو حال العديد من مغامرات السندباد وحكايات ألف ليلة وليلة حيث تكون الرحلة في بحور الخيال شبه مجانية في العديد من تفاصيل تلك الحكايا بينما يركز جبران على المُعادل الموضوعي والتماثل مع الواقع في جُل ما يكتبه من فنتازيا رغم كثرة مؤلفاته التي يطغى عليها المذهب الرومنسي.
من سمات شخصية جبران التي تعكسها مؤلفاته الأدبية..
الجرأة ، تفادي ما هو أيديولوجي والانحياز للإنسانية، قبول الآخر، تكريس قيم التعايش والتسامح ، إعلاء شأن الفن..إلخ.
يقول جبران خليل جبران:
أتوق إلى الأبدية لأنني سأجتمع فيها بقصائدي غير المنظومة وصوري غير المرسومة.
الفن خطوة تخطوها الطبيعة نحو الأبدية.
المجنون موسيقي مثلك ومثلي لكن الآلة التي يضرب عليها لاتُخرجُ ألحاناً.
كل رجل يُحب إمرأتين: واحدة يخلقها خياله والثانية لم تخلق بعد.
استطاع جبران من خلال نصوصه القصيرة تناول وطرح مسائل وقضايا كبيرة وحملها رسائله التي تحض على التعايش واحترام الآخر كقصته التي حملت عنوان النهر.
نصوص جبران القصيرة ابرة في العصب:
تفرد جبران بمقدرته الهائلة على نسج نصوص اتخذ فيها موقف الحياد إزاء قضايا كبرى وعرض تلك القضايا بأقل مجهود لغوي (بتكثيف) وعبر عنها بعمق وموضوعة حاملاً القارئ إلى مستويات أعلى من الرؤية ومحفزاً العقل العربي على التفكر والتدبّر.
فرفد الوعي الجمعي حيث استطاع أن يقدم قيمة جمالية في النسيج التخييلي واللغوي وقيمة معرفية مضافة من خلال تبنيه للعصف الذهني في الطرح حيث النص يشكل رحلة وليس حكاية تنتهي بموغظة ونهايات قطعية الدلالة فنصوص جبران القصيرة تنزع السقف عن القارئ وتلقي بمفاتيح سحرية لا تفتح له باباً بل أبواباً عدة.. تلك المفاتيح هي علامات استفهام .. هي حالة القلق المُحفّز للتأمل والتفكر التي ننتهي إليها في ختام جل النصوص القصيرة لذلك المفكر والأديب الفذ.
عقب ذلك قراءات لعدد من نصوص جبران القصيرة وأكد الكاتب والناقد منصور أن جبران تطرق في العديد منها إلى المرأة وتعقيدات الحياة التي تواجهها كما في قصته القصيرة بعنوان الصحيفة البيضاء التي عبر فيها عن كونه لا يرى اكتمالا لأنوثة المرأة ودورها العظيم في هذا الوجود إن هي لم تخض غمار الأمومة فالأنثى تتوج أنوثتها بالأمومة وفقاً لما جاء في القصة التي اعتمدت المذهب الرمزي.
حواريات جبران:
وفي الحوارية التي حملت عنوان العالِم والشاعر رأى منصور أن جبران استطاع أن يكون من أول من تطرق إلى الفارق بين مخيلة العالِم والذي عبرت عنه شخصية الأفعى الحكيمة وشخصية الشاعر الذي عبر عنه بشخصية الحسون حيث يتمتع كلاهما بأعظم مخيلة بين فئات البشر لكن العالِم يتوسل خياله فخياله كالعبد بين يديه يجلب له الفرضيات والحقائق بينما خيال الفنان أو الشاعر فهو حُر سيد طليق لاتقيده الخصائص الكيميائية والفيزيائية وغيرها لهذا الوجود وهو قادر على إقامة عوالم فنتازية وانزياحات ومجازات لا حصر لها بما تكتنفه من دهشة وجمال.
وأردف منصور: لم ينقل جبران لنا من خلال نصوصه القصيرة الموعظة والمعارف بقدر ما نقل لنا قلقه البناء إزاء الوجود وقضاياه الكبرى وأسئلة وبقدر ما وضعنا في محطات تأملية تحفز فينا النزوع إلى البحث والتبصر والمعرفة.
ورغم أن جبران شخصية إشكالية تمارس النقد الاجتماعي بأوسع أبوابه إلا أن الثابت عنها حُبها العميق للطبيعة.
واختتمت الندوة بعرض قصائد مترجمة من كتاب النبي لجبران باللغتين العربية والانكليزية مترافقة مع أداء غنائي لها بصوت سيدة الطرب فيروز.
*كاتب سوري