مراحل الجنين
مقدمة:
لقد شهد هذا
العصر نهضة علمية في شتى المجالات, ومن ضمن تلك المجالات ما يتعلق بعلم
الأجنة ومراحل تخلق الإنسان, هذا العلم الذي كانت معلوماته محل تخمينات
عقلية وتصورات ذهنية, حتى ارتقى العلم في القرن الماضي إلى مرحلة الوصف
الدقيق القائم على استخدام الأجهزة الحديثة.
فظهر للعلم
مقدار التخبط الذي كان سائداً في العصور السابقة في مسألة تتعلق بالإنسان
نفسه ومراحل تخلقه, لكننا مع ذلك نرى في كتاب الله تعالى بياناً واضحاً لا
تشوبه أي شائبة في مسالة تخلق الإنسان, وأنه يتقلب في أطوار ومراحل, لا كما
كان سائداً في ذلك الوقت من فكرة الخلق التام وأن الإنسان يخلق خلقاً
تاماً من دم الحيض أو من منوي الرجل أو من بويضة المرأة فقط, يقول الله
تبارك وتعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ [نوح: 14].
ولم يقف القرآن
العظيم عند هذا الحد, بل ذكر كل تلك الأطوار والمراحل التي يمر بها
الإنسان, وأعطى كل طور تسمية خاصة به تصف شكل هذا الطور وأهم التغيرات التي
تحدث فيه, مما يدل على أن هذا القرآن نزل بعلم الله,قال تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الفرقان: 6],ويقول تعالى: ﴿لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾ [النساء: 166].
مقدمة تاريخية في علم الأجنة:
مرّ تاريخ علم الأجنة بثلاث مراحل أساسية هي المرحلة الوصفية ومرحلة علم الأجنة التجريبي ومرحلة التقنية واستخدام الأجهزة.
1- المرحلة الوصفية أو علم الأجنة الوصفي:
تعود إلى أكثر
من ستة قرون قبل الميلاد وتستمر حتى القرن التاسع عشر. وتم خلالها وصف
الملاحظات الخاصة بظاهرة تطور الجنين. وقد وُجدت بعض السجلات المدونة من
فترة السلالات الفرعونية الرابعة والخامسة والسادسة في مصر القديمة حيث كان
الاعتقاد بأن للمشيمة خواص سحرية خفية. أما اليونان القدماء فهم أول من
ربط العلم بالمنطق بفضل تعليلاتهم المنطقية، ولم تُسجَّل منذ عام 200 بعد
الميلاد حتى القرن السادس عشر أية معلومات تذكر عن علم الأجنة. ومما كان
سائداً آنذاك, المفهوم الخاطئ الذي قال به أرسطو طاليس من أن الجنين يتولد
من دم الحيض, وانتقل على مر القرون, وكان علماء المسلمين يرفضون فكرة أن
الجنين يتولد من دم الحيض, مستندين إلى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾ [القيامة: 37] والأحاديث النبوية التي سنورد بعضها في بحثنا هذا.
وأما في القرن
السادس عشر وما بعده فقد مهّدت أبحاث "فيساليوس" و"فابريسيوس" و"هارفي"
لبدء عصر الفحص المجهري، وتم اكتشاف المنوي من طرق العالمين "هام" و"فان
لوفينهوك" عام 1701م. إلا أن اختراع المجهر لم يكن كافياً لبيان تفاصيل
تكوين المنوي حيث اعتقد العلماء بأن الإنسان يكون مخلوقاً خلقاً تاماً في
المنوي في صورة قزم، وبينما كان فريق من العلماء يرى أن الإنسان يُخلَقٌ
خلْقاً تاماً في بيضة، كان فريق آخر يقرر أن الإنسان يُخلق خلقاً تاماً في
المنوي, ولم ينته الجدل بين الفريقين إلا حوالي عام 1775م عندما أثبت
"سبالانزاني" أهمية كل من الحيوان المنوي والبويضة في عملية التخلق البشري.
2- مرحلة علم الأجنة التجريبي:
بدأت هذه
المرحلة في أواخر القرن التاسع عشر حتى الأربعينيات من القرن العشرين حيث
قفزت أبحاث العالم "فون باير" بعلم الأجنة من مرحلة التجارب والمشاهدات إلى
مرحلة صياغة المفاهيم الجنينية، كما طور العالم "روس هاريسون" تقنية زرع
الحبل السري وبدأ "أوتو واربوغ" دراساته عن الآليات الكيميائية للتخلق،
ودرس "فرانك راتري ليلي" طريقة إخصاب المنوي للبويضة، كما درس "هانس سبيما"
آليات التفاعل النسيجي كالذي يحدث خلال التطور الجنيني، ودرس "يوهانس
هولتفرتر" العمليات الحيوية التي تُظهِر بعض الترابط بين خلايا الأنسجة
فيما بينها أو بينها وبين خلايا الأنسجة الأخرى.
3- مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة:
وتمتد هذه
المرحلة من الأربعينيات إلى يومنا هذا، وقد تأثرت تأثراً بالغاً بتطور
الأجهزة الطبية مما كان له التأثير القوي على مسار البحوث العلمية. فلقد
كان اكتشاف المجهر الإلكتروني وآلات التصوير المتطورة وأجهزة قياس الشدة
النسبية لأجزاء الطيف، وكذا ظهور الحاسوب ومجموعة الكشف عن البروتينات
والأحماض النووية، كل هذه كانت عوامل سمحت للعلماء بإجراء تجارب كانت تبدو
قبل سنوات فقط من الأحلام الخيالية حيث تم التوصل إلى فهم ووصف دقيق لمراحل
التخلق الجنيني بفضل كل هذه الأجهزة الحديثة(1).
المعلومات الجنينية في القرآن والسنة:
لقد وصف القرآن
والسنة في القرن السابع الميلادي وبأسلوب رفيع رائع الكثير من هذه
المكتشفات المدهشة التي اكتشفها العلم الحديث بأجهزته وأساليب بحثه, فأوضح
القرآنأن الإنسان يخلق من مزيج من إفرازات الرجل والمرأة, وأن الكائن الحي
الذي ينجم عن الإخصاب يستقر في رحم المرأة على هيئة بذرة, وأن انغراس كيس الجرثومة (النطفة) يشبه فعلاً عملية زرع البذرة. ويتضمن القرآن أيضاً معلومات عن المراحل الأخرى, كمرحلة العلقة والمضغة والهيكل العظمي وكساء العظم بالعضلات. ويشير القرآن والسنة إلى توقيت التخلق الجنسي والجنيني واكتساب المظهر البشري, وهذه النصوص تثير الدهشة إذ أنها تشير إلى أحداث التخلق بترتيبها المتسلسل الصحيح وبوصف واضح دقيق(2).
مرحلة النطفة(3):
يؤكد القرآن الكريم مراحل التخلق البشري في الآيات التالية: ﴿وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12-14].
فقسمت الآيات
مراحل تطور الجنين الإنساني إلى ثلاث مراحل أساسية, وفصلت بين كل منها بحرف
العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي, وهذه المراحل هي:
1- مرحلة النطفة.
2- مرحلة التخليق, وتتألف من أربعة أطوار: العلقة, المضغة, العظام, اللحم.
3- مرحلة النشأة.
والنطفة في لغة العرب تطلق على عدة معان منها: القليل من الماء, والذي يعدل قطرة.(4).
ويشير إلى ذلك
ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مر يهودي برسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يحدث أصحابه, فقالت قريش: حتى جلس ثم قال: يا محمد مم يخلق
الإنسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا يهودي من كلٍ يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة»(5)، وتمر النطفة خلال تكونها بالأطوار التالية:
1- الماء الدافق:
يخرج ماء الرجل متدفقاً, ويشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ﴾ [الطارق: 5-6],
فأسند القرآن التدفق للماء نفسه مما يشير أن للماء قوة تدفق ذاتية, وأثبت
العلم أن من شرط الإخصاب أن تكون منويات الرجل حيوية ومتدفقة ومتحركة, وماء
المرأة يخرج متدفقاً, ولابد أن تكون البويضة حيوية متدفقة متحركة حتى يتم
الإخصاب. وبما أن لفظ نطفة يأتي بمعنى الكمية القليلة من السائل, فإن هذا
المصطلح يغطي ويصف تلك الكميات من السوائل التي تخرج متدفقة لدى كل من
الذكر والأنثى.
2- السلالة:
يأتي لفظ سلالة في اللغة بمعانٍ منها: انتزاع الشيء وإخراجه في رفق(6). ويعني أيضاً: السمكة الطويلة(7).
ويشير القرآن الكريم إلى ذلك كله في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾ [السجدة: 8], والمراد بالماء المهين هنا ماء الرجل (8).
وإذا نظرنا إلى
المنوي فسنجده سلالة تستخلص من ماء الرجل, وعلى شكل السمكة الطويلة,
ويستخرج برفق من الماء المهين. خلال عملية الإخصاب يرحل ماء الرجل من
المهبل ليقابل البويضة في ماء المرأة في قناة البويضات (قناة فالوب) ولا
يصل من ماء الرجل إلا القليل ويخترق حيوان منوي واحد البويضة، ويحدث عقب
ذلك مباشرة تغير سريع في غشائها يمنع دخول بقية المنويات، وبدخول المنوي في
البويضة تتكون النطفة الأمشاج أي البويضة الملقحة (الزيجوت) Zygote, ويشير الحديث النبوي إلى أن الإخصاب لا يحدث من كل ماء الذكر.
يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: «ما من كل الماء يكون الولد»(9) فمن ملايين المنويات لا يلقح البييضة إلا منوي واحد, والوصف النبوي حدد ذلك بدقة.
3- النطفة الأمشاج:
معنى (نطفة أمشاج): أي قطرة مختلطة من مائين, وتعرف علمياً بالزيجوت, ويشير القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [الإنسان: 2].
وكلمة نطفة اسم
مفرد, وكلمة أمشاج صفة في صيغة جمع, وقواعد اللغة العربية تجعل الصفة تابعة
للموصوف في الإفراد والتثنية والجمع, مما جعل المفسرين يقولون: النطفة
مفردة لكنها في معنى الجمع.(10) فكلمة
(أمشاج) من الناحية العلمية دقيقة جداً, وهي صفة جمع تصف كلمة نطفة المفردة
التي هي عبارة عن كائن واحد يتكون من أخلاط متعددة تحمل صفات الأسلاف
والأحفاد لكل جنين.
نتاج تكوين النطفة الأمشاج:
أ- الخلق:
وهو البداية
الحقيقية لوجود الكائن الإنساني, فالمنوي يوجد فيه (23) حاملاً وراثياً,
كما يوجد في البويضة (23) حاملاً وراثياً, فاختلاطهما يشكل خلية بداخلها
(46) حاملاً وراثياً, فتخلق أول خلية إنسانية.
ب- التقدير (البرمجة الجينية):
بعد ساعات من
تخلق أول خلية إنسانية تبدأ عملية التقدير, فتتحدد فيها الصفات التي ستظهر
على الجنين في المستقبل, والصفات التي ستظهر في الأجيال القادمة, وهكذا يتم
تقدير أوصاف الجنين وتحديدها, وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين العمليتين
المتعاقبتين(الخلق والتقدير) في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: 17-19]
ج- تحديد الجنس:
ويتضمن التقدير الذي يحدث في النطفة الأمشاج تحديد الذكورة والأنوثة, وإلى هذا تشير الآية: قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [النجم: 45-46], فإذا كان المنوي الذي نجح في تلقيح البييضة يحمل الكروموسوم (y) كانت النتيجة ذكراً, وإذا كان ذلك المنوي يحمل الكروموسوم(x) كانت النتيجة أنثى.
4- الحرث:
في نهاية مرحلة
النطفة الأمشاج ينغرس كيس الجرثومة في بطانة الرحم بما يشبه انغراس البذرة
في التربة في عملية حرث الأرض, وإلى هذا تشير الآية في قوله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: 223],
وبهذا الانغراس يبدأ طور الحرث, وذلك في اليوم السادس من عمر النطفة, وقد
استخدم القرآن مصطلح (حرث) وهو أكثر مناسبة من مصطلح(انغراس) الذي يستخدمه
علماء الأجنة.وطور الحرث هو آخر طور في مرحلة النطفة, وبنهايته تنتقل
النطفة إلى مرحلة العلقة في اليوم الخامس عشر.
وصف الرحم بأنه: (القرار المكين):
وصف الله تعالى المكان الذي تستقر فيه النطفة بوصفين جامعين معبرين, فقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ [المؤمنون: 13], فكلمة (قرار) في اللغة تعني: استقر واستراح (11),
فهذه الكلمة تشير إلى العلاقة بين الجنين والرحم, فالرحم مكان لاستقرار
الجنين, ومعروف أن من طبيعة الجسم طرد أي جسم خارجي, لكن الرحم يؤوي الجنين
ويغذيه, ويوفر له أسباب الاستقرار. وكلمة (مكين) تعني مثبت بقوة (12),
وهي تشير إلى العلاقة بين الرحم وجسم الأم, فالرحم يقع في وسط الجسم وهو
محاط بالعظام والأربطة والعضلات التي تثبته بقوة في الجسم, فهو موقع مثالي
لتخلق الجنين ونموه. فهذان اللفظان جامعان ومعبران عن كل المعاني السابقة.
مرحلة التخلق البشري:
وتمتد هذه المرحلة من الأسبوع الثالث إلى نهاية الأسبوع الثامن, وتتألف من أربعة أطوار: العلقة والمضغة والعظام واللحم.طور العلقة (13): وردت كلمة علقة في اللغة بالمعاني التالية:
أ- علقة مشتقة من (علق) وهو: الالتصاق والتعلق بشيء ما.
ب- العلقة: دودة في الماء تمتص الدماء, وتعيش في البرك, وتتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها.
ج- العلق: الدم عامة والشديد الحمرة أو الغليظ أو الجامد(14), وتطلق أيضاً على الدم الرطب(15).
وسنلاحظ كيف
تتجلى كل هذه المعاني للعلقة فيما توصل إليه العلم الحديث. فبعد عملية
الحرث تبدأ عملية تعلق الجنين بالمشيمة وذلك حوالي اليوم الخامس عشر, وهذا
يتفق مع المعنى الأول للعلقة وهو (التعلق بالشيء), ويأخذ الجنين في هذا
الطور شكل الدودة, ويبدأ في التغذي من دماء الأم مثلما تفعل الدودة العالقة
إذ تتغذى على دماء الحيوانات, ويحاط الجنين بمائع مخاطي تماماً مثلما تحاط
الدودة بالماء, وهذا يتطابق مع المعنى الثاني من معاني العلقة في اللغة,
وتكون الدماء محبوسة في الأوعية الدموية حتى وإن كان الدم سائلاً, ولا يبدأ
الدم في الدوران حتى نهاية الأسبوع الثالث, وبهذا يأخذ الجنين مظهر الدم
الجامد أو الغليظ مع كونه رطباً, وهذا ينطبق مع المعنى الثالث من معاني
العلقة, فاشتملت كلمة علقة على الملامح الأساسية الخارجية والداخلية لهذا
الطور.
طور المضغة(16):
يكون الجنين في
اليومين 23- 24 في نهاية مرحلة العلقة, ثم يتحول إلى مرحلة المضغة في
اليومين 25- 26, ويكون هذا التحول سريعاً جداً, وتأخذ الفلقات في الظهور
لتصبح معلماً بارزاً لهذا الطور, ويصف القرآن الكريم هذا التحول السريع
للجنين من طور العلقة إلى المضغة باستخدام حرف العطف(ف) الذي يفيد التتابع
السريع للأحداث.
معنى كلمة مضغة: من معاني مضغة في اللغة:
أ - شيء لاكته الأسنان(17).
ب- تقول العرب: مضغ الأمور, وتعني صغارها(18).
ج- ذكر عدد من المفسرين أن المضغة في حجم ما يمكن مضغه(19).
وقد أوضح علم الأجنة الحديث مدى الدقة في التعبير عن هذا الطور بلفظ (مضغة) لعدة أمور:
1- ظهور الفلقات
في هذا الطور يعطي مظهراً يشبه مظهر طبع الأسنان في المادة الممضوغة,
وتبدو وهي تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ
حين لوكها.
2- تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات في مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة, ويشبه ذلك تغير وضع وشكل المادة حينما تلوكها الأسنان.
3- وكما تستدير المادة الممضوغة قبل أن تبلع, فإن ظهر الجنين ينحني ويصبح مقوساً شبه مستدير مثل حرف (C).
4- ويكون طول
الجنين حوالي (1) سم في نهاية هذه المرحلة, وذلك مطابق للوجه الثاني من
معاني كلمة مضغة (وهو الشيء الصغير من المادة) وهذا المعنى ينطبق على حجم
الجنين الصغير؛ لأن جميع أجهزة الإنسان تتخلق في مرحلة المضغة, فيكون أصغر
حجم لإنسان تخلقت جميع أجزائه.
وينطبق المعنى
الثالث الذي ذكره المفسرون للمضغة (في حجم ما يمكن مضغه) على حجم الجنين,
ففي نهاية الطور يكون طول الجنين (1) سم, وهذا تقريباً أصغر حجم لمادة يمكن
أن تلوكها الأسنان. ووجد العلماء أن الفلقات سرعان ما تتمايز إلى خلايا
تتطور إلى أعضاء مختلفة, وبعض هذه الأعضاء والأجهزة تتكون في مرحلة المضغة,
والبعض الآخر في مراحل لاحقة, وإلى هذه المعنى تشير الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة﴾ [الحج: 5].
طور العظام(20):
مع بداية
الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم كله،
فيأخذ الجنين شكل الهيكل العظمي وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا
الطور حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة
الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة، وهذا الهيكل
العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي. ومصطلح العظام الذي أطلقه القرآن
الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة
الحُمَيل تعبيراً دقيقاً يشمل المظهر الخارجي، وهو أهم تغيير في البناء
الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين أجزاء الجسم واستواء في مظهر
الحُمَيل ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله، قال تعالى: ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [المؤمنون: 14].
طور الكساء باللحم(21):
يتميز هذا الطور
بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الكساء بلابسه.وبتمام
كساء العظام بالعضلات تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال، فترتبط أجزاء الجسم
بعلاقات أكثر تناسقاً، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ
بالتحرك.
تبدأ مرحلة كساء
العظام باللحم في نهاية الأسبوع السابع وتستمر إلى نهاية الأسبوع الثامن،
وتأتي عقب طور العظام كما بين ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًاً﴾ [المؤمنون: 14].
ويعتبر هذا
الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق، كما اصطلح
علماء الأجنة على اعتبار نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الحُمَيل (EMB-صلى الله عليه وسلم-YO) ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين (FETUS) التي توافق مرحلة النشأة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14].
مرحلة النشأة(22):
كلمة (نشأة) مشتقة من الفعل (نشأ) ومن معانيها:
1- بدأ(23).
2- نما(24).
3- ارتفع, ربا(25).
يبدأ هذا الطور
بعد مرحلة الكساء باللحم، أي من الأسبوع التاسع، ويستغرق فترة زمنية يدل
عليها استعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم
والنشأة خلقاً آخر، قال تعالى: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾ [المؤمنون: 14].
وإذا كانت فترة
النشأة تبدأ من الأسبوع التاسع, فإن المعاني السابقة للنشأة لا تبدأ في
الوضوح إلا فيما بعد, كما أن نمو الأعضاء يظهر في الأسبوع الحادي عشر,
وتستمر مرحلة النشأة حتى نهاية الحمل, أي الأسبوع الثامن والثلاثين.
وفي خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين الذين جاءا في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: 14] ويمكن بيانهما فيما يلي:
أ- النشأة: ويتضح بجلاء في سرعة معدل النمو من الأسبوع التاسع مقارنة بما قبله من المراحل.
ب- خلقاً آخر: هذا الوصف يتزامن مع الأول ويدل على أن الحُمَيل قد تحول في مرحلة النشأة إلى خلق آخر.
ففي الفترة ما
بين الأسبوعين التاسع والثاني عشر تبدأ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف
في التوازن والاعتدال, وتتخذ ملامح الوجه المقاييس البشرية المألوفة, وهذا
داخل في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 7-8], وتدل الآية على التسوية والتعديل, فالتسوية تكون في طور العظام, وأما التعديل فقد بينته الآية التي تليها: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾.
وفي الأسبوع
الثاني عشر يتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية, وهي آخر
مراحل تحديد الجنس, وقد كانت المرحلة الأولى في النطفة (ويقدر في النطفة
الأمشاج), والمرحلة الثانية وهي تمايز غدتي التناسل على شكل خصيتين أو
مبيضين, وتكون في طور الكساء باللحم, ثم المرحلة الثالثة وهي في الأسبوع
الثاني عشر.
وفي نفس الأسبوع
يتطور بناء الهيكل العظمي من العظام الغضروفية اللينة إلى العظام الكلية
الصلبة، كما تتمايز الأطراف، ويمكن رؤية الأظافر على الأصابع.
يظهر الشعر على الجلد في هذا الطور.
يزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة.
تتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية.
تبدأ الحركات الإرادية في هذا الطور، وتصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها.
وفي هذه المرحلة
يتم نفخ الروح؛ طبقاً لما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة
ويمكن التعرف على نفخ الروح بمشاهدة ظاهرة النوم واليقظة في الجنين التي
تدل نصوص قرآنية ونبوية عديدة على ارتباطها بالروح, يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42] ويقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 60].
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند استيقاظه: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»(26).
وعلى هذا يمكننا
أن نعتبر ظاهرة النوم دليلاً على نفخ الروح في الجنين ودليلاً على وجودها.
وتمتد هذه المرحلة(مرحلة النشأة خلقاً آخر) من الأسبوع التاسع إلى أن يدخل
الجنين مرحلة القابلية للحياة خارج الرحم.
ج- طور القابلية للحياة:
تبدأ تهيئة
الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع الثاني والعشرين وتنتهي في الأسبوع
السادس والعشرين عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلاً للقيام بوظائفه ويصبح
الجهاز العصبي مؤهلاً لضبط حرارة جسم الجنين. وتعادل الأسابيع الستة
والعشرون تقريباً ستة أشهر قمرية، وقد قدّر القرآن الكريم أن مرحلة الحمل
والحضانة تستغرق ثلاثين شهراً فقال تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15] وبين أيضاً أن مدة الحضانة تستغرق عامين في قوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: 14].
وبذلك تكون مدة
الحمل اللازمة ليصبح الجنين قابلاً للحياة هي ستة أشهر قمرية، وقبل الأسبوع
الثاني والعشرين الذي يبدأ منه هذا الطور يخرج سقطاً في معظم الأجنة.
د- طور الحضانة الرحمية:
يدخل الجنين بعد
الشهر السادس فترة حضانة تتم في الرحم، فلا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة
فكلها قد وجدت وأصبحت مؤهلة للعمل، ويقوم الرحم فيها بتوفير الغذاء والبيئة
الملائمة لنمو الجنين وتستمر إلى طور المخاض والولادة.
هـ: طور المخاض أو الولادة:
تنتهي الحضانة الرحمية بولادة الجنين, وقد ورد ذلك في الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ [عبس: 20],
والتي من معانيها تيسير طريق الجنين لتيسر الولادة حيث تبدو قناة الولادة
في وضعها الطبيعي ممراً يصعب مرور الجنين منه, إلا أن عوامل كثيرة تسهل
عملية الولادة, ومن هذه العوامل ما يلي:
1- هرمون ريلاكسين: وهو هرمون يفرزه المبيضان والمشيمة, ويؤدي إلى تراخي أربطة مفاصل الحوض, وتليين عنق الرحم.
1- تقلصات
الرحم: وهي تبدأ في الجزء العلوي من الرحم, الذي يتكون من نسيج العضلات
المتقلصة المتحركة النشطة, الذي يؤمن القوة اللازمة لدفع الوليد خلال الجزء
السفلي الساكن الرقيق من الرحم.
2- أغشية السلى:
وهي عبارة عن كيس الماء الأمنيوني الذي يحيط بالجنين ويسهل انزلاقه. وتبرز
هذه الأغشية الممتلئة بالسائل المخاطي على شكل كيس مائي من خلال عنق الرحم
مع كل تقلص من تقلصاته, وتعمل على تسهيل تمدده.وتؤمن هذه الأغشية ـ بعد أن
تتمزق ـ سطحاً لزجاً ناعماً ينزلق الجنين عليه.
آلية (هندسة) المخاض:
يتغير وضع
الجنين عند مروره عبر تجويف الحوض الذي له شكل غير منتظم, وهذه التغيرات
التي تطرأ على الوضع العكسي, هي على سبيل المثال: النزول، والانثناء،
والدوران الداخلي، والتمدد, واسترجاع الوضع الطبيعي, والدوران الخارجي,
وتساهم العناصر المذكورة آنفاً بسبل شتى في تسهيل مرور الجنين عبر قناة
الولادة وصدق الله القائل: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ [عبس: 20].
الخلاصة:
ومما تقدم يتضح أن كلمة ﴿أَنشَأْنَاهُ﴾ [المؤمنون:14]،
بحسب استعمالها في القرآن الكريم تشمل أوضح التطورات والتغيرات الخارجية
والداخلية في الملامح خلال المرحلة السادسة من التخلق البشري وتنطبق
المعاني الثلاثة لكلمة: (نشأة) بشكل بين ومفهوم على هذه المرحلة:
فما ورد بمعنى
(بدأ) يصف لنا بداية عمل الأعضاء والأجهزة المختلفة حيث نجد أن الكلية قد
بدأت في تكوين البول, وبدأ مخ العظام في تكوين خلال الدم, وتبدأ حويصلات
الشعر في الظهور في الأسبوع العاشر, وما إلى ذلك, وأما معنى: (نما) فإنه
يبين النمو السريع والتطور الشامل في أعضاء وأجهزة الجسم خلال هذه المرحلة,
وأما المعنى: (ارتفع وربا) فإنه يصف تلك الزيادة الواضحة والسريعة جداً في
طول الجنين ووزنه, والتي تبدأ في الأسبوع الثاني عشر. ولذا فإن مصطلح:
(نشأة) ينطبق بصورة دقيقة ومناسبة للغاية في وصف هذه المرحلة من مراحل
الجنين.
خاتمة:
تعتبر المصطلحات
الواردة في القرآن الكريم معبرة بدقة عن التطورات التي تقع في المراحل
المختلفة للتخلق, فهي تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمني, كما تصف
التغيرات التي تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق في كل مرحلة وصفاً دقيقاً.
وما كان في وسع
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف هذه الحقائق عن التخلق البشري في
القرن السابع الميلادي لأن معظمها لم يكتشف إلا في القرن العشرين, ويحق
للمسلمين وغيرهم أن يشهدوا بأن هذه الحقائق أوحيت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الله سبحانه وتعالى الخالق العليم بكل شيء من أطوار خلقنا
وسائر شئوننا المختلفة وكل ما يحيط بنا من عوالم هذا الكون الواسع.
إعداد/ عادل الصعدي
مراجعة: قسطاس إبراهيم النعيمي
علي عمر بلعجم