عن الفنون الجميلة في التقدم والتنمية

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية عن الفنون الجميلة في التقدم والتنمية

عن الفنون الجميلة في التقدم والتنمية

نتقدم بقدر ما نملك من خيال!

يقول هيغل: "لقد وضعت الشعوب في الفن أسمى أفكارها".. ويعبر الإنسان بذلك عن وعيه لذاته وما يحب أن يكون عليه، ويوقظ فينا شعور الجمال، ولكن حس الجمال ليس فطريًّا في الإنسان، ليس فطريًّا كغريزة، أو كشيء معطى له منذ ولادته، كما يمتلك أعضاءه، العين على سبيل المثال، ولكنه حس بحاجة إلى التكوين والتدريب، وما إن يتم تدريبه وتكوينه حتى يطلق عليه اسم الذوق، إنه السعي إلى الكمال في الأشياء والأفكار، وكشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلاً عينيًّا ومشخصًا.
إحدى الشوارع التجارية في طوكيو
إحدى الشوارع التجارية في طوكيو
لست أدعو إلى فنٍّ ملتزم، ولست ضده على أية حال، ولكني أحاول أن أقدم في المساحة المتاحة فكرة عن موقع الفن المفترض في منظومة الموارد وإدارتها وتنظيمها وتجديدها على النحو المنشئ للتقدم المستمر، وولاية المواطنين على مواردهم ومصائرهم وشؤونهم، باعتباره (الفن) حلقة ضرورية وأساسية في تحريك وتفاعل هذه المنظومات على نحو يمكن تبسيطه بالمسار التالي: موارد وتقنية – نظام اقتصادي – نظام سياسي – نظام اجتماعي وثقافي – موارد وتقنية جديدة وإضافية! وهذه الموارد الجديدة والإضافية هي بطبيعة الحال ما يمكن وصفها تقدمًا أو تنمية.
ويبدو أني أيضًا بحاجة إلى القول: إنني أعني هنا بالفن “المحتوى” الذي يحل في أوعية وأدوات إبداعية من الموسيقى والشعر والعمارة والرواية والمسرح والسينما والدراما والقصة والفنون التشكيلية (الرسم والنحت)، وهو (الفن) بذلك يعبر عن المجهود الإنساني للفهم واكتشاف الحقائق، والتعبير الحسي الظاهري عن الروح والمشاعر والعواطف والخيال.
هذا الجمال المؤشر على الكمال، والذي تعبِّر عنه منظومات الثقافة والفنون هو ما يعين الدول والأفراد والمؤسسات والمجتمعات على الارتقاء بالأفكار والحياة والسلع والمنتجات، وبغير هذا الإدراك لا يمكن أن ينشأ تقدم أو إصلاح، ولا أن تتطور أفكار وسلع ومنتجات، ولا أن ترتقي تصوراتنا لحياتنا واحتياجاتنا الأساسية من الطعام واللباس والعمارة، إنها ببساطة أداتنا في معرفة ما نحب، وما يجب أن نكون عليه، والفرق بين الواقع والمطلوب ودليل السعي الدائم نحو ما هو أفضل، ذلك أن ثمة ما هو أفضل دائمًا، ولا يمكن إدراكه بغير “الجمال”.
وهذا ما يطور الحياة السياسية والاجتماعية، ويحمي المنجزات الاقتصادية ويفعلها، ويساعد في إنشاء الموارد وتطويرها، فالثقافة والفنون متطلب ضروري، ومدخل حتمي للتقدم وتحسين حياة الناس، فبغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح لا يمكن الحكم على الأعمال والحياة حكمًا صحيحًا أو كاملاً، لا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم عليه أو يراهم الآخرون، وكذا الطعام والطرق والنقل، وكذا يمكن القول عن تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها وجودتها ومواصفاتها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والانتخابات والتشريعات والقرارات والسياسات، إنها جميعها تتقدم نحو الصواب والتقدم والأفضل بناءً على ما يملك الناس من ذائقة، وبذلك ينظم الناس حياتهم، ويقدرون على اختيار الأفضل والمقارنة.
يقول هيغل: “لقد وضعت الشعوب في الفن أسمى أفكارها”.. ويعبر الإنسان بذلك عن وعيه لذاته وما يحب أن يكون عليه، ويوقظ فينا شعور الجمال، ولكن حس الجمال ليس فطريًّا في الإنسان -يقول هيغل- ليس فطريًّا كغريزة، أو كشيء معطى له منذ ولادته، كما يمتلك أعضاءه، العين على سبيل المثال، ولكنه حس بحاجة إلى التكوين والتدريب، وما إن يتم تدريبه وتكوينه حتى يطلق عليه اسم الذوق، إنه السعي إلى الكمال في الأشياء والأفكار، وكشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلاً عينيًّا ومشخصًا.
فالمجتمعات والأفراد والأعمال والمنجزات والسلع والأفكار والأذواق والخدمات والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيوت والملابس والطرق والأحياء والمدن والأمكنة تتحدد بالقدرة على تصميمها، وإدراك الحالة التي يجب أن تكون عليها، وهي نهاية تقررها القدرة على الرؤية والخيال، أي الجمال، فحياتنا إذن تكون على النحو الذي نتخيله ونراه، وهي في ذلك في تقدمها وتخلفها بمقدار قدرتنا الجمالية.. إننا نتقدم بمقدار ما نملك من خيال.
عازفة موسيقية لآلة الكمان
عازفة موسيقية لآلة الكمان
العمارة والشعر والموسيقى تقيس بدقة كبيرة التقدم والتخلف والنجاح والفشل في المجتمع
يمكن النظر على سبيل المثال إلى العمارة والشعر والموسيقى، وما يمكن أن تمنحنا من فكرة كافية (ربما) لنفهم المضمون والقيم والأفكار التي تحرك المجتمعات وتوجهها. والنظرة العامة من قِبل مواطن مشارك في الحياة العامة إلى حال العمارة والشعر والموسيقى لدينا، يمكن أن تساعد كثيرًا في الفهم والتحليل للتشكلات القائمة اليوم في المجتمعات والأعمال والمدن والأسواق. وهي تؤشر أيضًا على مواطِن كثيرة من الخلل، وربما تساعد في فهم القوة والضعف والعنف الكامن، والجمال والذوق الذي نملكه. فالعمارة والشعر والموسيقى تقيس بدقة كبيرة (وربما تكون أفضل مقياس) التقدم والتخلف والنجاح والفشل، والفرص والتحديات، وما يمكن أن نفعله، وما يجب أن نفعله، وما حققناه وأنجزناه بالفعل! ونلاحظ أيضًا التغير الذي حصل في حياتنا وأفكارنا، من خلال التغير الذي يجري على العمارة والفنون! نحن من خلال هذه الفنون نعبر حسيًّا عما نملكه من مشاعر وتخيلات، وكيف نعي وجودنا، وما تمثل فينا من قيم وأفكار؛ كيف نحب أن تكون حياتنا، وما نحب أن نكون عليه.
وإذا سألنا هذه الأسئلة اليوم عن حال العالم العربي على سبيل المثال منظورًا إليها من العمارة والفنون، فماذا ستكون الإجابة؟ مؤكد أنه لا توجد إجابة واحدة، وربما تكون الإجابات بعدد الناس أنفسهم؛ فكل امرئ عاقل يملك وعيه وتفسيره الخاص به، والمختلف عما سواه.
التواجد الفوضوي للمرافق العامة كالحدائق والمساجد والمدارس والمراكز الصحية (لا يكاد يوجد لدينا في الأردن مكتبات عامة) في المدن والأحياء والبلدات على نحو يبدو واضحًا أنه لم يخطط لاختيار مواقعها وتصميمها وفق علاقة الناس والمقيمين بها واحتياجاتهم وتوقعاتهم من هذه المؤسسات والمرافق، ومن غير ارتباط بحياة الناس وعلاقاتهم وإقاماتهم، ألا يعكس الفوضى والتيه وغياب التفاعل الاجتماعي والثقافي مع المكان وانفصال الحياة اليومية والفردية عن المدينة ومرافقها؟ كأن المدن والبلدات، مدن تائهة، كأننا مجتمع من التائهين!
وهذا الاستخدام المضاد لأهداف القوانين التنظيمية التي وُضعت لأهداف معينة في حياة الناس؛ تحويل الفضاءات الناشئة عن الارتداد إلى امتدادات عمرانية للبيوت وأصحاب الطوابق الأرضية من غير أن يسمح القانون نظريًّا بذلك، وتحويل الشوارع إلى مواقف سيارات وبيوت للعزاء والأفراح وساحة لورش الأعمال، وتحويل الحدائق العامة التي اقتطعت من أراضي المواطنين أنفسهم إلى أسواق تجارية لفئة من المواطنين دون غيرهم، ومرافق ومبان لمؤسسات وفئات من الناس دون غيرهم ولا تربطهم بالمكان نفسه رابطة.. هذا الاعتداء على الفضاء تحول إلى حق مكتسب، أو ممارسة متقبلة ومتواطأ عليها. ويعكس ذلك الفجوة الكبيرة في العلاقات بين الناس بعضهم بعضًا، وعلاقتهم بالفضاء والمرافق العامة، وبين القانون الذي ينظم ويدير هذه العلاقات! فالقانون لا يشكل رابطًا وأساسًا للعلاقة، ومرجعية لتنظيم الاتفاق والاختلاف بين الناس. والناس يديرون علاقاتهم ويؤثرون ببعضهم بعضًا، ويسمعون صوتهم ويطلبون حقوقهم ويؤدون واجباتهم، وفق موازين وقواعد غير قانونية في ظل القانون!
وهكذا يمكن بالنظر والتأمل في المدن ومخططاتها ومرافقها وبيوتها وطرقها وأرصفتها تكوين الملاحظة، بل والقياس بكفاءة مدى حضور القانون والمؤسسات في تنظيم المدن والحياة والسلطة والعلاقات بين المواطنين والدولة والعلاقة بين المواطنين بعضهم بعضًا.
ويمكن بناء استنتاجات واضحة كيف يكون القانون أداة هيمنة وليس رابطًا أساسيًّا للعلاقة بين المواطنين، ويمكن أيضًا الملاحظة كيف يتحول القانون أحيانًا إلى مورد وهيمنة لدى فئة من الناس! ببساطة عندما ترى كيف تخطط المدن والمرافق والأسواق، وتسأل نفسك الأسئلة ببساطة وبداهية كيف ولماذا خططت على هذا النحو؟ ويمكن ببساطة أن تقيس مدى إدراك المواطن للقانون، وما يقتضيه بداهة من حقوق وواجبات، وكيف ومتى يحضر أو يغيب القانون؟

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button