مراجعات في مفهوم “الليبرالية”.. فلسفة الحرية والمساواة

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية مراجعات في مفهوم “الليبرالية”.. فلسفة الحرية والمساواة

مراجعات في مفهوم “الليبرالية”.. فلسفة الحرية والمساواة

عقلية الممانعة!

بصورة عامة يمكن التقرير بأن جميع الأفكار الإنسانية إذا تعرَّضت لتعرية أو تسفيه أو تحطيم لقيمها تنعزل وجدانيًّا؛ ويلي ذلك انهيار لأيِّ مقومات إيجابية كان يمكن أن تكون في صالحها، فكل ما يأتي حديثًا، وغير متوافق مع خيارات وقناعات الناس يواجه بالرفض إلى أن يتم استيعاب محاسنه وصدق مقاصده ونبلها، ليتنقّل العقل بعد ذلك إلى تشريح هذا الفكر الجديد وبيان سوءاته وحسناته، ولكي تبدو الصورة أكثر وضوحًا أستشهد بما قاله السياسي والمفكر الأمريكي "روبرت كينيدي" من أنه ما إن يُعرض موضوع جديد على الناس إلا ووجد 20% منهم يعارضونه لمجرد المعارضة.
بيان استقلال أمريكا عن السيادة البريطانية عام 1776
بيان استقلال أمريكا عن السيادة البريطانية عام 1776
المتأمِّل في حال النظرية الليبرالية يجد أنها اكتسبت معارضة ورفضًا مجتمعيًّا دون النظر في عمق الفكر وطبيعة اتجاهاته، وفي الواقع لا نستطيع إغفال أن هناك سوء تقبُّل للفكر الليبرالي في مجتمعاتنا العربية بشكل عام، والمجتمع المحلي بشكل خاص، وربما يكون ذلك نابعًا من موقف مسبق من هذا الفكر، هو في حقيقته على نسق المعارضة البدهية لتتشكّل كردة فعل للفكر في صورته الكلية، وذلك ببساطة “غير عادل”؛ لأن بناء فكرة مسبقة في مثل هذه المقامات دون شغل عقلي ذاتي، ودون مؤثرات خادشة أو مستميلة يعتبر غير منصف، سواء لليبرالية أو أيّ فكر يعترضه الإنسان خلال حياته، ولذلك فإن الرفض المسبق لا تحمله الليبرالية كمضمون بقدر ما هو محاولة جاهدة لصم الآذان وإغلاق العقول مع سبق الإصرار والترصد؛ مما يجعل الوضع هنا بمثابة جريمة إقصائية في حق الفكر المختلف.

الأفكار المنافسة والحساسية العاطفية

اختلاف الأفكار أمر إنساني صحي وطبيعي، ولذلك فإن مقاومة الفكر الإنساني -ومن بينه الليبرالي- يقوم بها في الغالب من ينتمون لفكر مخالف كلّيًا في الاتجاه والتوجه، ويحمل أيدلوجيات معينة لها أبعادها وأجندتها الخاصة، وترى أنه يعرقلها على الساحة ظهور أي تيار آخر مما يجعل وجود فكر منافس يعصف بجماهيريتهم، ويعيق تنفيذ ما يصبون إليه، وتلك حساسية عاطفية وليست فكرية منشأها العقل؛ لأن العقل يرتكز في نشاطه على التفكير والاختيار بين البدائل وما يتوافق مع الميول والاتجاهات، وهنا نأتي إلى النقطة الجوهرية، وهي الحق في حرية الاختيار والتدبر والنظر الفاحص فيما حولنا، ولكن الآخر المنافس هش إلى الحد الذي لا يقبل بمشروعية التنافس الفكري، رغم أن الأغلبية على ذات القاعدة الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية والدينية.
لم تكن الليبرالية فكرًا معزولاً عن أشواق وطموحات الجماعات والمجتمعات، فالمنشأ قام على سد فراغات في واقع الناس في مرحلة تاريخية مهمة انهارت فيها القيم التي يحتكم إليها الناس في شؤونهم السياسية والحياتية، وعندما ظهر الفكر الليبرالي كان تعبيرًا عن الحاجة إلى قيمتي الحرية والمساواة، وهي أكبر وأعمق الحاجيات البشرية قديمًا وحديثًا، وإلى قيام الساعة، ومع الزمن تطور هذا الفكر ليصبح تعبيرًا عن فلسفة سياسية كونية، وفي هذا السياق أرى أن هذه الحقوق هي استحقاقات طبيعية، وهي المرتكزات التي قامت عليها الديانات السماوية، وأسس قيام مجتمع مدني سليم ومعافى، وبالتالي يمكن القفز مباشرة إلى استخلاص جوهري، وهو أن الليبرالية لم تكن ضد الأخلاق والدِّين، وذلك ما عبّر عنه المفكر الإنجليزي “جون لوك” مؤسس الليبرالية كفكرة مستقلة، وارتكزت فلسفته في المفهوم الليبرالي على أن للفرد حقًّا طبيعيًّا في الحرية والحياة والملكية الخاصة، وذلك يتوافق أيضًا مع اتجاهات ومقررات نظرية العقد الاجتماعي التي وفقًا لها فإنه يتوجَّب على أي حكومة ألا تضطهد أيًّا من هذه الحقوق الطبيعية للفرد، وليس في هذه المبادئ الأخلاقية والإنسانية ما يوجب الرفض وعدم القبول بالتأكيد.

داخل دوامة الصراع

لأن المنشأ الإنساني لليبرالية يسمح لها بأن تتمدّد عبر الزمن فمن الطبيعي أن تشهد كثيرًا من التطورات على الصعيد السياسي أو الاجتماعي والفكري، وعبر خمسة قرون، منذ ظهور هذا الفكر في القرن السادس عشر نتيجة للحروب الدينية في أوروبا، كان ذلك بإيحاء وباعث من الحاجة لوقف تلك الصراعات باعتبار أن رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم، وأن حرية الفرد هي الأصل، وكان ذلك مغريًا لاتباعه في الأنظمة السياسية في الغرب، حيث انتهج قادة الثورة الأميركية والثورة الفرنسية المنهج الليبرالي، ورأوا فيه مبررًا للإطاحة بالحكومات الدكتاتورية، ومع مزيد من الاحتياجات الاجتماعية للحرية والمساواة أنتج القرن التاسع عشر حكومات ليبرالية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وذلك أدّى بدوره إلى ظهور صراع الليبرالية مع القوى الفكرية المحافظة الكلاسيكية.
الليبرالية لا تعني الانحلال الاخلاقي كما يتصورها البعض، أو كما يطبقها مدعو الليبرالية، وهناك مستفيدون من إساءة الفهم في صراعهم مع الليبرالية، وآخرون يحصلون على استفادات رخيصة بتصوير الحريات كمرادف للانحلال الذي يمكن أن يوجد في جميع التيارات
كان من الطبيعي أن يدخل الوافد الجديد دوامة الصراع الذي نستعرضه في هذا السياق لنؤكد أن الليبرالية مبرأة من الأخطاء والتشويهات الفكرية التي لحقت بها، ومع ذلك فإنها في القرن العشرين شهدت انتشارًا واسعًا وارتبطت بالديمقراطية باعتبارها الخيار السياسي لكثير من الحكومات والشعوب، وتبعًا لذلك دخلت مرحلة من الصدامات مع تيارات ترفضها؛ لأنها تعرقل نموها واستقطابها، فكان لها أن تتغير نسبيًّا لتواكب تحديات الواقع الجديد، حتى وصلنا مرحلة الليبرالية الاشتراكية بجانب الديمقراطية، وأخيرًا انتهينا إلى “النيو ليبرالية” وهو تغير محوري طبيعي لم يمس الثوابت الليبرالية، وإنما أسلوب وتقنيات عملها.

سوء تطبيق الفكر الليبرالي

عندما ترتكز الليبرالية على قيمتي الحرية والمساواة، وتعلي من شأنهما في الممارسة الفردية أو الاجتماعية والسياسية، فإنها لا تتعارض أو تتضاد مع قيم إنسانية أخرى، فهذه القيم أخلاقية في المقام الأول، وهي حق الفرد/ الإنسان، تثبتها أدبيات فكرية ومرجعيات وأسس دينية، ولكن الإشكال يبدو في استيعاب أن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد ما دام محدودًا في دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، في الوقت الذي تبدو فيه صارمة خارج ذلك الإطار؛ لأنها في النهاية تستند إلى الضوابط النظامية التي تحكم وتشرّع بأن يتساوى الجميع تحت مظلة قانونية، وذلك ينفي الفوضى في استخدام الحقوق، ومنها الحرية، أي هناك سقف وحدود، وذلك جانب أخلاقي مهم في الفكر الليبرالي الذي يمنح الفرد أيضًا كامل حريته الفكرية والعقدية دون توجيه أو إملاء، فهي بذات القدر الذي تقيّم فيه القيم التي ترعاها تضع قيمة إنسانية وفكرية للفرد؛ ما يجعل شغلها الفلسفي بأكمله متمحورًا حول الفرد وقيمه الأساسية والإنسانية، وفي مقدمتها الحرية والمساواة.
في المجتمعات العربية هناك سوء فهم أو تطبيق للفكر الليبرالي، وإجمالاً ذلك غير قابل للتعميم؛ لأن الليبرالية لا تعني الانحلال الاخلاقي كما يتصورها البعض، أو كما يطبقها مدعو الليبرالية، وهناك مستفيدون من إساءة الفهم في صراعهم مع الليبرالية، وآخرون يحصلون على استفادات رخيصة بتصوير الحريات كمرادف للانحلال الذي يمكن أن يوجد في جميع التيارات حتى المتدينة منها، وما لم تكن هناك حدود لأي حراك أخلاقي فإنه يتحرك تلقائيًّا بصورة بوهيمية غير مبالية، ولم تكن الليبرالية في حقيقتها غير معنية يتحديد الحدود الأخلاقية، ولا يمكن لمن يطلب حريته أن يجعلها مصدر أذى للآخرين، أو أن يتساوى المتزن والمضطرب والمنحل والمتوازن، تلك هي الفوضى نقيض الليبرالية.
الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
استقرت فلسفة جون لوك الليبرالية على أن للفرد حقًّا طبيعيًّا في الحرية والحياة والملكية الخاصة
وفي تقديري أن الإساءة التي تلحق بالفكر الليبرالي إنما تأتي من الخارجين من العباءة الدينية الذين لم يستوعبوها، فأساؤوا إليها؛ لأنهم اعتبروا قيود الدين منغصًا لحياتهم، ولم توفر لهم الغطاء الأخلاقي الكافي والضروري في حياتهم واتجاهاتهم السلوكية، فخرجوا من عباءته إلى فضاء الليبرالية التي اعتقدوا أن الحرية فيها تمنحهم المشروعية في ارتكاب كل ما يتماشى مع انهيارهم الأخلاقي، وإنما هي في واقعها بذات القيود والضوابط والشروط الأخلاقية والفكرية، ولكن فيها يقرر الفرد حاجته من القيم؛ أي أنها تتطلب وعيًا ذاتيًّا وليست نهبًا لكل من أراد أن يكون ليبراليًّا.

الدين والليبرالية الإسلامية

ذلك الخروج من العباءة الدينية مردّه الأساسي لظهور التيارات المتشددة التي تضع العراقيل أمام السماحة الدينية، وحق الفرد في الاختيار وإعمال العقل، فالدين ليس جامدًا، أو لا يعنى بالعقل، ولكن مع ترسيخ هذه المفاهيم ظهر تيار جديد هو تيار “الإسلام الليبرالي” الذي يرى أن الإسلام ينادي بقيم الحرية وحقوق الإنسان والمساواة الليبرالية، وفصل الدين عن الدولة، وغيرها من المبادئ التي توصلت إليها الحضارة الغربية حديثًا، إلا أنه نادى بها من قبل ذلك بزمن بعيد، ومن قلب صحراء لم تعرف معنى الحضارة المدنية، وذلك ينطوي على تحجيم وتحديد دور رجال الدين، والفصل بين آرائهم وحقيقة الإسلام، وذلك يواكب فكرة التجديد الديني، ودراسة النصوص بحسب ما يتطلبه الواقع؛ لأن التجديد من الأمور التي لا يميل إليها المتشددون أو المحافظون، رغم أنه وارد بداهة طالما تتغير العصور والأزمان وحتى البشر ومعطياتهم، وذلك أدعى لتجديد حيوية الدين بإعادة التفسير والاستنباط.
وقد سبق في التاريخ الإسلامي الحديث أن ظهرت حركات دينية على نسق الإسلام التقدمي التي بدأها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وآية الله الشيخ إياد الركابي، وهؤلاء يحسبون على أنهم مؤسسون للفكر الليبرالي الإسلامي، الذي يقوم على الاجتهاد وليس الركون بالضرورة إلى التفسيرات الثقافية والتقليدية لفهم النص، وبالتالي فإننا أمام وجه ليبرالي سيكون له شأنه في ظل الضغط العقائدي الموجود؛ لأن الأمر ببساطة أنه في جميع المذاهب الفكرية يوجد ما يمكن الأخذ منه، وحينما تكون هناك اختلافات أو مظاهر انحطاط فذلك لا يسوغ التعميم السيئ، وبذلك فإن الليبرالية بقيمتي الحرية والمساواة تظل فكرًا ينمو ويتطور ولا يتعطّل بسوء سلوكيات بعض مدعيه، فهو في النهاية فكر أخلاقي وخيار إنساني رشيد.
ولعلّ الأبعاد الإنسانية والدلالات السلوكية القويمة في هذا الفكر كافية للإفصاح عن مستويات رفيعة من تهذيب الحرية وتوظيفها لصالح إطلاق القدرات والفكر والشغل العقلي الذي يصل إلى النهايات والخلاصات والاستنتاجات الموضوعية التي يحتاجها الإنسان في مسيرة حياته، وذلك يتقاطع بشكل ما بين النفسي الوجداني والعقلي، باعتبار أن الحاجة إلى الحرية من الاحتياجات البشرية الأساسية التي يتوقف عليها الأداء الإنساني، وقد قيل فيما يقال من عصارة التجارب: “إذا لم تكن ليبراليًّا وأنت شاب فأنت بلا قلب، وإذا لم تكن محافظًا وأنت كبير فأنت بلا عقل”. ذلك هو الاستخلاص الليبرالي المثير للاهتمام، فأعمال الفرد السلوكية في مبتدأ حياته تحتاج لأن تتنفس حرية ليحدد خياراته وبدائله بصورة ذاتية كاملة، وذلك يميل به كثيرًا في اتجاهات متعددة يحتاج أن يقف عندها، ويتعرف على الصواب والخطأ، حتى يكتسب السمة المحافظة وهو كبير يمتلك الرشد والأفق الواسع والعقل الذي يفيض ليبرالية حقيقية تجعله إضافة إنسانية، وثابتًا على مبادئه وقناعاته لا يتغير منها إلا إلى ما هو أفضل وأكثر نضجًا وكياسة ونبلاً، ذلك طريق ليبرالي لا يسمح اختراقه بعبث فوضوي لا يعي أو يدرك مغزى الحرية وقيمتها الإنسانية العالية.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button