ولا تعثوا في الأرض مفسدين

إعلان الرئيسية


الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد:
فقد تواترت النصوص الشرعية في الكتاب والسُّنة في الحديث عن الفاسدين والمفسدين، وبيان صفاتهم وأماراتهم؛ ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم؛ فيحذروهم ويدركوا العقلية المنحرفة والموازين المضطربة التي يتعامل بها أولئك المفسدون مع غيرهم.
وقد تكاثر هؤلاء المفسدون في عصرنا الحاضر، وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد في كل الميادين، وكان وجودهم من الأسباب الرئيسية لتخلُّف الأمة وتردِّي مكانتِها؛ من أجل ذلك كان من الواجب علينا أن نتدارس صفاتهم بياناً للحقيقة، وإيقاظاً للأمة، وتحذيراً من تغوُّل المفسدين وطغيانهم في البلاد.
ومن أبرز الصفات التي جاء بيانها في القرآن الكريم:
الصفة الأولى: العلو والاستكبار في الأرض:
فالعلو والطغيان والاستكبار في الأرض صفات ملازمة للمفسدين، كما قال – تعالى -: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وبضدها تتبين الأشياء، وكما قال - سبحانه -: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ 10 الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ١١ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر: 10 - 12].
ومن علامات هذا العلو والطغيان: تطاوُل المفسدين على الضعفاء وانتهاكُ كرامتهم والتعدي على حقوقهم، كما قال - جل وعلا -: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ} [القصص: ٤].
الصفة الثانية: زخرفة القول بالباطل:
فالمفسدون يتدثرون بحلاوة اللسان وزخرفة القول بالباطل، ليخدعوا الناس، ويلبِّسوا عليهم بتغيير الحقيقة ونكران الواقع، وادِّعاء الرأفة والرحمة بالخلق {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]. وربما عقدوا الأيمان الكاذبة إمعاناً في التلبيس والكذب. ولقد زادت قدرتهم في الخداع، والتلبيس بتعدُّد وسائل الإعلام المعاصرة التي أسهمت في تزييف الواقع وخداع الرأي العام. قال الله – عز وجل –: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْـخِصَامِ ٤٠٢ وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204 - 205].
والبصير الفطن يدرك حقيقة هذا التلبيس، ولا تنطلي عليه تلك الزخارف والألاعيب المكشوفة، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَـحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
الصفة الثالثة: الصدُّ عن سبيل الله:
فحال المفسدين الذين يزينون للناس الباطل ويصدونهم عن سبيل الحق، كمثل قطَّاع الطرق الذين يعترضون سبيل الناس ويسعون في الأرض فساداً. قال – تعالى – في وصف هؤلاء المفسدين: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86]، وقال فيهـم – جل وعلا -: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: ٨٨].
وطرائق المفسدين في الصدِّ عن سبيل الله - تعالى - تتنوع وتتجدد بتجدد الأماكن والأزمان، ويجمعهم وصف الله لهم في قوله - جل شأنه -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْـحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان: ٦]، وكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»[1].
الصفة الرابعة: الغش والخيانة:
غش الأمة وخيانتها صفة ملازمة للمفسدين في جميع العصور والأمكنة؛ لأنهم لا أمانة لهم؛ ولهذا تراهم يتساقطون في دركات الخيانة وغش الأمة والمجتمع، لتحقيق مصالح شخصية مزعومة، وما أسهل أن يبيع المفسد دينه ويخون أمته! قال الله - تعالى - مبيناً لوناً من ألوان الغش الذي يتميز به المفسدون (وهو الغش الاقتصادي): {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُخْسِرِينَ ١٨١ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْـمُسْتَقِيمِ 182 وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: ١٨١ - 183]، وقال - جل وعلا -: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]. وسياسة الكيل بمكيالين وبخس الناس أشياءهم: سياسة متجذرة في أخلاق المفسدين (السياسية، والفكرية، والثقافية، والاجتماعية).
الصفة الخامسة: إشاعة الفاحشة:
من مخازي المفسدين أنهم يسعون لإشاعة الفاحشة في المجتمع، ويؤسسون مراكز ونوادٍ لنشر المنكر، وإفساد الأخلاق والقيم الاجتماعية بلا حياء ولا خجل، وتأمَّل حال كثير من القنوات الفضائية لترى كيف يلهث أولئك المفسدون لإشاعة الفواحش وتحطيم القيم ومحاربة الفضيلة. قال الله – عز وجل -: {وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ 28 أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْـمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 29 قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْـمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 28 -30].
الصفة السادسة: انقلاب الموازين:
من مخازي المفسدين وسوءاتهم أنهم يقلبون الموازين، ويزيفون الحقائق، ويسمون الأمور بغير مسمياتها؛ ولهذا قال الله – عز وجل – في وصفهم: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ١١ أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١١ - 12]، وهذا من تقليب الأمور الذي جاء بيانه في قوله – تعالى -: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} [التوبة: 48].
وتأمَّل العقلية الفرعونية الطاغية التي تتجدد في كل عصر وتجتهد في قلب الحقائق؛ فقد قال الله - عز وجل - عن أحد الفراعنة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]. ففرعون ها هنا يزعم أنه يحافـظ على دين قومه من تبديل موسى – عليه الصلاة والسلام – أو إظهاره الفساد في الأرض! وهكذا هي سُنة المفسدين في كل عصر، يعترضون طريق المصلحين ويشوِّهون صورتهم، ويزعمون أنهم وحدَهم الدعاة إلى الإصلاح والنهضة في المجتمع، على الرغم من أن مشروعَهم في الحقيقة لا يعدو أن يكون إفساداً للمجتمع وتشويهاً لهويته ومنهاجه.
وبعد: فهذه بعض صفات المفسدين، وعندما نقرأها بعين واعية ونتأمل أخبار المفسدين عبر التاريخ الماضي أو الحاضر، أياً كانت مواقعهم، فسنجد اجتماع المفسدين على التخلُّق بهذه الصفات المذمومة، ليصدُق عليهم قول الله - جل شأنه -: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
لقد سقطت البلاد العربية في مستنقعات الفساد ردحاً طويلاً من الزمن، واستضعف المفسدون شعوبهم، فأسرفوا في التعدي على حرمات الدين وحقوق المجتمع وكرامة الإنسان، وتحوَّل الفساد في كثير من الأحيان من ممارسات شاذة محدودة لبعض الناس إلى مأسسة له وتبنٍّ لنواديه ورعاية لمنابره؛ ولهذا كان واجب المصلحين حقاً أن يواجهوا أولئك السفهاء، ويأخذوا على أيديهم، ويبصِّـروا المجتمـع بمخازيهم، امتثالاً لقول الله - جل وعلا -: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود: 116]، وقوله - سبحانه -: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 152].

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button