بعض الهموم

إعلان الرئيسية

منذ بضعة أيام أتممت عامي الرابع والخمسون  وإذا افترضنا بأن متوسط عمر الإنسان بحدود 60 عاماً، فإن ذلك يعني أنني قد استنفدت تقريباً اكثر من  نصف المدة المحددة لي في هذه الدنيا. الأمر الذي يطرح عدة اسئلة، أهمها: ماذا حققت حتى الآن وماذا خسرت؟
رحم الله الشاعر إذ قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله… وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لازلت أذكر تماماً شعوري بالضياع وعدم الراحة وانا أنظر إلى القمر في تلك الليلة. شعور بالوحدة في مواجهة الواقع. ماذا يمكن أن يكون شعورك إذا فقدت الثقة المطلقة التي كنت قد منحتها لبعض الناس في إدارة شؤون حياتك؟ كنت أشعر بالأمان عندما كنت أتبنى أفكار المسجد الذي التزمت به قبل سفري. عندما كان هنالك من أثق في كلامه وعلمه ثقة عمياء. ولكن عندما ينهار ذلك فجأة ودون سابق إنذار… ينتابك شعور بعدم الراحة.
كيف حصل ذلك؟ لست أدري صراحة، فجأة وأثناء الدراسة   تغير شيء ما. بدأت تلك الهالات بالخفوت إلى أن انطفأت تماماً. ترى الناس يقدسون فلاناً الفيزيائي وفلاناً الرياضي وفلاناً الفقيه، في حين أنك لا ترى فيهم أكثر من بشر عاديين تماماً. ويبدأ إعجاب من نوع آخر بالنمو. إعجاب ليس بسبب تلك الهالة القديمة التي ترفعهم -إلى حد ما- فوق مستوى الناس العاديين. وإنما إعجاب بعملهم وعلمهم نفسه، إذ تصبح قادراً على الاتصال بعلمهم بشكل مباشر، وتمييز الكلام الرصين المبني على أسس متماسكة من الكلام الإنشائي. تقدرهم وتحترمهم، وتدرك حجم المعاناة التي عانوها حتى وصلوا إلى ماهم عليه من معاناتك التي تعيشها يومياً في أوراقك ودفاترك. ومع ذلك يبقى الشعور ببشرية كلامهم، ويبقى الشعور بالفراغ، فراغ تركه ذاك الأمان المفقود.
ويتولد عن ذلك شعور من نوع آخر، هو اعتماد الضعيف على الله تعالى مباشرةً. فالهداية الآن ليست أن تتبع منهج العالم فلان أو الشيخ فلان، وإنما أن تبحث عن الحقيقة بنفسك. هنالك فرق كبير بين الأمان الناشئ عن الاعتقاد بحقيقة ما يقوله فلان، وبين القلق المرافق للاعتماد المباشر على الله تعالى في إيجاد الحقيقة والالتزام بها. وتبدأ تقرأ القرآن، ولكن هذه المرة بعيونك أنت وبتصوراتك أنت. وتتيح لك هذه الحالة أن تفهم مالم تفهمه من قبل.
وتترك فيك الغربة شرخاً من نوع آخر. من السهل عندما نعيش في مكان واحد أن نتبنى فكراً واحداً ومحدداً، وأن نعتقد بأن الآخرين على ضلال وخطأ. من السهل أن نضع مقاييس محددة للتدين ونقيس الناس على اساسها، وأن نقول وفقاً لمقاييسك تلك: هذه متدين وهذا ضال. ولكن الانتقال إلى بيئة مختلفة كفيل بأن يهز اعتقاداتك تلك بعنف. لا تنس أنك قد فقدت ذاك الإيمان بقدسية كلام شيخ محدد. وخرجت من ذاك الوعاء لتنظر بنفسك إلى أفكار الآخرين، وبدأت ترى تعدد الأفكار والمشارب والطرق ضمن الإسلام نفسه. خصوصاً في بيئة توجد فيها التيارات الإسلامية بمختلف أنواعها.
طبعاً 54 سنة من حياتي قضيتها في بيئة محددة لها أثر لا يمكن إزالته، فقلبي ينبض بتوجهات معينة، وعاداتي وأذواقي بنيت -في أغلبها- في تلك السنين. ومع ذلك فقد تغيرت كثيراً، حتى أصبحت كالمعلق في الهواء، لا أنتمي إلى أي بقعة محددة فكرياً، وتعريفاتي للتدين ومقاييسي قد اختلفت كثيراً. أشق عباب بحر الإسلام الكبير، ولا أرضى أن ترسو سفينتي عند أي راية لمجرد أن صاحبها دو توجه معين

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button