بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته "فى وقت
الراحة .. يدخل الكثير من الناس تحت راية الدعوات، ولكن عند الابتلاء
والجهاد والفتنة، فيتم غربلة العباد، فيظهر المعدن النظيف الأصيل من
المعادن المزيفة".
أولا : البلايا والفتن تميز المعدن الحقيقى من الزائف :
تعالوا بنا لنبين نموذج لهذه الغربلة فى قصة من قصص القرآن الكريم، لكن
قبل الحديث عن هذه القصة دعونا نوضح نموذجا من واقعنا كفلاحين: "عندما
نقوم بإحضار القمح من الأرض، ثم نقوم بدراسته، ونشونه فى الجرن، وكل من يمر
على هذه الشونة يقول هذا قمح فلان، رغم أنه عبارة عن قمح وتبن وسفوح
وحجارة وقصلة وزغلف"، وعندما نريد أن نستخرج منه القمح، قوم بتدريته على
عدة مراحل المرحلة الأولى، يخرج منها التبن، ثم فى المرحلة الثانية الأصلة
والزغلف، ثم نستخرج القمح، ثم ننتقل إلى البيت لتنقيته، ثم نقوم بطحنه فى
المطحنة، ثم بعض الطحين يتم غربلة هذا القمح لفصل السن عن القمح، ثم يتم
غربلته مرة أخرى لاستخراج الدقيق الأبيض". ونجد فى النهاية أن الكومة الضخمة من القمح بعد غربلتها قد انفضت إلى كمية صغيرة من الدقيق، ولذلك سمى دقيقا لدقته.
ثانيا : من نماذج الغربلة والتمحيص فى القرآن :
والأمة المسلمة متعرضة لهذا على مر العصور ومع جميع الأنبياء: فهذا نموذج فى سورة البقرة من بنى إسرائيل: ]أَلَمْ
تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ
تُقَاتِلُوا قَالُواوَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِوَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَاوَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْوَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ[()جاء الملأ من بنى إسرائيل إلى نبى من أنبيائهم، ورفعوا الراية العريضة ]ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله[ أى عين علينا قائدا لنقاتل فى سبيل الله، وهذه لافتة عريضة وقت البحبوحة وأوقات الرخاء تحتها أصناف كثيرة من البشر. وهذا
النبى من أنبياء بنى إسرائيل يدرك طبيعة هذه الأمة، ويدرك أن هناك أيضا
قواسم مشتركة بينها وبين الأمم المختلفة حتى يوم القيامة، ولكنه يركز مع
هؤلاء فيقول ]هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا[، فأجابوا بالنفى ]وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِوَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَاوَأَبْنَائِنَا[، وجاء الأمر بالقتال، وبدأت عملية الغربلة والنخالة، وكانت أول غربلة ]فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ[ فبقى القليل. وهذا القليل الذى بقى، قال لهم نبيهم ]إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً[()،
فجاء قليل من القليل فقالوا ]قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَاوَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُوَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ[، فاعترضوا، فأخبرهم نبيهم أن هذا الاختيار اختيار ربانى ولا دخل لأحد فيه ]قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْوَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِوَالْجِسْمِوَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُوَاللَّهُوَاسِعٌ عَلِيمٌ[، أى أخبرهم بأن هذا الاختيار، إختيارا ربانيا، وكانت مقاييسهم مقاييس جاهلية. فبقى قليل القليل، وذهبت كثرة من القليل. فقليل
القليل الذى بقى، سار مع طالوت، فأراد طالوت أن يغربلهم ويختبرهم، وعندما
اشتد بهم العطش فى الطريق، قابلهم نهر عذب، فقال لهم ] إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّيوَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً[، وهذه هى الغربلة الثالثة. وسار قليل القليل القليل، حتى واجه العدو، ]وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَوَجُنُودِهِ[، أى رأى الناس عظمة جيش جالوت، نطقت طائفة منهم وقالت ]قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَوَجُنُودِهِ[
وجاءت الصفوة، جاء أهل الثبات، جاء أهل الحق، جاء الذين ينجحون فى
الاختبار والامتحان والابتلاء، فقال الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم؛ أى
الذين يتأكدون من لقاء الله: ماذا قالو؟، قالوا: ]كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِوَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[، وهذا كلام طيب وكلام جميل يدل على أنهم رزقوا الفهم، والفهم بالنسبة للدعاة ركن ركين بالنسبة للثبات على الحق ونجاح العمل. ثالثا: معية الله دائما مع البقية الناجية من الغربلة : وتقرأ بروية حديثهم ]كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[،
فئة قليلة تثبت يطلع الله عليها، فيرى فى حالها الثبات، ويرى فى قلبها
الإخلاص، فيعطيها النصر بفضله، يرى فيها الصبر ، يرى فيها الثبات ]وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[. معية الله عز وجل تنطلق مع الفئة المؤمنة ولو كانت قليلا من قليل من قليل. ولو
جاء هذا الاختبار، وهذه الغربلة، وأثمرت هذه الطائفة الصابرة المؤمنة
فكانت فى ثباتها وفى يقينها وفى فكرها وفى فهمها عنوانا طيبا للعمل والثبات
عليه. ]كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [، إذا فصفات هذه الفئة إنها ثابتة. وصفات هذه الفئة إنها صابرة. صفات هذه الفئة أنها رسخت اليقين فى قلوبها بنصر الله سبحانه وتعالى. وحينئذ
يبرزون لعدوهم، ويجئ اللقاء، فيرفعون أكف الضراعة يعلمون الفئة المؤمنة
التى اصطفاها الله فى كل عصر من العصور وهى تقابل عدوها فى ميدان أو مواجهة
]وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَوَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراًوَثَبِّتْ أَقْدَامَنَاوَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ[،
كلام ينم عن الفهم كما قلت، ودعاء يحمل معنى الذل والحاجة والافتقار
والانكسار لله تبارك وتعالى، يطلبون من ربهم أن يفرغ عليهم الصبر، وأن يثبت
الأقدام، وأن ينصرهم على القوم الكافرين. فتكون النتيجة أن ينصرهم الله سبحانه وتعالى: ]فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِوَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَوَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَوَالْحِكْمَةَوَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[. ترى معاشر الأخوة الأعزاء.. حينما نقول: نحن نريد أن نقوم لله سبحانه وتعالى، ستجد كثيرا من الناس ينضوون تحت هذا الإعلان. لكن
حينما تجئ المواجهة، فنسأل الله سبحانه أن نثبت على الحق وأن يكون لدينا
اليقين فى نصر الله سبحانه وتعالى مهما علا الباطل، ومهما زمجر، ومهما
انتفخت أوداجه وقويت عضلاته، فهو إلى زوال. وسريعا ما تجئ ريح الحق فتذهب بهذا الباطل إلى غير رجعة. اللهم
كما استجبت لعبادك المؤمنين مع قائدهم طالوت، استجب لنا فأفرغ علينا صبرا
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين وهبنا منك النصرة والتأييد وهبنا
منك المعية والعاملين فى سبيل الله جل وعلى وصلى اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين