الفلسفة()
وفروعها
الفلسفة لغة: تعني (محبة الحكمة)()، وتعنى
بالمعنى العام لها النظرة الشاملة الى الكون او الوجود، وبهذا المعنى العام يمكن
القول ان لكل عصر فلسفة خاصة.
والفلسفة، كما نعلم ليست مجرد نظرة خاصة، بل هي خلاصة
للخبرة الانسانية في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري، لذا فتأريخ الفلسفة العام
هو تأريخ الفكر البشري في نشأته، ونموه، وتطوره، ومعرفة العوامل التي رافقته وتركت
فيه طابعا خاصا دائرا بينا, وفي اعتقادي ان لتاريخ الفلسفة اتصالا وثيقا بالتاريخ
العام، انه يقتضي دراسة حياة الفلاسفة، والبيئة التي نشاوا فيها، والتيارات
الفكرية السائدة في عصرهم، واثرها في انتاجهم الفلسفي.
اذن لا يمكن ان ننكر الفلسفة مادامت هناك انظمة وادلة
قدمها الفلاسفة انفسهم لاثبات آرائهم ونظرياتهم الفلسفية اذ اننا نسمع كثيرا
بالفلسفة اليونانية او الفلسفة المشائية()، او الفلسفة الافلاطونية
المحدثة، وتقرأ فلسفة القدماء امثال: (طاليس)، و(فيثلاغورس)، (هرقليطس)،
و(افلاطون)، و(ارسطو)، و(افلوطين)، و(الكندي)، و(ابن سينا) ... الخ().
وهناك مدارس كثيرة نشات في فترات عديدة لا يسعنا ذكرها في هذا البحث().
اما الفلسفة اصطلاحا: فقد ذهب الفلاسفة انفسهم، في
تحديدها، مذاهب متعددة، منها:
·تعريف سقراط: هي البحث العقلي عن حقائق الاشياء، لمعرفة
السبيل الى الخير، وانها تبحث عن الكائنات الطبيعية وجمالها ونظامها ومبادئها
وعلتها الاولى().
·تعريف افلاطون: هي البحث عن حقائق الاشياء او الموجودات
ونظامها الجميل لمعرفة المبدع الاول، ولها شرف الرئاسة على جميع العلوم.
·تعريف الكندي: الفلسفة هي علم الاشياء بحقائقها، وهذه
الحقائق كلية لان الفلسفة لا تطلب معرفة الجزئيات لانها غير متناهية، واللامتناهية
لا يحيط به العلم، والفلسفة من حيث كذا شرف على جميع العلوم الانسانية، ولكن الشرف
الاعلى بين تعريف علوم الفلسفة للفلسفة الاولى().
·تعريف الفارابي: الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي
موجودة.
·تعريف ابن سينا: الحكمة استكمال النفس الانسانية بتصور
الامور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الانسانية.
·تعريف ابن رشد(): الفلسفة هي النظر في
الموجودات من جهة دلالتها على الصانع.
·تعريف اخوان الصفا(): الفلسفة اولها محبة
العلوم، واوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة البشرية، وآخرها القول والعمل
بما يوافق العلم.
·تعريف ديكارت(): الفلسفة هي العلم العام
لجميع العلوم، وهي معرفة الكائن الجديد بالكينونة.
·تعريف هيجل(): الفلسفة معرفة الحقائق
الثابتة.
الفلسفة تبحث عن العالم في مسائل عديدة منها: الوحدة،
والكثرة، والانسان، وتعاريف الفلسفة على كثرتها واختلافها تكاد تتفق في شيء واحد،
هو نتيجتها العلمية، فبنعمة الفلسفة يتصف الانسان بالحكمة التي لولاها لانهارت كل
القيم الانسانية وزال الفرق بين الخير والشر والسعادة والشقاء.
2. موضوع الفلسفة:
آ. موضوع الفلسفة عند سقراط: الصلة والرابطة الكلية
بين الاشياء.
ب. موضوع الفلسفة عند
افلاطون: جواهر الاشياء، وبعبارة اخرى هو الكائن الحقيقي من كل شيء.
ج. موضوع الفلسفة عند
الفارابي: الموجودات بما هي موجودة.
د. موضوع الفلسفة عند (كانت)(): هو الاله الذي هو اساس كل
كائن ومبدأ كل حقيقة والانسان هو اشرف الكائنات الارضية.
هـ. موضوع الفلسفة عند جون
لوك(): الحوادث التجريبية.
وهذا يعني ان موضوع
الفلسفة هو جميع الموجودات المندرجة تحت مطلق الوجود، وهي البحث عن النظام
والقوانين العامة السارية في الوجود، وجعل الكون هدفا للبحث من قبل الانسان
المفكر، بعد اتخاذه دليلا يهديه في ظلمات البحث او سلما يعرج عليه في سماء
التفكير، ويرتقي به الى ما يحاول الوصول اليه، لان الفلسفة والفكرة الصحيحة اختان
او توأمان، لا تفترق احدهما عن الاخرى.
علاقة الفلسفة بالدين()
الدين ينهض على الدليل النقلي والدليل العقلي، ومعيار
الصدق عند الفيلسوف يستند الى اساس عدم التناقض ويقوم في مجمله على المبادئ
الاساسية للمنطق العقلي، ولهذا كانت منهجية الفلاسفة تبدأ بالمنطقيات، ومن ثم
الطبيعيات والالهيات. اما في مجال الدين فان الايمان المطلق يصدق الوحي،
والتصديق بالرسالات السماوية القديمة ورسالة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) هو المسوغ لذلك، وكذلك ان
الفيلسوف يتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. اما الدين فيحل هذه
المشكلة عادة بافتراض مصدرين للمعرفة هما: الايمان والعقل().
ولكن هل تستعين الفلسفة بالدين في حل مشكلاتها؟
الفلسفة تستعين بالدين في دعم الاراء الالهية والاخلاقية
والطبيعية لكي تكون افكارها اكثر يقينية عن الكون والعلاقة بين عالم الشهادة وعالم
الغيب، والمثال على ذلك اثبات واجب الوجود (الله جل شأنه): ان قلت ما وجب وجوده فهو
موجود بالضرورة فلا حاجة الى اثباته، قلت: ليس المراد من اثبات
الواجب ان يوضع الواجب، ويحمل عليه الوجود بان يقال: الواجب موجود، بل بيان ان
بعض الموجود واجب، وهو ليس بضروري، بل وبذلك التقدير انما يلزم كون الوجود ضروريا
للواجب لو كان الاشارة به الى الثابت في نفس الامر، اما اذا كان المراد ما فرض
كونه واجب الوجود فلا، وبالجملة ان المقصود بيان ان لهذا المفهوم الذهني المحتمل
لوجود ما يطابقه في الخارج فردا واقعيا ثابتا في الخارج مطابقا اما في الذهن، لا كالمفهومات الفرضية، واذا كان كذلك
فلا ريب ان مجرد تصور المفهوم غير مستلزم بكونه ذا حقيقة في الخارج فاحتاج الى
الاثبات ... هذا المفهوم الفلسفي يعتمد على اساس ايماني لاثبات البارئ (جل شأنه)، وكذلك فعل الفقيه في
علم الفقه او الاصول().
حاول جميع فلاسفتنا التوفيق بين الفلسفة والدين، وذلك
لاعتقادهم ان الفلسفة والدين يساند كل منهما الاخر، في كل المسائل الجوهرية، وان
بدا بينهما تعارض، فانه ليس تعارضا حقيقيا، وانما نشأ نتيجة لضعف الادراك الذهني
لفهم الدين والفلسفة. وهذه المشكلة بحثت من قبل الكندي، والفارابي، وابن رشد،
وابن طفيل غيرهم().
الكندي حاول التوفيق بين الفلسفة والدين في رسالته
الاولى المعنونة الى المعتصم بالله في الفلسفة الاولى، ابعد الكندي الاتهام الموجه
الى الفلسفة والمشتغلين بها، وبيان الحاجة لها، والموضوعات الاساسية التي
تتناولها، فقال: ((تعد صناعة الفلسفة التي تعرف بانها علم الاشياء بحقائقها بقدر طاقة
الانسان، من اعلى الصناعات الانسانية منزلة واسماها مرتبة، وسبب ذلك ان غرض
الفيلسوف في علمه اصابة الحق، وفي علمه العمل بالحق))().
اذا كان الفيلسوف يسعى نظريا الى اصابة الحق، ويسعى من
جهة العمل، ان يعمل بالحق الذي يدركه بالنظر، فانه لا يستطيع واحدا من المهاجمين
ان يطعن الاشتغال بعلوم الحكمة، طالما ان الغرض نظريا والغرض علميا من الاغراض
الحقة المشروعة.
والفيلسوف غرضه بالتأكيد اصابة الحق، لان علة وجود عمله
هو الحق، والحق يتمثل بالفلسفة الاولى او الالهيات وهي اشرف العلوم عنده وعند
الفلاسفة.
وهذا بلا شك يؤدي الى مشروعية الفلسفة والاشتغال بها، اذ
ان موضوع الالهيات الذي يخوض فيه الفلاسفة يتقارب مع الموضوعات الايمانية التي
يخوض فيها الفقهاء.
ولهذا السبب طلب من الفقهاء دراسة الفلسفة وفهمها لكي
يكشفوا عن مهاجمتهم لها وعلى المشتغلين بها، يقول: ان هؤلاء الذين يتجنبون
البحث عن حقائق الفلسفة، يجب عليهم ان يبحثوا
فيها()؛ لان في علم الموجودات بحقائقها علم الربوبية وعلم
الوحدانية وعلم الفضيلة وجملة علم كل نافع والسبيل اليه والبعد عن كل ضار
والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الذي اتت به الرسل الصادقة عن الله (جل شأنه) فان الرسل الصادقة صلوات
الله عليهم انما اتت بالاقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده
وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وايثارها().
هذا هو دفاع (الكندي) عن الفلسفة وضرورة الاشتغال
بها، وفي النص بيان ان الدين ليس على خلاف مع الفلسفة.
ومن الفلاسفة المسلمين الذين بحثوا هذه المشكلة بعد (الكندي) ابو نصر الفارابي، الذي
تناولها في معظم كتبه()، بثلاث مسائل هي:
·مسألة النبوة والوصي.
·مسألة الخلق.
·مسألة الأديان السماوية().
وهذا يعني بالنسبة للفارابي وضع هذه المسائل في الرؤية العامة للعالم
لاظهار الانسجام الضروري او التوفيق بينهما وبين جميع علوم الالهيات في فلسفته،
وهو بهذا يمهد الى طائفة من الاجوبة التي اجاب بها الفلاسفة المتأخرون واخص منهم
بالذكر (ابن سينا)، وابن رشد، وهو احيانا يذهب في تمهيده باستمرار يؤدي
الى ما في اجوبتهم، في حين انه يختلف في اسلوبه عما وجد في اجوبتهم، وستكون
العلاقات بين الفلسفة والدين طوال عصور متعاقبة احدى المسائل الكبرى للفكر
الاسلامي() والكلمة الاخيرة في هذا الموضوع على يدي فيلسوف قرطبة (ابن رشد) عند طرح الاسئلة الاتية: هل النظر في الفلسفة
وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ ام محظور؟ ام مأمور به. اما على جهة الندب، واما
على جهة الوجوب()، فكانت اجابة (ابن رشد) اوضح دليل على التوفيق
بين الفلسفة والدين.
يقول ابن رشد: ان كان فعل الفلسفة ليس شيئا اكثر من النظر في الموجودات
في الوجود، من جهة دلالتها على الصانع، اعني من جهة ما هي مصنوعات، فان الموجودات
انما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وانه كلما كانت المعرفة بصنعتها اتم كانت
المعرفة بالصانع اتم، والشرع قد ندب الى ذلك او اوجب العمل به، اما انه قد دعا الى
اعتبار الموجودات بالعقل فذلك ظاهر في آيات كثيرة كما في قوله تعالى: ﭽﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﭼ ()، وهذا حث ظاهر، وفي قوله
تعالى: ﭽ ﯡ ﯢ ﯣﭼ()، وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، او العقلي والشرعي معا.
فالنظر والاعتبار لا يكونان الا بالقياس العقلي،
اذ ان ((الاعتبار ليس شيئا اكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا
هو القياس في عرف الفقهاء، فواجب اذن ان نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي، ومن
ثم فالنظر الفلسفي واجب، واذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعالى: ﭽ ﯡ ﯢ ﯣﭼ وجوب فيه القياس الفقهي، فحري به ان يستنبط من ذلك
العارف بالله وجوب فيه القياس العقلي))().
ثم هل الحكمة في الاية الا الفلسفة؟
لا يحق لقائل ان يقول ان النظر بالقياس العقلي بدعة
اذ لم يكن في الصدر الاول من الاسلام، فان النظر بالقياس الفقهي لم يكن في اول الاسلام،
ولم يقل احد فيه انه بدعة، زاد على ذلك ان اكثر اصحاب هذه الملة مثبتون القياس العقلي
الا طائفة من الحشوية قليلة، وهو محجوبون بالنصوص.
ولما تبين ان العقيدة او الشرع قد شجع المرء على
الاخذ بالقياس العقلي ويوجبه، وان الاخذ به من الضرورات التي لا مفر منها، كان من الواجب
على المفكر ان يدرس قوانين القياس والبرهان، وينصرف الى تعلم المنطق، والى دراسة الفلسفة،
يقول ابن رشد: ((فاذا تقرر انه يجب بالشرع النظر في القياس العقلي، وانواعه، كما يجب
النظر في القياس الفقهي، فبين انه ان كان لم يتقدم احد ممن قبلنا يفحص عن القياس العقلي
وانواعه، انه يجب علينا ان نبتدئ بالفحص عنه، وان نستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم))().
وبين انه يجب ان نستعين بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء أكان ذلك الضير مشاركا لنا
ام غير مشارك في الملة، فان الآلة التي تصبح بها التزكية لا تعتبر في صحة التزكية بها
كونها آلة لمشارك لنا في الملة او غير مشارك، اذا كان فيها شروط الصحة، واعني بغير
المشارك: من نظر في هذه الاشياء من القدماء قبل ملة الاسلام().
وهكذا اراد (ابن رشد) ان يثبت ان الشرع او الدين
يطلب النظر العقلي، وان النظر العقلي هو الفلسفة، ولا يحق لنا رفض تراث من سبقنا من
الامم، ما دام التراث موافقا للحث، يقول ابن رشد: ((واذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا
الفينا لمن تقدم من الامم السالفة نظرا في الموجودات، واعتبار لها، بحسب ما اقتضته
شرائط البرهان، ان ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما اثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا
للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير مواقف نبهنا عليه، وحذرنا
منه وعذرناهم، فقد تبين من هذا ان النظر في كتب القدماء واجب بالشرع ان كان مغزاهم
في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وان من نهى عن النظر فيها من كان
اهلا للنظر فيها، وهو الذي جمع امرين: احدهما: ذكاء الفطرة، وثانيهما: العدالة الشرعية،
والفضيلة والخلقية، فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس الى معرفة الله،
وهو باب النظر المؤدي الى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى))().
والشرع في فلسفة ابن رشد ما هو متمم للعقل؛ لذا اكد
في فلسفته معنين للشرع هما: باطن وظاهر، وهما
في حقيقة فلسفته معنى واحد، ان خالفه الظاهر رد اليه بالتأويل، والا بقي على حاله من
غير تأويل، ومعنى التأويل: هو اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية،
من غير ان يخل بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه او بسببه او لاحقه
او مقارنة، او غير ذلك من الاشياء التي عددت في تعريف اصناف المجاز، واذا كان الفقيه
يفعل هذا في كثير من الاحكام الشرعية، فكم بالحري ان يفعل ذلك صاحب علم البرهان؟ فان الفقيه انما عنده قياس ظني، والعرف عنده قياس
يقيني، ونحن نقطع قطعا ان كل ما أدى اليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، ان ذلك الظاهر
يقبل التأويل. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما اعظم ازدياد
اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجبه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول،
بل نقول: انه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما ادى اليه البرهان الا اذا
اعتبر وتفحصت سائر اجزائه، وجد في الفاظه الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، او يقارب
ان يشهد، ولهذا المعنى اجمع المسلمون على انه لا يجب ان نحمل الفاظ الشرع كلها على
ظاهرها، ولا ان تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المؤول، فالاشعرية، مثلا يتأولون آية الاستواء، وهي قوله تعالى: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ()، وحديث النزول ومعناه ينزل
الله كل ليلة الى سماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فاعطيه؟ هل من داع فاستجيب له؟ هل
من مستغفر فاغفر له؟ والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره.
والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف
نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه، هو تنبيه
الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما والى هذا المعنى وردت الاشارة بقوله تعالى:
ﭽ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ().
وبهذا الشأن قدم ابن رشد برهانا تأريخيا على صحة
قوله بان التصريح بالتأويل يجب ان لا يتعدى الراسخون في العلم، ويرى ان الراسخين الاولين
اخذوا الشريعة دون تأويل فيها، فساروا على طريق الفضيلة الكاملة والتقوى، ومن اتوا
بعدهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم وكثر اختلافهم وتفرقوا فرقا، ونتيجة ذلك اخذت
الفرق الاسلامية تخطئ بعضها بعضا().
ويقول ابن رشد مسوغا ذلك: وقد يدل على ان الاجماع
لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني، كما يتقرر في العمليات انه لا يمكن ان يتقرر الاجماع
في مسألة ما في عصرنا، الا بان يكون ذلك العصر عندنا محصورا، وان يكون جميع العلماء
الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، اعنى معلومة اشخاصهم، ومبلغ عددهم، وان ينقل
الينا في المسألة مذهب كل واحد منهم فيها نقل تواتر، ويكون مع هذا كله قد صح عندنا
العلماء الموجودين في ذلك الزمان متفقون على انه ليس في الشرع ظاهر وباطن، وان العلم
بكل مسألة يجب ان لا يكتم عن احد، وان الناس طريقهم واحد في علم الشريعة، وهذا امر
مرفوض بشهادة الفيلسوف الغزالي.
ومن ثم فالفلاسفة اعتمدوا على التأويل، ولاسيما ان
قسما من قادة الاسلام في عهد مبكر من الدعوة قد نقل عنهم انهم كانوا يرون للشرع ظاهرا
وباطنا، وانه لا يجب ان يعلم بالباطن من ليس من اهل العلم به ولا يقدر على فهمه، مثل
ما روى عن البخاري عن علي (عليه السلام)، انه قال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون
ان يكذب الله ورسوله؟().
وقال ابن رشد بعرض امهات المسائل التي اختلف فيها
المتكلمون والفلاسفة من خلال محاججته للامام الغزالي، وابرز الموضوعات هي: العلم الالهي()،
والعالم بين القدم والحدوث()، وقضية المعاد().
ويختم كلامه في هذا الموضوع بقوله: ((فان الاذية
من الصديق هي اشد من الاذية من العدو، اعني ان الحكمة هي صاحبة الشريعة والاخت الرضيعة
ممن ينسب اليها اشد الاذية، مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما
المصطحبتان بالطبع، والمتحابتان بالجوهر والغريزة، وقد آذاها ايضا كثير من الاصدقاء
الجهال، ممن ينسبون انفسهم اليها وهي الفرق الموجودة فيها))().
ولكن الحقيقة يجب ان تقال لا يمكننا ان نثبت في مثل
هذه المسائل لانها ظلت مشكلة في موضوعها، ومختلفة احيانا في الطريقة والاجوبة ومتساوية
احيانا اخرى. وما هدفنا في هذا البحث الا التعرف على جانب من الجوانب الخاصة بتراث
فلاسفتنا المسلمين لاننا مهما تعمقنا فيه لا نجد الا تيارين؛ تيار منحاز الى الجانب
الديني على حساب الفلسفة، وتيار آخر نجده منحازا الى الجانب الفلسفي على حساب جانب
الدين.
فروع
الفلسفة
·المنطق.
·الفلسفة
الطبيعية (العلم الطبيعي).
·الميتافيزيقيا
(ما بعد الطبيعة).
·الاخلاق.
·نظرية
المعرفة.
·علم
الجمال، واليك تعاريف كل منها:
·المنطق: هو العلم الذي يبحث
عن الشروط العامة للتفكير الصحيح()، لقد ظهر في
المنطق الحديث تسميات كثيرة ابرزها:
·المنطق الاستدلالي: ان
يدرس الذهن معنى الكليات وينتقل الى معرفة الجزئيات، ويعنى بالقضايا البرهانية،
الرياضيات والمسائل العقلية في الفقه والاصول والبلاغة والنحو، اي يقدم طريقة في
البحث العلمي تساعد في الابنية النظرية لهذه العلوم وبناء الحجج والتعريفات
والمقاييس (الاقيسة المنطقية).
· المنطق الاستقرائي: ان
يدرس الذهن عدة جزئيات فيستنبط منها حكما عاما، ويعنى في المسائل الطبيعية، ويضع
لها منهجا في البحث العلمي او ما يسمى بمنطق البحث العلمي، ويعتمد في تلك العملية
على المراحل الاتية:
·الملاحظة (رصد
الظاهرة او الظواهر الطبيعية).
·تصنيف الظواهر على اساس كمي او كيفي.
·الفرضية.
·التجربة.
ج.
المنطق الصوري: وهو
الذي يؤكد اهمية الشكل من دون المحتوى في عرض القضايا والاستدلالات والبراهين.
د.
المنطق الرياضي:
تومئ تسميته بعلاقة وثيقة بالرياضيات من حيث كونه جذرا مهما في المفاهيم والمبادئ،
ومن حيث استعانته بالطريقة الرياضية في عرض مادته على هيأة بديهية().
هـ.
المنطق الرمزي:
تشير تسميته الى حقيقة اخرى هي:
ان المنطق الحديث يهتم بالبنية من جهة،
وان التعبير عن البنية انما يتم باستخدام الطريقة الرمزية باعتبارها افضل طريقة في
التعبير الدقيق من جهة اخرى().
فباستخدام الرموز والصيغ بدل الكلمات والقضايا
يكون المنطق قد تخلص من غموض لغة الحياة اليومية ليقيم بدلا منها لغة اصطناعية
دقيقة.
الفلسفة الطبيعية (العلم
الطبيعي): العلم او الفلسفة التي تدرس الطبيعة وموجوداتها،
اي تتطرق الى دراسة الاجسام الطبيعية، التي يتألف من جملتها هذا العالم، وبما ان
الاجسام الطبيعية متغيرة ولا تبقى على حال واحدة، بل هي متحركة، والحركة تحدث في
زمان ومكان، وتشمل دراسة العلم الطبيعي عالم الكون والفساد والسماء والعالم،
والنفس، كل هذه الموضوعات بالامكان دراستها في الفلسفة الطبيعية او العلم الطبيعي().
الميتافيزيقا او (علم
ما بعد الطبيعة): الميتافيزيقيا، كلمة يونانية مؤلفة من مقطعين هما: (ميتا) و
(فيزيقا)، وتعني ما وراء
الطبيعة، والميتافيزيقا هي ذلك الجزء من الفلسفة الذي يدعي اعظم الادعاءات ويتعرض
لاعظم الشكوك. وان شئت فقل ان هذا العلم يحاول ان يقف على معرفة
الواحد المطلق والمحرك لهذا العالم، ويتوق الى ان يخترق هذا العماء ليحس بنبضه.
علم ما بعد الطبيعة هو علم واجب الوجود، علم يبحث
عن البراهين والادلة لاثبات الباري جل شأنه.
وارسطو عرفها: دراسة
الوجود بما هو موجود، علما بان ارسطو لم يستخدم كلمة الميتافيزيقا، بل استخدام
كلمة (الفلسفة الاولى)،
ولكن (اندرينوس) الذي
جمع مؤلفات ارسطو هو الذي اطلق اسم الميتافيزيقا(). وسوف نقوم في كل
فصل بذكر مسائل هذا العلم ان شاء الله تعالى.
الاخلاق: ويبحث في قيمة (الخير) فيحاول
ان يساعدنا على توجيه سلوكنا، بتحديده، لمعنى الخير ومعنى الشر، وتمييزه لمعايير
الفضيلة والرذيلة وشرحه لمفاهيم (الضمير) و(الواجب) والسعادة
...الخ.
المعرفة: الابستومولوجيا
كلمة اغريقية Episteme وتساوي العلم او المعرفة، وتقوم في معالجة ما يأتي:
·ما طبيعة المعرفة بصفة
عامة، بغض النظر عن الحقيقة المعروفة؟
· ما هو المصدر الذي يستقي
منه الانسان معرفته؟
هل في مستطاع الانسان ان يتناول بمعرفته كل شيء
يغير تحديد ام ان لفهمه حدودا؟
وقد نشأت بسبب المشكلة
الاولى مدارس مختلفة، واجوبة متباينة:
المدرسة الحسية: وتعتبر الصور الحسية
المدركة للحواس هي المعرفة الحقيقية، وانقسمت الى شطرين: حسية ساذجة، وحسية نقدية
او واقعية نقدية.
المدرسة النقدية (الانتزاعية): واكدت ان الصور الحسية
الادراك الحسي لابد منه لان الحواس عبارة عن نوافذ تطل منها على العالم الخارجي،
ولكن العقل ينزع تلك الصور بما يلائم الواقع الحقيقي والموضوعي مستخدما المقارنة
والتمييز والنقد، وهو الصنف الموضوعي والحقيقي الذي ينسجم وطاقات الانسان وواقعه.
المدرسة العقلية: رفضت المعرفة الحسية كلية
واكدت ان العقل فقط هو المدرك للحقيقة.
المدرسة الصوفية: وترفض المعرفتين الحسية
والعقلية لانها تشك في الصور الحسية، وتشك في المعارف العقلية لان العقل يبني
مقدماته على تلك الصور اليقينية، وبذلك تنادي بان المعرفة انما تتم بنور يقذفه
الله في القلب فتكشف العوالم، وفي ذلك من الطرق يجعلنا نرفض العلوم العقلية
والطبيعية ويجعل الافراد كل يمثل وحدة مستقلة عن الاخرى، وهما: فكرا واتجاها، مرفوضان.
علم الجمال: هي ترجمة حرفية لما نسميه
(Peles of duty)، ومن الافضل ان نستعمل كلمة (استطيقا) لانها اكثر شيوعا في هذا
الحقل، وعلم الجمال يبحث العناصر الجمالية والذوق الجمالي وعن اللذة والالم، ويعنى
بوضع معيار للتمييز بين الجمال والقبح وهل ان الجمال حسي ام عقلي، موضوعي ام ذاتي،
وما هي شروط موافقات الاشياء الجمالية().
وفلسفة القرن العشرين تمثل هذا الجانب او الاتجاه الجديد الى جانب
الاتجاهات الجديدة الاخرى(). وباسلوب اخر مادامت الفلسفة هي البحث عن وجود الشيء،
والوقوف على علله ومبادئه ومرتبته من الوجود والى ذلك يؤول ما يدور على السنة
الفلاسفة القدماء والمحدثين من التعاريف المختلفة، وباعث كل ما يدور في ذهن
الانسان المتفلسف هي حاجة العلوم الطبيعية والرياضة، الى العلم، لان لموضوعاتها
وجودا خارجيا، قبل البحث عن العوارض التي تعرض تلك الموضوعات ام لا؟ دور يتأتى
للباحث اثبات الوجود لتلك الموضوعات الا في فن اخر غير تلك العلوم. اي ان العلوم التجريبية
التي يعدها الانسان دعائم حياته انما تبحث عن عوارض واحكام تعرض لموضوعات معينة،
فالعالم الرياضي يبحث عن احكام المقدار وقس على ذلك سائر العلوم.
والذي يهم الباحث في ابحاثه واتجاهاته العلمية هي هذه العلوم هو الحكم
ببركة البرهان او التجربة، ان هذه الموضوعات تعرضها هذه الاحكام وانها تتصف بهذه
المحمولات ام لا واما هذه الموضوعات التي تعرضها تلك الاحكام، وتحمل عليها هذه
المحمولات، فهل لها وجود حقيقي او هي امور فرضية وهمية؟ فلا تقدر العلوم على حل
تلك العقدة، بل هو خارج عن نطاقها، ولابد ان يلتمس من فن اخر.
والعالم الطبيعي يبحث عن عوارض الاجسام، والرياضي عن احكامها، ودور الفلسفة
يثبت وجود الجسم الطبيعي، ويحلل مقدار المتصل والمنفصل بالتعريف والتحليل؛ اي هناك
عاملان يدعو كل واحد منهما بحياله الى الغور والتحقيق عن وجود الاشياء وعدمها
والبحث عن عللها ومرتبة وجودها.
احدهما: الطموح الانساني الذي يجره الى البحث وتقصي الحقائق لكشف وجودها وايضاح
عللها ومبادئها وانها من الموجودات الموجودة في الوجود.
ثانيهما: توقف الاستنتاج من العلوم الدارجة على العلم بوجود موضوعاتها، والعلم الذي
يتم من خلاله سد جميع الفجوات ويقنع الانسان هو الفلسفة التي تبحث عن جوهر الاشياء
وتبرهن على وجودها وتعين مرتبتها من الوجود، على طريق خاص من غير ان تختص ابحاثها
من دون شيء، او بموضوع من دون موضوع().
ولهذا قال الحكماء: ان الفلسفة الرياضة التامة على عامة العلوم لان البحث عن
خواص الشيء جزما والاستنتاج منه على وجه القطع والبت فرع الوقوف على ان له وجودا
حقيقيا.
آ.
الفلسفة اليونانية ما قبل سقراط
لاشك في إن الفلسفة الإسلامية مصادر كثيرة،
منها ما هو هندي أو سرياني، والذي في هذا البحث هو المصدر اليوناني:
الفلسفة اليونانية تنقسم على قسمين: القسم
الاول ما يسمى بالفلسفة اليونانية ما قبل سقراط، اما القسم الثاني فيسمى (الفلسفة
اليونانية ما بعد سقراط). لذلك سوف نشير الى بعض من الافكار الفلسفية لكي يطلع
الطالب على قسم من هذه الفلسفة القديمة الساذجة التي يتبين من خلالها التفكير
الاولي والنظرة البسيطة للكون والانسان()، نبدأ بالقسم الاول المتمثل
في الافكار الفلسفية الساذجة التي جاء بها اصحاب مدرسة (ملطيا)().
·طاليس:
مؤسس (ملطيا) هو الفيلسوف والمهندس، أنبأ بالكسوف الذي وقع سنة (585 ق. م)، ويروي
(هيرودت) انه حاول تعديل مجرى نهر (ثاليس) او (هاليس) الذي كان يستخدم في الاغراض العسكرية
ويصفه (افلاطون) في الفنون الصناعية().
كان حكيما من ذوي الاهتمامات الكثيرة التي
تضمنت اكتشافاته الرياضية والفلكية التي بولغ في تقديرها فيما بعد بعض الشيء، مثل:
طرائق القياس كقياس الاهرام مثلا، وجمع سجلا بالنجوم لكي يستخدم في الملاحة،
والاغلب انه زار مصر، وفي تنبئه بالكسوف لابد ان يكون قد وصل كذلك الى مدونات
البابليين عن الأجرام السماوية.
اصل الكون في فلسفة طاليس:
لنتأمل الان في
نظرة طاليس الى الكون المحسوس الذي كانت بلاد اليونان تقع في شبه مركزه، اننا نرى
هذا الرجل بادئ الامر يقيس كل اتجاهات الوجود بالنسبة الى الماء، الذي اعتبره
ينبوع حياته، واعتقد ان الارض المستوية تطفو على الماء الذي كانت قد نشأت عنه،
وكان هنا يأخذ في الاغلب بالقول الشائع في اساطير الشرق الادنى وبخاصة في الاساطير
المصرية().
ويبدو ان طاليس قد
قال: ((ان الاشياء كلها مملوءة بالحياة، اي انها مملوءة
بـ (الروح او الحركة)،
ومبدأ الحياة الذي بسبب سعته وقوته لابد من ان يكون الهيا، وحتى الحجر المغناطيسي
وهو الساكن في الظاهر متحرك لانه حي)).
ويجب ان نشير هنا
الى ان طاليس يتكلم على (الماء) لان عن (الالهة
– الماء) وهذا فيما ارى نابع من التفكير الساذج عنده، ولكن
من الواضح على الاقل ان نعتبر (طاليس) بتخليه عن القول
بالمادي جاء نتيجة التشخيص والملاحظة وتكرارها، نحاول ان نفسر العالم كله تفسير
ماديا حسيا.
والشخصية الاولى
التي طرحت السؤال الصحيح ما اصل الوجود؟ او ممن تظهر الاشياء، او ما اصلها؟ يستحق
ان نعتبر منشئ للفلسفة اليونانية او فيلسوفها الاول().
·انكسمندريس حوالي (610 – 546 ق.
م):
احد تلاميذ طاليس،
مذهبه الفلسفي: ان الاشياء مكونة من عنصر واحد، ولكن هذا العنصر
ليس هو (الماء) كما ظن طاليس، ولا
يمكن ان يكون هذا المبدأ المديم لكل الظواهر المحدودة محدودا، فاساس الوجود برمته
لابد من ان يختلف عن عناصر الوجود، وان يكون محتويا لكل العوامل التي تكون ذلك
الوجود.
وهذا العنصر يشمل
في الوقت نفسه كل تباين وتقابل وميزه، فدعا (انكسمندريس) هذا
الاصل بكلمة (اللامحدود) او
(اللامتناهي)()، وله في ذلك عبارة مهمة تستوقف النظر: ((ان الاشياء تعود فترتد الى العنصر الذي فيه نشأت، كما جرى بذلك الفناء،
لانها تعوض بعضها بعضا، لما وقع منها من اجحاف، كما يفضي بذلك امر الزمان))().
وقد روى (ثيوقراطستس) ان
(اكسيمندريس) يقول: ((ان السبب المادي والعنصر الاول في الاشياء هو اللامحدود ... وهو يقول انه ليس بالماء ولا هو احد العناصر، بل مادة تباينها جميعا لا
يحدها حد، نشأت منها السماوات وما فيها من عوالم))().
ويروي عنه (ارسطو) انه
قال: ((ان هذه العناصر المعروفة لنا يعارض بعضها بعضا،
فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، وعلى ذلك فلو كان احد هذه العناصر لا
نهائيا، لزالت العناصر الباقية قبل اليوم))().
ومع ذلك فان
اكسيمندريس، كطاليس، يصف الكون بالفاظ خاصة به كقوله: ((تتأرجح الارض طليقة لا يربطها بمكانها شيء، وهي تبقى حيث هي لانها على
بعد متساو من كل شيء)) والاجرام السماوية ما هي الا ((دواليب
نار))().
انكسمنيس:
ثالث فلاسفة مدرسة (ملطيا)،
عاد الى فكرة (طاليس) التي تجعل عنصرا
محددا من العناصر التي منها يتألف العالم، تجعله مادة اصلية يصدر عنها كل شيء لكنه
راى ان هذه المادة هي (الهواء) وقال: ((ان الجوهر الاول واحد لانهائي ولكنه محدد الطيف، انه الهواء نشأت الالهة
وكل ما هو الهي وتفرعت باقي الاشياء))، ويقول فرنكفورت: ((وهنا الجدة العجيبة في نظرة كل منهما، فالبرغم من ان كل الاشياء ملأى
بالالهة، يحاول هؤلاء فهم التماسك والترابط بين الاشياء، وعندما يفسر انكسمينس
الهواء بانه السبب الاول، كما ان الروح، هي هواء، تحافظ على التماسك فينا ... ((والهواء هو المحرك لكل الموجودات ... ويختلف هذا العنصر في المواد المختلفة بموجب كثافته او رقته ..)) ويقول: ((عندما يخفف الهواء ليرق يصبح نارا، في حين لن
الرياح هواء مكثف، وتتكون السحب من الهواء بتلبيده، وهذه اذا ما كثفت تكثيفا اشد
اصبحت ماء، والماء اذا زيد في تكثيفه تحول الى تراب، واذا تكثف اشد ما في وسعه ان
يكثف تحول الى صخور واجسام صلبة))().
نعم اتفق مع طاليس
باختياره مادة لاصل الكون، وكذلك مبدأ الطبيعة ومصدرا لكل ما يشاهد في الكون من
موجودات حية او ظواهر طبيعية، ولقد اختار الهواء لانه لا يحتاج لحامل، والنزعة
الحيوية التي اعتبر من خلالها ان الكون بكامله كائن حي يتنفس بالهواء ويتحرك
بالهواء().
هذا فيما يخص
المدرسة المادية الاحادية النظرة، اما فيما يخص الملاحظات التي يمكن ان يشار اليها
فهي:
·ان الجدل الفلسفي الذي استندت عليه شخصيات هذه
المدرسة جدل فلسفي نابع من التماسك المنطقي، ومتجاهل كما يمثل الاتجاه الاسطوري
القديم.
·تمثل هذه النوع الانساني الفطري، لتعليل الظواهر
الكونية المتكثرة بمبدأ واحد، وعلى اساس علمي اولي يعتمد على الملاحظة والتجربة.
·ان اراء طاليس وانكسمندريس يمثل بحق التماسك
العميق بين المقدمات والنتائج.
فيثاغورس:
ولد في ساموس، وهو
فيلسوف يوناني تألق نجمه حوالي (530
ق. م) غادر
ساموس هاربا من طغيان (بولكراتس) واقام
في كروتون بجنوبي ايطاليا حيث كان له لفترة نفوذ سياسي كبير، اذ اسس هناك جمعية من
المريدين، توزع نشاطها في اتجاهين:
ديني وعلمي، لكن اهل المدينة انقلبوا عليه
في نهاية الامر، حتى ارتحل يلبث بعدئذ ان اصبح شخصية اسطورية تنسب اليه المعجزات
والقوة السحرية، لكنه كان كذلك مؤسس مدرسة من الرياضيين.
افكار فيثاغورس الفلسفية:
يعتقد فيثاغورس ان
الروح خالد او انها تتحول الى ضروب اخرى من الكائنات الحية ثم يعتقد ان كل ما يظهر
في الوجود يعود فيولد في دورة معلومة، فلا شيء جديد كل الجدة، وان كل ما يولد وفيه
دبيب الحياة، ينبغي ان ننظر اليه جميعا نظرتنا الى ابناء الاسرة الواحدة().
وفيثاغورس نظر الى
الكون بمنظار خفي يجب ان يسيطر على جميع الظواهر برمتها، وهذا المنظار يجب ان يكون
كما، فاعتقد ان معرفة الجوهريات هي معرفة الاعداد، وحاول ان يكتشف بها النسبة في
عالم الوجود، ونقطة انطلاقه كانت كذلك الاكتشاف الرياضي الذي حققه عندما كان يقيس
الاطوال على وتر القيثارة بين الامكنة التي تصدر عنها النغمات الرئيسة الاربع في
السلم الاغريقي، وجد ان بينها نسبة 6:8:12، وهذه النسبة
الهارمونية تشمل المثمن الموسيقي (12:6)
والمخمس (12:8)، والمربع (8:6)، وهذا الاكتشاف يبدو منذ النظرة الاولى، اكتشافا
مدهشا، لانه يربط بين الهارمونيات الموسيقية التي تنتمي الى عالم الروح بقدر ما
تنتمي الى عالم الادراك الحسي، بتجريد دقيق كتجريد النسب العددية، وقد بدا ((للفيثاغوريين
انه من المعقول ان يتوقعوا اكتشاف روابط مماثلة في المجلات الاخرى، وبعشقهم
الاغريقي لملاحقة الفكرة حتى منتهاها الحتمي، قالوا ان هناك نسبا رياضية معينة
تفسر كل ناحية من نواحي الواقع))().
وفيثاغورس اذن
اعتقد مثل خلفائه في انه ليس الموسيقى تتكون عدديا او رياضيا وانما العالم كله هو
على نحو ما عددي ومركب من الاعداد.
لست ربوت