بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين. أما بعد:
كثيرة هي
النعم التي أسبغها الله تعالى على عباده في حياتهم الدنيا، قال تعالى: {وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } (لقمان : من الآية20). ومن هذه
النّعم النّعم المعنوية كالهداية الى الإسلام، ويدخل في ضمنها نعمة الأمن
والطمأنينة والسكينة والحياة الطيبة والصحة والذكاء واستغلال الفرص والأوقات…. ومن النعم الأخرى النعم المادية، كالمال والولد
والملبس والمركب والعيش الهنيء؛ وكل نعمة يتنعم بها الإنسان في دنياه ويطيب بها
عيشه ويهنأ بها باله…
هذه النعم وغيرها تدوم للإنسان بدوام شكر
خالقها وواهبها، بجعلها في طاعته سبحانه وتعالى، لا في معصيته وكفرانها وبطرها،
لأن النعم في هذه الحالة ستزول وينقلب الى الضد تماما، حيث تتحول الحياة من الحالة
الجميلة الحسنة الى الحالة القبيحة والسيئة، حيث يبتلى المتنعّمون بالجوع والخوف؛
أو بتخريب الديار، أو بهلاك الزروع والثمار، أو جميعها معا، وهذا التغيير يرتبط
بقانون إلهي، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}(الرعد: من الآية11).
وفي هذا البحث الموجز سنبين دور هذا القانون
الإلهي في تغيير حالة الأمم والأفراد من الحالة السعيدة الى الحالة التعيسة،
بالاعتماد على ما ورد في القرآن الكريم من آيات تبين عقوبة المتنعمين البطرين في
الدنيا، ثم سنبين أيضا كيف أن الله تعالى يديم هذه النعم ويزيدها، وفق قانون إلهي
آخر وهو: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}
(إبراهيم: من الآية7).
وفي الختام نرجو من الله تعالى أن يجعلنا من
عباده الشاكرين لأنعمه، والمخلصين لعبادته، والجاعلين نِعمه في طاعته. والسعيدين
في الدنيا والآخرة. آمين والحمد لله رب العالمين.
(1)
معنى النعمة:
جاء في
لسان العرب: النعمة: الخفض-أي خفض العيش-والدعة والمال، والتنعّم: الترفّه.
والنعمة: هي المسرة والفرح والترفه، وفلان واسع النعمة أي واسع المال. ونعمة
العيش: حُسنه ونضارته(1).
وجاء في
المعجم الوسيط: النعمة: الرفاهة وطيب العيش، يقال هو في نعمة عيش: في حُسنه
وغضارته. النعمة: ما أنعمتم به من رزق ومال وغيره. ونعم: نضر وطاب ورَفه، ويقال:
نعُم عيشه وباله-هدأ واستراح وستر واستمتع(2).
(2)
الخلاصة في معنى النعمة:
إنها
تعني كل ما يتمتع به الإنسان ويطيب به عيشه، ويهنأ به باله، وما يصلح به حاله
ويسعد به في يومه وحياته ويدخل في مفهوم النعمة الأشياء المعنوية كالهداية الى
الإسلام والصحة والذكاء واستغلال الوقت بالطاعات والعبادات، وقد جاء في الحديث:
(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)(3).
كما تشمل النعمة الأشياء المادية كالمال والولد والسكن ولين العيش وخفضه.
(3)
المؤمن يتقرب الى الله بنعمه والكافر يعصي الله:
أنعم الله سبحانه على عباده
الكثير من النعم التي لا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا
تُحْصُوهَا} (إبراهيم: من الآية34). فالمؤمن يقابل هذه النعم بالشكر ويجعلها في
طاعة الله عز وجل، ويعلم أنه سوف يحاسب عليها يوم القيامة، قال تعالى:
{لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(التكاثر: من الآية8).
أما الكافر يقابل نِعم الله عليه بالبطر
والطغيان، والخوض في المعاصي ولا يعلم بأن ذلك استدراج من الله تعالى، جاء في
الحديث النبوي الشريف: ( إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه فأعلم أن ذلك
استدراج)(4).
(4)
صفات المتنعّمين:
أ-
البطر:
ويعني
بطر النعمة الطغيان عند النهمة وعدم القيام بشكرها(5).
وفي مفردات الراغب: وكفر النعمة أو كفرانها: يعني سترها بترك شكرها(6). وفي المعجم الوسيط، بطر: نشط وغلا في
المرح والزهو، وبطر النعمة استخفها فكفرها(7).
ب-
نكران النعمة وجحودها:
قال
تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(النحل: من الآية71). وقال:
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (النحل: من الآية83). قيل:
يعرفون نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقيل: نعم الله… ثم ينكرونها(8).
وأن هؤلاء المشركين يجحدون أي يكفرون بإشراكهم
غير الله من خلقه في سلطانه(9).
والخلاصة أن الله تعالى يرزقهم الطيبات ثم يجعلونها في عبادة غيره جلّ وعلا.
جـ - الإسراف والبذخ:
وكل ذلك في المعاصي، فتراهم عن الخيرات
يمسكون، وفي المعاصي والذنوب يتهالكون، وقد بين الله تعالى أن أصحاب الترف والدعة
وأرباب التنعيم وغضارة العيش ولين الجانب، المنغمسون في الخطايا، سيكونون من أصحاب
الجحيم، لأن ترفهم في الدنيا جعلهم يكذبون ما أنزل الله تعالى، فصرفوا نعَم الله
عليهم في المعاصي والذنوب حتى جاوزوا الحد في الإسراف والتكذيب. قال تعالى:
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (الواقعة:45)،
وقال: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ} (الدخان:27)، أي أنهم كانوا: ناعمين متفكهين، منعمين متبعين
أهواء أنفسهم(10).
د-
التكبر والفرح:
قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى
الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ }(فصلت: من الآية51)، أي إذا أنعم الله
على عبد من عباده، تراه يعرض عن الخير والصلاح ويبتعد عن شكر الله تعالى الذي وهبه
هذه النعم، ويغتر بقوته وعلمه حتى ينكر بأن الله هو الذي أعطاه تلك النعم، ولا
يدري بأن هذا اختبار ليُرى ما ذا يصنع بها، أو يقول مخاطبا الآخرين أن الله فضّلني
وكرّمني عليكم، بهذه النعم الذي وهبني إياه. فتراه يتكبّر ويسعى في الأرض فسادا؛
ويفرح لتكبره ولفسقه وفساده، ويفرح فرح غرور، لا فرح سرور؛ كالذي يتذوق حلاوة
العبادة، وطعم السعادة؛ بكل تقرب ورجوع الى الله تعالى.
قال تعالى مخبرا عن حال قارون: {إِذْ قَالَ
لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: من
الآية76)، فكان جوابه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(القصص:
من الآية78).
هـ - الجزع عند المصيبة:
أرباب
التنعيم تراهم في الدنيا يتنعّمون؛ هذا بماله وهذا بولده وذلك بصحته وقوته، أو
بمنصبه وسلطته، إن بتجارته وخبرته، كل يتنعم بنعم الله الوافرة، وهم ناسين بأن
الله مبتليهم بهذه النعم، وهذه الأعمال، فتراهم
عند
الضيق والشدة داعين راجي مبتهلين الى الله تعالى، وهم الذين كانوا من قبل لاهين،
لاعبي، عاصي. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}(فصلت:
من الآية51)، وقال مخبرا عن هذا الصنف من الناس: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:16)، أي أذلّني
بالفقر، ولم يشكر الله عز وجل على ما وهب له من سلامة جوارحه(11)….
(5) إمهال الله تعالى لأولي النعمة:
قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ
أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} (المزمل:11)، أي ودعني والمكذبين
المترفين، أصحاب الأموال فإني أكفيك أمرهم وأجازيهم بما هم له أهل، وتمهل عليهم
قليلا حتى يبلغ الكتاب اجله وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم(12).
وفي معنى قوله تعالى (أولي النعمة)، احتمالات
منها:
أحدها:
أنه قال تعريفاً لهم أن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة.
الثاني:
أنه قال ذلك تعليلاً، أي الذين أطغى هم أولوا النعمة.
الثالث:
أنه قال توبيخا أنهم كذبوا ولم يشكروا مَن أولاهم النعمة(13).
ويحتمل
أيضا أن يذيقهم الله تعالى العذاب في الدنيا، أو يؤخره الى يوم القيامة، أو
العذابين معا في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد.
(6) متى تدوم النعمة:
أولا: بالشكر:
قال
تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ }(إبراهيم: من الآية7) ،أي:
آذن واعلم إعلاما بليغا (لئن شكرتم)
أيّ نعمة
بصرفها الى ما خُلقت كالعقل الى تصحيح الاعتقاد. واستعمال سائر النّعم بمقتضاه،
لأزيدنّكم من النعم(14).
وقيل أن في هذه الآية تأويلات منها:
أحدها:
لئن شكرتم إنعامي، لأزيدنكم من فضلي.
الثاني:
لئن شكرتم نعمتي، لأزيدنكم من طاعتي.
الثالث:
لئن وحدتم وأطعتم، لأزيدنكم.
الرابع:
لئن آمنتم لأزيدنكم من نعيم الآخرة الى نعيم الدنيا، حكي أن داود (عليه السلام)،
قال: أي ربّ كيف أشكرك وشكري لك نعمة مجددة منك عليّ؟ قال: (يا داود الآن شكرتني).
وسئل بعض الصلحاء على شكر الله تعالى، فقال: (أن لا تتقوى بنعمه على معاصيه)(15).
والخلاصة
أن مَن شكر الله على رزقه وسّع عليه في رزقه، ومن شكره على ما أقدره عليه من
طاعته، زاد في طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة، زاده الله الى نحو ذلك من
النعم… أخرج البخاري في تاريخه عن انس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(مَن ألهمَ خمسة لم يحرم خمسة… ومنها مَن ألهمَ الشكر لم يحرم الزيادة)(16).
ثانيا:
بالتحدث بها:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}(فاطر: من الآية3)، في هذه الآية الكريمة يوجه سبحانه
وتعالى الناس عامة الناس الى تذكّر نِعم الله الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى في
أنفسنا ومن حولنا في الأرض وفي السماء وفي كل شئ، فالله يعيد في أذهاننا بهذه
الآية الى النظر والتأمل في موجودا ته المسخرة لخدمة الإنسان، فهو يربطنا دوماً
وأبداً الى تذكّر نِعمه، اذكروها بينكم، حدّثوا الناس بإنعام الله عليكم، اشكروا
فضل الله عليكم ويكون هذا سمتكم، اجعلوا هذه النّعم في مواضعها التي خلقها الله
لأجلها، اجعلوها في طاعة الله تعالى لا في معصيته.
قال
تعالى وهو يخاطب نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وبه يخاطب الأمة، حيث قال:
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)، وقد جاء في تفسير هذه الآية
معان عدة؛ منها ما قاله الماوردي :
أحدها:
ويكون تأويل قوله (فحدّث) أي أدع قومك.
الثاني:
أنه القرآن: قاله مجاهد، ويكون قوله (فحدّث) أي أبلغ قومك.
الثالث:
أي ما أصاب من خير وشر.
الرابع:
وقيل أنها في جميع الخيرات.
الخامس:
وقيل معنى (فحدّث)، أي حدّث الثقة من إخوانك أو حدّث بها نفسك فيكون ذكرها شكراً(17).
وقال أبو السعود العمادي ، في معناها: بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها
وأحكامها(18).
وقال المراغي: أي أوسع في البذل على الفقراء
بمالك، وأفضِ من نعمة الآخرة على طالبيها(19).
عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)، وعلى المنبر: (مَن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومَن لم يشكر
الناس لم يشكر الله. والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر…)(20).
(7)
سنّة الله تعالى في تغيير النّعم:
قال
تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الأنفال: من الآية53)، أي لم يكن
شأنه تعالى ولا مقتضى سننه العامة في خلقه أن يغير نعمة ما أنعمها على قوم حتى
يغيروا هم ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوها بها تلك النعمة، فنعَم الله تعالى
على الأقوام والأمم منوطة
ابتداءً
ودوماً بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الأشياء لاصقة
بأنفسهم متمكنة فيها كانت تلك النعم ثابتة بثباته حسب سنّة الله تعالى العامة في
خلقه، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم
من تلك
العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم
وسلب نعمته منهم فصار الغني فقيراً والعزيز ذليلاً والقوي ضعيفاً، هذا هو الأصل
المطرد في الأقوام والأمم وهو كذلك في الأفراد(21).
أو مبدلاً إياها (النعمة) بالنقمة، أي يبدلوا ما بهم من الحال الى حال أسوأ (22).
آية أخرى:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(الرعد: من الآية11)، أي أن الله
تعالى لا يغير ما بقوم أو أمة أو فردٍ من النعمة والصحة والقوة والعافية بأن
يأخذها منهم، حتى يغيروا هم ما بأنفسهم.
وفي تفسير الدر المنثور، عن قتادة قال:‘‘ إنما
يجئ التغيير من الناس والتيسير من الله، فلا تغيروا مالا بكم من
نعمة
الله’’، وعن مالك بن دينار، قال: ‘‘كلما أحدثتم ذنباً، أحدث الله لكم من سلطانكم
عقوبة’’(23).
وفي تفسير محاسن التأويل: ‘‘أي من العافية
والنعمة (حتى يغيروا ما بأنفسهم)، أي من الأعمال أو ملكاتها
هي فطرة
الله التي فطر الناس عليها الى أضدادها’’ (24).
وفي تفسير المراغي: ‘‘أي أن الله لا يغير ما
بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم
بعضهم بعضاً، واعتداء ببعضهم على بعض وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض
نظم
المجتمع وتفتك بالأمم، كما تفتك الجراثيم بالأفراد’’(25).
(8)
آيات من كتاب الله تبين سّنته في بطر النعمة:
أ-
هلاك القرى بالجوع والخوف:
قال
تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
(النحل:112). أي جعل الله تعالى القرية التي هذه حالها آمنة من الخوف ومطمئنة
بالخصب والدعة، يأتيها أقواتها ومرادها طيباً هنيئاً من كل مكان؛ يعني بالزراعة
والتجارة ليكون اجتماع الأمرين لهم أوفر لسكنهم وأعم من النعمة عليهم فأبطرتهم
النعمة فكفروا وتولوا بترك شكره وطاعته وعدم أداء حقوق الفقراء ومواساة وإسعاف ذوي
الحاجات، فانزل الله نقمته وقوله: (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)، شبّه أثر
الجوع والخوف وضررها المحيط بهم اللباس الغاشي للابس، أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد
أن كان يجئ إليهم ثمرات كل شئ ويأتيها رزقها من كل مكان-وقيل سماه لباساً- لأنه قد
يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس هذا مثل مضروب بأي
قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى(26).
ب-
تدمير ديار البطرين والمتنعّمين:
ومن سنته تعالى في البطرين تدمير ديار البطرين وإهلاكهم، ومعنى ذلك أن
بطر النعمة قد يستوجب مثل هذا الجزاء كما لأنه قد يستوجب العقاب (الجوع والخوف)،
الذي ذكرته في الفقرة السابقة، فهذا الجزاء أو ذاك يمكن أن يصيب البطرين أو يصيبهم
كلاهما، قال تعالى في جزاء البطرين بالتخريب والتدمير:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}(القصص:58)(27). أي وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها
أي كانت حالهم كحال أهل مكة في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم
يقوموا بحق النعمة ولم يشكروا الله عليها فدمرهم
الله تعالى بخراب ديارهم، فليعتبر كل قوم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك
إذا فعلوا فعلهم قي بطر النعمة(28).
قال عطاء في تفسير الآية:
‘‘عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام فتلك مساكنهم’’. وقال ابن عباس:
‘‘لم يسكنها إلاّ المسافرون ومار الطريق يوماً أو ساعة، يعني: لم تسكن من بعدهم
إلا سكوناً قليلاً (ونحن الوارثين) أي لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، بقيت
خراباً غير مسكونة، أو لم يبقَ من يسكنها إلا قليلاً من شؤم أو معصية(29).
جـ –هلاك زروع البطرين
وثمارهم:
ومن سنّة الله في البطرين
إهلاك زروعهم وثمارهم، فليس عقاب البطرين واحدا فقد يكون بالخوف والجوع كما ذكرنا،
وقد يكون بتخريب بيوتهم واهلاكهم، كما مرّ معنا، وقد يكون بإهلاك زروعهم وثمارهم؛
وقد تجتمع هذه الجزاءات عليهم فيعاقبوا بالخوف والجوع ثم بإهلاك الزروع والثمار ثم
بتخريب بيوتهم وتدميرهم، وقد يحل بهم جزاءً واحداً فيتوبوا، ولله الحكمة البالغة
بفعل ما يشاء، فمن الجزاء بإهلاك زروع وثمار البطرين ما ذكره الله تعالى بأهل سبأ(30)، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. )فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ.
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)
(سـبأ:15- 17).
هذه الآيات تبين قصة حال أهل
سبأ كيف أنهم كانوا يعيشون في أمن وطمأنينة، واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وقد
بعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق الله تعالى ويشكروه على نعمه
الكثيرة، بعبادته وصرف هذه النعم في طاعته سبحانه، ولكنهم كذبوهم فأعرضوا عن قول
الرسل وعن عبادة الله وحده وشكره، فأرسل الله تعالى إليهم سيل العرم؛ وقد قيل في
معنى سيل العرم، معان منها:
‘‘قيل هو المطر الشديد، وقيل وهي الحجارة المركومة، وقيل هو السّكْر
(أي السد) الذي يحبس الماء، وقيل هو البناء الرصين الذي بنته الملكة بلقيس بين
الجبلين بالصخر والقار، وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقاً على ما
يحتاجون إليه في سقيهم، وقيل العرم الجرذ الذي نقبت عليهم السد وهو الفأر الأعمى،
وقيل هو اسم الوادي، وقيل هو ماء أحمر أرسله في السد فنسفه وهدمه وحفر الوادي ولم
يكن الماء أحمراً في السد، وإنما كان سيلاً أرسل عليهم فأغرق أرضهم وزروعهم
وبساتينهم المثمرة وعوضهم الله عنها ببساتين ثمرها بشع، فإن الخمط كل نبتٍ أخذ
طعماً من مرارة حتى لا يمكن أكله؛ وقيل هو الحامضي والمر من كل شيء وبأثل قيل هو
الطرفاء وشيء من سدر قليل الذي لا يؤكل ثمره ولا ينتفع بورقه، ثم بين الله تعالى
أن ما حلّ بهم من العقاب إنما هو جزاء كفرانهم النعمة التي أنعم الله بها عليهم،
وهل يعاقب إلا الكفور بنعم الله تعالى’’(31).
المصادر:
1-تفسير أبي السعود العمادي: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم.
2-تفسير الآلوسي: روح المعاني.
3-تفسير ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير.
4-تفسير محمد فريد وجدي (المنار):تفسير القرآن الحكيم.
5-تفسير الزمخشري: الكشاف.
6-تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
7-تفسير الماوردي: النكت والعيون.
8-تفسير المراغي: (الشيخ احمد مصطفى المراغي).
9-تفسير القاسمي: محاسن التأويل.
10-مختصر تفسير الطبري: لأبن يحيى الصمادحي.
11-تفسير السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
12-تفسير الشوكاني: فتح القدير.
13-ابن منظور: لسان العرب.
14-المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين.
15-الشيخ مخلوف: كلمات القرآن.
16-د.عبد الكريم زيدان:
السنن الإلهية.
(1)
لسان العرب: (ج14، ص 207)، والتي بعدها.
(2)
المعجم الوسيط: (935).
(3)
رواه البخاري (6412).
(4)
مسند الإمام احمد بن حنبل: (ج4، ص 145).
(5)
لسان العرب: (ج14، ص 207).
(6)
نفسه.
(7)
المعجم الوسيط: (ص61).
(8)
م. تفسير الطبري بهامش القرآن الكريم: (ص276).
(9)
نفسه: (274).
(10)
كلمات القرآن: (ص ص : 313، 351).
(11)
م. تفسير الطبري: (ص 594).
(12)
تفسير الماوردي: (ج6، ص129).
(13)
تفسير زاد المسير: (م10، ج29، ص 116)؛ أبي السعود: (ج9، ص 51)؛ م تفسير الطبري: ص
574).
(14)
تفسير الآلوسي: (م6، ج10، ص 10).
(15)
تفسير الماوردي: 0ج3، ص 123).
(16)
تفسير المراغي: (م5، ج13، ص 130).
(17)
بتصرف، تفسير الماوردي: (ج6، ص 295)؛ تفسير الآلوسي: (ج15، ص 210)؛ زاد المسير:
(ج9، ص 160).
(18)
تفسير أبي السعود: (ج9، ص 171).
(19)
تفسير المراغي: (م10، ج30، ص 187).
(20)
تفسير فتح القدير: 0ج5، ص460).
(21)
تفسير النار: (م10، ص ).
(22)
البيضاوي: (ج1، ص 388).
(23)
الدر المنثور: (ج4، ص 617).
(24)
القاسمي : (م6، ص339).
(25)
المراغي : (م5، ج13، ص 78).
(26)
تفسير الماوردي : (م3، ج16، ص 217)؛ الزمخشري : (ج2، ص 638)؛ القاسمي : (م6، ج10،
ص ص 167، 168).
(27)
السنن الإلهية: (ص ص 200، 201).
(28)
الزمخشري : (ج2، ص 423).
(29)
زاد المسير: (ج6، ص 233)؛ أبي السعود: (ج7، ص20)؛ البيضاوي : (ج2، 197).
(30)
السنن الإلهية: 0ص 201).