محتويات المقال
align="center">
1- حرية العقيدة:
وهي
أعلى صور الحرية وأهمها؛ إذ أنها تتعلق بأهم وأعظم جوانب الحياة الإنسانية. وقد
بين الإسلام أن الإنسان حر في اختيار عقيدته والدين الذي يؤمن به، إذ لا إكراه
على اعتناق عقيدة الإسلام وهي العقيدة الحقة؛ لأن مبادئها تتوافق مع فطرة
الإنسان السوية وعقله المستقيم، فلا تحتاج إلى إكراه على اعتناقها، وفي ذلك يقول
الحق تباركت أسماؤه: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ
بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1)، وقال سبحانه: (وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(2)، ويقول جل شأنه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...)
(3).
وقد
مضى الحديث في هذا المطلب عن العقل والاختيار كمظهر من مظاهر تكريم الله عز وجل
للإنسان، كما مضى في المطلب السابق "العقلانية" حديث عن دور العقل في
الوصول إلى حقائق العقيدة.
2- الحرية الفكرية:
ترك
الإسلام المجال فسيحاً أمام الفكر الإنسانى في هذا الكون ليستخلص منه كل مايعود
عليه بالنفع العظيم في حياته ورقيه وتطوره (قُلِ
انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْض.. )(4)، (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ)(5)، (وَفِي
الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)(6).
كما
أتاح الإسلام للفكر الإنسانى أن يعمل في النصوص القرآنية والنبوية ليستنبط منها
أحكام الدين، وليقتبس عليها في بحثه عن أحكام القضايا التي يرد فيها نص صريح،
ويمتاز الإسلام الحنيف بأنه النظام الوحيد الذي يعطي للمخطئ نصيبه من الأجر
والثواب إذا أخطأ في اجتهاده مع توافر النية الحسنة واستفراغ الجهد المتاح، يقول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: ”إذا اجتهد الحاكم
فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران." (7)
أما
حين تلوى النصوص لياً يخرجها عن طبيعتها، بهدف استخراج حكم معين إرضاء لنزعة
شيطانية أو سلطة مستبدة، فإن الأمر حينئذ ينتقل من دائرة الحرية الفكرية التي
كفلها الإسلام إلى دائرة العبث الممقوت، خاصة حينما يتولى كبره مَن لا يملك
أصلاً أدوات البحث والاستنباط.
3- الحرية السياسية:
وهي
تعني حق الإنسان في ولاية الوظائف الإدارية –صغراها وكبراها- مادام بكفايته أهلا
لتوليها، وتعني كذلك حق كل إنسان أن يبدي رأيه في سير الأمور العامة وتخطئتها أو
تصويبها وفق ما يعتقد... وقد كفل الإسلام هذا الحق بمعنييه:
فمن
حق كل إنسان أن يتطلع إلى تقلد أعلى المناصب وأرفع الوظائف، طالما تحقق فيه
الورع والكفاية، ولا يغني أحدهما عن الآخر.. ألا ترى إلى سيدنا يوسف على نبينا
وعليه الصلاة والسلام؟ إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال والدولة بنبوته
وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه معا، فقال (اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(8)، ولهذا حذر النبي
صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه من الإمارة، باعتبارها أمانة كبرى
ومسئولية عظمى.. عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله.
ألا تستعملني؟! قال: فضرب بيده على منكبي،
ثم قال: ”يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا
من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها“(9).
ويجب
على الدولة أن تجعل الفرصة أمام الجميع متساوية، (10) بعيداً عن المجاملات
والرشاوى وغيرها من وسائل الانحراف – يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ”من استعمل رجلا على عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد
خان الله ورسوله والمؤمنين“، (11) وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو
بكر الصديق رضي الله عنه، حين بعثني إلى الشام: يا
يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ولي
من أمر المسلمين شيئا، فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله
منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم“.(12) وجاء رجل يسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم: متى تقوم الساعة؟، فقال له: ”إذا
ضيعت الأمانة فانتظر الساعة“. قال: كيف
إضاعتها؟ قال: ”إذا وسد الأمر إلى غير أهله
فانتظر الساعة“.(13)
ومن
حق كل إنسان أيضاً أن يبدي رأيه في أمور الدولة والسياسة، مادام متقيداً
بالأسلوب المثالي في إسداء النصيحة وإبداء الرأي.
وقلد
طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ بنفسه، ففي غزوة بدر وبعد أن أفلتت
قافلة أبي سفيان، توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه طالباً
منهم إبداء آرائهم حول الخروج للنفير بعد أن نجت العير، وكان الهدف من ذلك أن
يعلم موقف الأنصار بالذات، لأن بيعة العقبة الثانية لم تتضمن نصاً يفيد بخروج
الأنصار معه لملاقاة الأعداء خارج المدينة...
قال
النبي صلى الله عليه وسلم: ”أشيروا علي أيها الناس“.
فقام أبو بكر الصديق وأحسن القول، فدعا له النبي بخير، وقام عمر كذلك فأحسن
القول.. كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ”أشيروا
عليَّ أيها الناس“، فقام المقداد بن عمرو وقال: يا
رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن – والله – لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل
لموسى: "إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون"، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا
إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من
دونه حتى تبلغه. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير ثم قال: ”أشيروا علي أيها الناس“، فقال سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل"،
قال سعد: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به
هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول
الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته
لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصبر
في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة
الله." (14)
كما
أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بالرأي الذي أبداه الحباب بن المنذر رضي الله عنه
بكل أدب واحترام من الجندي لقائده، من المؤمن لنبيه.. فحينما سار النبي صلى الله
عليه وسلم بالجيش نزل بهم عند أقرب ماء من بدر، فجاء الحباب وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله
تعالى، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"
قال: يارسول الله: إن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم
فتنزله، ثم تغور ماوراءه من القلب، ثم تبني عليه حوضاً فتملؤه ماء، ثم تقاتل
القوم، فنشرب ولا يشربون. (15)
وفي
هذه الغزوة أيضا، أبدى سعد بن معاذ رأياً ببناء عريش لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخذ به. (16) وفيها أيضا، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أبى بكر رضي
الله عنه في شأن الأسرى. (17)
كما
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه
ببناء الخندق حول المدينة لمواجهة جموع الأحزاب.. وغيرها من المواقف الكثير
والكثير.. وهي يبين مدى الحرية السياسية التي تمتع بها المسلمون مع قائدهم
ونبيهم صلى الله عليه وسلم .. وعلى نهجه سار خلفاؤه من بعدهم، فحينما تولى
الصديق رضي الله عنه الخلافة خطب قائلا: ”أيها
الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،
القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له.
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت فلا طاعة ليا عليكم“.(18)
والتراث
الإسلامي حافل بكثير من المواقف المشهودة التي تبين مدى الحرية التي كان يتمتع
بها المسلمون على مر التاريخ، يقف الرجل من عامة الناس فيقول للحاكم أخطأت.. فلا
يغضب ولا يثور، بل يتقبل النصيحة باطمئنان قلب وهدوء نفس، وسأكتفي في هذا المقام
بموقفين جليلين لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فقد
وقف يخطب الناس يوماً فقال: ”إن رأيتم اعوجاجاً
فقوموني“ فقال رجل: لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناك بحد سيوفنا.. فما زاد
عمر أن قال: ”الحمد لله الذي جعل في رعية عمر مَن يقومه بحد سيفه“.(19)
وذات
يوم غنم المسلمون أبراداً يمانية (جمع برد)، فخصه برد وخص ابنه عبد الله برد كأي
رجل من المسلمين.. ولما كان الخليفة في حاجة إلى ثوب، فقد تبرع له عبد الله برده
ليضمه عمر إلى برده فيصنع منهما ثوبا، ثم وقف يخطب الناس وعليه هذا الثوب، فقال:
"أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا"
فوقف سلمان رضي الله عنه فقال: لا سمع لك علينا ولا
طاعة. قال عمر: ولم؟ قال سلمان: من أين لك بهذا الثوب، وقد نالك برد واحد وأنت رجل طوال؟
قال عمر: لاتعجل.. ثم نادى.. يا عبد الله.. فلم يجبه أحد.. فنادى.. يا عبد الله
بن عمر. قال: لبيك أمير المؤمنين. قال: ناشدتك
الله.. البرد الذي ائتزرت به أهو بردك؟ قال: اللهم نعم. قال سلمان: الآن مر نسمع
ونطع".(20)
والشاهد
واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو تعليق.
4- الحرية المدنية:
ويقصد
بها: كل التصرفات النابعة من شعور الإنسان بذاته وضرورة اعتراف الجماعة بشخصه
وأهليته المطلقة للتصرف وفق ما يريد.
وعلى
أساس هذه الحرية، يملك كل إنسان أن يقيم حيث يشاء وأن يسافر متى شاء، وأن يجتمع
بمن يريد الاجتماع بهم، وأن يحوز من المال ما يكسب، وأن يحترف من المهن ما يهوى،
وأن يباشر العقود التي يرى إبرامها ويفسخ التي يريد فسخها من بيع وشراء ووكالة
وكفالة وإيجار... إلخ، وذلك كله –بداهة- وفق قانون يمنع الضرر والعدوان، حتى لا
يشتط أحد في استخدام حريته فيؤذي الآخرين وينال من حرياتهم"(21)، يقول الحق
تبارك وتعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(22)، ويقول سبحانه: ( الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(23).
وقد
يثار هنا اعتراض بأن الإسلام إذا كان قد كفل الحرية المدنية، فلماذا لم يحرم
الرق أو الاستعباد؟ ولماذا لم يأت في القرآن أو السنة نص صريح بتحريمه؟.
والحق
أن موقف الإسلام من الرق قد تعرض لظلم عظيم وإفك كبير، مع أن الإسلام دين الحرية
بكافة صورها وأشكالها.. فلقد تعامل الإسلام مع مشكلة الرق بـ"واقعية"
عظيمة؛ حيث سلك معها مسلك التدرج الذي من شأنه أن الأمور لو كانت قد سارت إلى
وجهتها الصحيحة التي رسمها الإسلام. لما بقيت مشكلة الرق هذه المدة المتطاولة.
(1) فقد جاء الإسلام والرق نظام عالمي متعارف
عليه، فكانت سياسته في المكافحة تعتمد على تجفيف منابعه، فقد أبطل الإسلام جميع وسائل
الاسترقاق التي كانت معروفة في ذلك الوقت، وأهمها وأكبرها اختطاف الأحرار من
بلادهم وطبعهم بخاتم الرق، يقول الله عز وجل في حديث القدسي: ”ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل
أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل
ولم يعطه أجره“.(24)
ويقول
النبي صلى الله عليه وسلم : ”ثلاثة لا يقبل الله
منهم صلاة: من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً، ورجل اعتبد
محرره".(25)
(2) ولم يعترف الإسلام بالاسترقاق إلا في حالة
واحدة، وهي استرقاق أسرى الحرب من غير المسلمين، وذلك لأن العرف السائد وقتها هو
استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم، وقد وقعت الحرب بين المسلمين وغيرهم، وبالتالى فقد
وقع بعض المسلمين في الأسر، وكتب عليهم الرق والاستعباد، فهل من العدالة أو من
حسن السياسة أن يطلق المسلمون سراح الأسرى من الأعاء، بينما الأسرى من المسلمين
يرزحون تحت نير العبودية والرق؟!.. الحق أنه من باب المعاملة بالمثل –على الأقل-
أباح الإسلام استرقاق أسرى الحرب من الأعداء كإجراء وقتي اضطراري ليس إلا..
فالآية التي تعرضت لأسرى الحرب. (26) لم تذكر شيئاً عن الاسترقاق وإنما تحدثت عن
المن –أي إطلاق السراح دون مقابل – أو الفداء – أي إطلاق سراحهم بمقابل – وهذا
يدل على أن الاسترقاق ليس تشريعاً دائماً. وإنما هو إجراء وقتي ريثما يتغير
العرف الدولي.
(3) يضاف إلى هذا أن الأسير يعامل –
طبقا لتوجيهات الإسلام – معاملة تشرئب إليها الأعناق.. يقول تعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً
وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ
مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)(27).. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
”عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني“(28).
أي أطلقوا سراح الأسير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد
غزوة بدر: ”استوصوا بالأسرى خيرا“(29)...
وقد امتثل الصحبة الكرام –رضي الله عنهم – لهذا الأمر النبوى الكريم.. يقول أحد
أسارى بدر من المشركين (وهو أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب بن عمير رضي الله عنه):
"كنت في رهط من الأنصار – حين أقبلوا بى من
بدر- فكانوا إذا قدموا غذاء أو عشاء خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية الله
إياهم بنا..
(4) هذا عن تجفيف المنابع وعن الرقيق الآخرين
فقد وضع الإسلام لتحريرهم عدة وسائل:
( أ ) العتق الاختياري من جانب السادة:
فقد
رغب النبي صلى الله عليه وسلم وبين عظيم ثوابه في كثير من أحاديثه
الشريفه، منها ما رواه أبو نجيح السلمي قال: حاصرت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم الطائف فسمعته يقول: ” أيما رجل مسلم أعتق
رجلا مسلماً فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامه، عظما من عظام محرره،
وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من
عظامها عظما من عظام محررتها من النار“(30).
وقوله
صلى الله عليه وسلم: ”من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله
بكل عضو منه عضواً منه من النار، حتى فرجه“(31).
(ب) المكاتبة:
وفيها
يقوم السيد بمنح الحرية لغلامه مقابل مبلغ مالي يتفق عليه فيما بينهما، وعلى
السيد أن يستجيب لرغبة غلامه في المكاتبة، وأن يخفف عنه فيها، وأن يتيح له فرصه
العمل لدى الغير بأجر، حتى يتمكن من الأداء. يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن
مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ...) (32).. وعلى المجتمع هنا أن يقدم يد
العون والمساعدة بإعطاء هؤلاء المكاتبين جزءاً من الزكاة، يقول تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ...)
(33).
(ج) تحرير أم الولد:
وذلك
إذا ولدت الأمة لسيدها ولداً، فإنها تصبح حرة هي وولدها بمجرد وفاة السيد
ولايجوز له أن يتصرف فيها قبل موته ببيع أو هبة.
( د ) جعل العتق كفارة لبعض الذنوب:
فقد
جعل الإسلام تحرير الأرقاء سبيلاً إلى تحرير المسلم من ربقة المعاصي والذنوب..
فمثلا:
في كفارة اليمين: يقول تعالى: (... فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ...) (34).
في كفارة الظهار: يقول سبحانه: ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(35).
في كفارة القتل الخطأ: يقول جل وعلا: (... مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن
كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ...). (36)
ومن
جوانب العظمة في هذه الآية الكريمة ما فيها من بيان نظرة الإسلام إلى الرق على
أنه موت أو شبيه بالموت، فالقتيل الذي قتل خطأ هو روح إنسانية قد فقدها أهلها
كما فقدها المجتمع دون وجه حق، لذلك يقرر الإسلام التعويض عنها من جانبين،
التعويض لأهلها بالدية المُسَلَّمة لهم، والتعويض للمجتمع بتحرير رقبة مؤمنة..
فكأن تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ..
والرق –على ذلك- هو موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام –على الرغم من كل
الضمانات التي أحاط بها الرقيق- ولذلك فهو ينتهز كل فرصة "لإحياء"
الأرقاء بتحريرهم من الرق. (37)
هذه
بعض وسائل تحرير العبيد في الإسلام، وكلها مرتبطة بعنصر الإيمان والتقوى ليضمن
الإسلام تنفيذها تنفيذاً شاملاً.
(5)... وقبل أن يحصل هؤلاء الأرقاء على حريتهم
المادية، كان الإسلام قد حررهم وجدانياً وعاطفياً، بل كفل لهم في المجتمع
حقوقاً. تتطاول إليها أعناق بعض شعوب العالم في هذا الزمان، منها:
( أ ) كفل لهم حق الحياة:
فنفس
العبد محترمة وحياته مصونة، يقول صلى الله عليه وسلم: ”من
قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده خصيناه“.(38)
(ب) كفل لهم حفظ كرامتهم وصيانة عرضهم:
فالنبي
صلى الله عليه وسلم يحرص على مشاعر الرقيق وعدم إهانتهم إلى الحد الذي جعله
يقول: ”لا يقل أحدكم: هذا عبدي، وهذه أمتي، وليقل:
فتاي وفتاتي“(39).. كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خدش كرامتهم
بكلمة نابية أو ضرب أو غيره، يقول: ”من قذف مملوكاً
بريئاً مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال“(40)،
ويقول أيضا: ”من ضرب مملوكه ظلما قِيدَ منه يوم
القيامة“.(41) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أعتق مملوكاً له، ثم أخذ
من الأرض عوداً أو شيئاً فقال: مالي فيه من الأجر
ما يساوي هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه“... وعن
أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في
بيتها، وكان بيده سواك، فدعا وصيفة لها فلم ترد، حتى استبان الغضب في وجهه،
فخرجت أم سلمة فوجدت الوصيفة تلعب ببهيمة، فقالت أراك تلعبين بهذه البهيمة ورسول
الله يدعوك، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ”لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك“(42).
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً
من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا
مسعود أن الله أقدر عليك، منك على هذا الغلام، فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً، وفي رواية فقلت يا
رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى: فقال: ”أما لو لم تفعل للفحتك النار – أو لمستك النار“(43).
(ج) كفل لهم حق المساواة الإنسانية:
فالسادة
والعبيد سواء في حق الإنسانية، والقرآن الكريم يقول للسادة عن الرقيق (...بعضكم
من بعض...) (44)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ”كلكم لآدم وآدم من تراب.. ألا لا فضل لعربي على أعجمي،
ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى“(45).
ومراعاة
لهذه المساواة الإنسانية، أمر الإسلام بحسن معاملة الرقيق وجعل هذا الإحسان في
مرتبة واحدة مع الإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران وغيرهما- بعد الأمر
بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به- وذلك في قوله سبحانه: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...) (46)، كما جعل القرآن
الكريم السادة بمثابة أهل الرقيق وعشيرته، وذلك في قوله سبحانه في شأن من لم
يستطع نكاح الحرائر وأراد أن ينكح أمة مؤمنة: ( وَمَن
لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ
فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(47). فانظر إلى
قوله سبحانه: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ)
أي أن الأمة عند سيدها كأنها عند أهلها وعشيرتها.. فيا للروعة.. وياللعظمة..
( د ) كفل لهم حق الكفاية التامة:
فقد
أوجب على سادتهم الإنفاق عليهم، وتوفير الغذاء والكسوة وغيرها مما يحتاجه
الإنسان، بنفس مستوى غذاء وكسوة أوليائهم، فعن المعرور بن سويد قال: دخلنا على
أبي ذر بالربذة، فإذا عليه برد، وعلى غلامه مثله، فقلنا يا أبا ذر لو أخذت برد
غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوباً غيره؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: ”هم إخوانكم جعلهم الله تحت
أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسي، ولا يكلف ما
يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه“.. وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
إذا مشى بين عبيده لا يميزه أحد، لأنه لا يتقدمهم، ولا يلبس إلا من لباسهم، (48)
وأعطى علي بن أبى طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه- غلامه دراهم ليشتري بها
ثوبين متفاوتي القيمة، فلما أحضرهما- أعطاه أرقهما نسيجاً وأغلاها قيمة، وحفظ
لنفسه الآخر، وقال له: أنت أحق مني بأجودهما لأنك
شاب تميل نفسك للتجمل، أما أنا فيكفيني هذا“(49).
(هـ) كفل لهم حقوقهم السياسية:
فلهم
الحق في إبداء رأيهم في مسائل الدين والدنيا، ولهم كذلك الحق في تولي الوظائف
العامة.
ففيما يتعلق بالناحية الأولى، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وهو خليفة المسلمين، يعارضه بلال بن رباح رضي الله عنه في مسألة الفئ معارضة
شديدة فلا يجد الخليفة سبيلا إلى رده إلا أن يقول ”اللهم
اكفني بلالا وأصحابه“(50).
وفي الناحية الثانية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام
فيكم كتاب الله تبارك وتعالى“(51)، وقد ولى النبي صلى الله عليه
وسلم مولاه زيد بن حارثة قيادة جيش المسلمين في مؤته(52). ثم ولى
ابنه أسامة بن زيد قيادة جيش فيه أبو بكر وعمر وغيرهما من كبار صحابة النبي صلى
الله عليه وسلم ، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ، أخذ الصديق رضي الله عنه
على عاتقه إنفاذ الجيش بقيادة أسامة رغم اعتراض البعض.. ومن العجيب في هذا
المقام أن الصديق رضي الله عنه أراد استبقاء الفاروق عمر بالمدينة ليعاونه في
أمور الحكم والخلافة، ولكنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه –وهو القائد الأعلى بلغة
العصر- بل استأذن أسامة بن زيد قائلا: ”إن رأيت أن
تعينني بعمر فافعل“.(53)
وقد
ولى عمر رضي الله عنه عمار بن ياسر على الكوفة وهو من الموالي.. وحينما لقيه
واليه على مكة نافع بن الحارث بعسفان، سأله عمر: مَن استخلفت على أهل الوادى؟
قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، قال: وما ابن أبزى؟، قال: رجل من موالينا، قال
عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ”إن
الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين“.. وما كان سؤال عمر
استنكاراً، إنما هو استفهام ليعلم فيم كانت مزية ابن أبزى وهو لا يعرفه، وإلا
فهو الذي يقول حينما شارف على الموت: "لو كان
سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته" فسالم عنده آثر من أهل الشورى
الذين سماهم ليختار من بينهم خليفة المسلمين من بعده. (54)
وبعد
!! فهذا عرض لموقف الإسلام الحنيف من الرق، تبين من خلاله مدى مراعاة الإسلام
لكافة جوانب الحرية المدنية لجميع أفراد المجتمع، والتي بانتهاء الحديث عنها
ينتهي الحديث عن حق الحرية كواحد من حقوق الإنسان في الإسلام.
(6) حق الإخاء البشري والمساواة الإنسانية
العامة:
يعد
هذا الحق مع الذي قبله منظومة واحدة، أو هي ثلاثية: الحرية والإخاء والمساواة،
التي تعلن كل منظمة أو ثورة أنها تسعى إلى تحقيقها، بينما هي في الإسلام متحققة
على أكمل وجه وأتمه.
وقد
مضى الحديث عن الحرية في العنصر السابق، والحديث الآن عن الإخاء والمساواة،
الإخاء العام بين البشر، والمساواة التامة بينهم في أصل الإنسانية:
-
ففي نظر الإسلام، يعد البشر المنتشرون في القارات الخمس أسرة واحدة انبثقت من
أصل واحد، لا مكان بينهم لتفاضل في أساس الخلقة وابتداء الحياة.
|