النص القرائي الجراد

الجراد

ذات مساء، كان كل شيء في القرية يسير في نفس الخط الذي يسير عليه كل يوم . تماماً كما كان بالأمس وأول أمس ، ومنذ عام مضىـ، عمران يزاول مهمة رفع الماء من البئر بالدلو والبقرة ، يقدم لمزروعاته وجباتها اليومية، كان يمشى ويرجع خلف البقرة عبر المج رالمحفور في الأرض. وكان الحبل الذي يجر على (البكرة) تتصاعد منه نغمة حلوة رتيبة، وعمران يغنى، ويستحث البقرة، ويهش عليها بالعصى ولا يضربها ويواصل رحلته التي لا تنتهي عبر مسافة لا تزيد بأي حال عن خمسة أمتار!!، والمبروك الفأس بين يديه . والعرق ينزل من جبهته العريضة. وأنفاسه تتردد مجهدة مبهورة . وهو يعزق الأرض في بستانه الصغير. والحاج سالم يحرس حقله الذي يموج بسنابل القمح والشعير، يطرد حماراً من هنا. ويصيح في قطيع أغنام من جهة أخرى، ويرمى بالحجارة سرباً من العصافير نزل في جهة ما من الحقل، وكل أهل القرية يزاولون أعمالهم اليومية. يتفرقون هنا وهناك. هذا يسوق قطيعا من الأغنام وقد ضاع صوته فى صياحها المتواصل – ما … ماع … ما .. . وآخر يشمر عن ساعديه، ويفتح قدميه، واقفاً على حافة أحد الآبار يرفع الماء ويدلقه في أحواض من الحجر لجماله الكثيرة التي راحت تتدافع وتشرب الماء بنخير عال. في حين يهمهم هو بصوت مجهد: -  يا ععم. . يا ههم … يا ههم. كل شيء في القرية كان هادئاً، طبيعياً ذلك المساء .

وفجأة أتى أحد الرجال مهرولاً، وأخذ يزرع صيحاته في القرية، كأنه النذير، كان صوته مشحوناً بالحرقة واللوعة والخوف وهو ينبئ الناس في القرية بأن "الجراد" على أبواب قريتهم الصغيرة. إن أرجاله التي لا حصر لها تنام هذه الليلة بالبطاح القريبة التي لا تبعد عن القرية سوى خمس كيلو مترات، وكأنما استحال الناس في القرية إلى مجموعة من المجانين يجرون هنا وهناك في ذعر وخوف. والبعض من أهل القرية ذهبوا إلى شجيراتهم ومزروعاتهم يكحلون أعينهم بها، ينظرون إليها في حنين ولهفة، فمؤكد أنها مع شروق شمس الغد ستستحيل على يد الجراد إلى مجرد ذكريات ليس إلا.  والحاج سالم ذهب ليقف على رأس حقله ينظر إليه في حسرة ولوعة، لم يغالب حتى الدمعة التي ترقرقت في عينيه، ولأول مرة يرى الطيور تنزل في الحقل فلا يرميها بالحجارة، ويرى الشياه تتقدم نحو الحقل فلا يصيح فيها بصوته المشروخ، كان واضحاً أن خبر الجراد يشل كل شيء في الحاج سالم.

الحاج سالم وعائلة المبروك وأبناء عمران، وكل إنسان في القرية، جميعاً لقمتهم في أشجارهم وزراعتهم. التي سيجعل منها الجراد …أثراً بعد عين. الجراد الذي سيحيل كل شبر أخضر في أرضهم إلى جذب وخراب والجراد ... الجراد … الجراد … الجراد ... الجراد. وأمام المسجد، كان أهل القرية يقفون في حزمة واحدة كانوا أحياناً يتكلمون في صوت واحد. كانت أصواتهم غاضبة. ووجودهم يغشاها حزن عميق. وأيديهم التي نفرت عروقها الزرقاء يلوحون بها في عصبية ظاهرة ، وتمتم رجل عجوز والشعور بالخطر يهز كل شيء فيه اللهم لطفك يا رب. اللهم عفوك يا رب، وارتفع صوت يتساءل في غضب: والآن ماذا فكرتم لنا يا رجال؟؟ وتبعه آخر: - نعم يا رجال، ما العمل يا رجال؟

وانبثقت أصوات كثيرة، إلا أن جميعها تتساءل، كان الجو مشحونا بإشارات الاستفهام التي تعقف رؤوسها في حيرة، ما العمل؟ ما العمل؟ ما العمل؟

وكان المبروك يغرس رأسه إلى أسفل ولم يقل شيئاً، جسمه فقط كان يتململ في غير ارتياح وكأنه يجلس على قرية نمل. والمبروك في الخامسة والعشرين من عمره، جبهته عريضة، ووجهه يضرب إلى السمرة، وعيناه كالشعلتين تعلوها حواجب خفيفة الشعر، والده مات وترك له أسرة كبيرة وبستانا صغيراً يستنزف جهد المبروك اليومي وهو بالكاد يتمكن عن طريق البستان من انتزاع لقمة العيش للأسرة الكبيرة. وكانت الفكرة التي تتردد بين جدران دهنه، تبدو له أحيانا مضحكة. وكان خائفاً من أنه لو قالها لضج الجميع بالضحك، وربما خامرهم الشك في سلامة عقله. وكان ما يزال يفكر وهو ساهم ساكت ...، ولكزه أحد الجماعة لينبهه إلى أنهم يسألونه رأيه في الاقتراح الذي قاله الحاج سالم، والذي يريدهم أن يستعدوا لمطاردة الجراد القادم غداً للقرية، بإحداث صخب وضجة بطرق الحديد، وضرب الدفوف، ودق النواقيس، ورن الزجاجات الفارغة، وعن طريق هذه الضجة الصاخبة سوف تغادر أرجال الجراد القرية بمجرد الوصول إليها وتسلم بذلك القرية.، وعندما قال له مزارع طويل … شنبه كذلك طويل . . : تكلم يا مبروك ما بك. أنت ساكت هكذا لماذا؟ ألم تعج بك فكرة الحاج، أتراها لا تنفع ؟

وجد المبروك نفسه، فجأة يقول: - نعم . . أرها لا تنفع.

واستغربت الجماعة، إلا أن المبروك استمر واصلا كلامه، وكأن أحدا لم يقاطعه. فما رأيكم الآن، أيها الأخوان، في فكرة أخرى؟  فكرتي هذه … أن نأكل نحن الجراد بدلا من أن يأكلنا هو. ومن خلال الظلام تبادل الجماعة نظرات حائرة. ماذا يقول المبروك؟ وأفصح أحدهم عما يدور في ذهنه: … لم نفهم…؟… كيف نأكله؟!

وعندما مضى المبروك يوضح فكرته لم يستطع الجماعة أن يغالبوا رغبتهم في مصمصة شفاههم وتبادل النظرات الحائرة التي غالبا ما كانت ترافقها شفاه مقلوبة وكان مجمل فكرة المبروك التي مضى يوضحها في خطاب طويل . . أنهم في هذه الليلة وفى الساعات الأولى من السحر… تماما … يجب أن يكونوا مجتمعين في الطرف الجنوبي من القرية على ألا ينسى كل واحد منهم أن يأخذ معه شوالا فارغاً فأمامهم معركة لم يعرفوها من قبل، معركة السلاح فيها شوالات فارغات، ومن ثم يتجهون إلى حيث ينام الجراد – وهو عادة لا يستيقظ إلا عندما تلهبه أشعة الشمس – وهناك يعبئون الجراد النائم داخل أكياسهم الفارغة حيث يعودون إلى بيوتهم ليسلقوه في مراجل سوداء ولينتقل الجراد من أجواف الخيش إلى أجوافهم هم وتكون أروع عملية إبادة عرفها تاريخ الجراد.

البحر لا ماء فيه ، الدار الجماهيرية، ليبيا. ص: 30 – 35 (بتصرف)        

ملاحظة النص واستكشافه:

العنوان:

يتكون عنوان النص من كلمة واحدة، فهو عنوان مفرد.

بداية النص:

نلاحظ فيها مؤشرات تدل على أن النص هو عبارة عن نص سردي، ومنها: الشخصيات – الزمان – المكان.

نهاية النص:

نهاية النص تنسجم مع العنوان لأنه تكرر فيها أكثر من مرة، كما أن هذه النهاية تشير إلى الحل المقترح للقضاء على الجراد.

الصورة المرفقة بالنص:

الصورة تنسجم مع العنوان من حيث مضمونها وصيغتها (صيغة الجمع).

نوعية النص:

النص عبارة عن نص سردي حكائي.

فهم النص:

الشرح اللغوي:

- يشمر: يستعد ويتهيأ.

- مشحونا: مملوءا.

- الصخب: الصوت المرتفع - الضجيج

- مشروخ: متقطع.

الفكرة المحورية للنص:

نجاح أهل القرية في التخلص من الجراد بفضل تعاونهم وتضامنهم.

تحليل النص:

أحداث النص:

حالة البداية	الحدث المحرك	العقدة	الحل	حالة النهاية
وصف هدوء القرية وأهلها الذين يزاولون أعمالهم اليومية في جو من السكينة والطمأنينة.	إشاعة خبر قدوم الجراد إلى القرية.	توتر أهل القرية وخوفهم وحيرتهم في إيجاد حل للتخلص من الجراد.	- إحداث صخب وضجة - وضع الجراد في أكياس وأكله	تغيب حالة النهاية في هذه القصة لأنها انتهت بمجرد اقتراح الحل الثاني، ولكن يتوقع أن تعود السكينة والطمأنينة إلى القرية.

الألفاظ الدالة على توتر أهل القرية وحيرتهم عند سماع خبر مجيء الجراد:

[استحال الناس …إلى مجموعة من المجانين – يجرون هنا وهناك – صوته مشحون بالحرقة واللوعة – خوف  – يتساءل في غضب – التساؤل – إشارات الاستفهام …].

الشخصيات والزمان والمكان:

الشخصيات	الزمان	المكان
المبروك – الحاج سالم - عمران	مساء – أول أمس – عام – الساعات الأولى من الفجر	القرية – الحقل – أمام المسجد – الطرف الجنوبي

القصد الذي نستخلصه من النص:

دور الاتحاد والتضامن في حل المشاكل الكثيرة مهما كانت مستعصية.

* ملاحظة النص واستكشافه :