وضعت محفظتي المدرسية على عجل خلف باب الغرفة، خرجت أتسحب على أطراف أصابعي. تأخذني أقدامي بين الأزقة الملتوية للدوار الجديد. من أمام مسجد الحاج بلعيد و يمينا عبر زنقة الخياطة إلى رأس الزنقة حيث يوجد فرن( الهيضورة ) . المومنون يتسابقون للخروج من مسجد السي لهلالي بعد أدائهم لصلاة العصر. خلف المحول الكهربائي الذي صعق تياره في فترة الأمطار مجموعة من الحمير، أشهرها حمار السرغيني،وحمار أبا عياد، يتلقفني (الشاريع) في حضن ساحته الواسعة . بالقرب من السقاية ، أحجز لي مكانا في الصفوف الأمامية. في انتظار با الركراكي أن ينتهي من ( مساوية لوتار ) و ضبط مكبر الصوت .
بجلبابه الرمادي اللون المقلم بخطوط بيضاء، هو عنوان للأناقة، من قمة رأسه حيث تستقر طاقية الحجاج البيضاء وانتهاء بحذائه الذي لم أره إلا وهو يلمع. هذا الرجل النحيف وفي الحركة خفيف يتنقل من مكان لآخر كالنحلة التي تحط على الزهرات من واحدة إلى أخرى وهي تجمع غذائها، يحمل آلة (لوتار) التي يعزف عليها ألحان قطعه التي يتغنى فيها بفلسطين أو بصدام حسين وحربه ضد الكفار أو أغنية علقمة وشوميشة ... أو بالزوجة المجرمة التي قتلت الأب بمعية عشيقها وطردت أبناءه الأيتام خارج المنزل ولكن سيفتضح أمرهما بسبب قطة كانت تضطهدها المرأة ..با الرڭراڭي فنان عصامي يؤلف الكثير من قطعه وقصصه ويلحنها بنفسه. يعطيها روحا داخل حلقة دائرية حية تتنفس وتصغي، ينبش في ذاكرة جمعية شفهية. اعتبره أديبا لأن الأدب كما عرفه "رومان جاكبسون" صاحب مصطلح أدبية الأدب : "أن للأدب لغة جمالية متفردة وغريبة" وهذا ما يتبين لنا ونحن نردد مقدمة من إحدى قصائد قصصه :
وزيد قدامي و تفضل .. نعيد ليك حديث مرثل
وا رد بالك حضر لعقل .. كون فايق وسمع لي
حكايتي فيها موعيضة .. نعيدها في الشكل قصيدة
مرصعة في نظام فريدة .. نحكيها ليكم هاد لعشية
راني جيتكم من بلاد بعيدة .. نحيد التقليد علية ...
لا يكف بين الفينة والأخرى وهو يردد : " الله يرزقنا وإياكم الصحة والسلامة، الله يعطف علينا وعليكم رضات الوالدين... " كان لا يكف عن ترديد ذلك فيما يده تداعب أوتار الآلة الموسيقية (لوتار). عندما يبدأ في سرد حكايته يتحول إلى بركان من الانفعالات تتفجر، عيناه تتجولان بين عيون جميع المتفرجين قد تطلق شررا، أو تنفث حمما، بينما صوته يعلو ويهبط، محذرا منذرا، ترهيبا أو ترغيبا حسب مسار الحكاية ... أحداث القصص كانت تأخذنا بعيدا وتجعل قلوبنا في حناجرنا، إلا أنها كانت في ختامها تحمل نهاية سعيدة، حيث تنتصر فيها القيم السامية، ويؤيد الله الحق بقوة يظهره بها على الباطل، ولكن في قصة الزوجة المجرمة التي ذبحت زوجها بمعية عشيقها لتتمكن من الاستيلاء على ممتلكاته وماله ثم ترحل إلى منطقة أخرى، ستطرد أطفال زوجها الأيتام الذين لم يجدوا من مؤوى لهم سوى قبر والدتهم حيث ينامون في حضن تربته، وهو يحكي القصة كان يجعل دموعنا تقترب من مآقينا . عندما يقوم بتقمص دور الأبناء وهم ينادون والدتهم لتأتي لنجدتهم من بطش زوجة الأب.. نغرق نحن الأطفال في دموعنا ، يتمنى الأطفال بجواري أن يأتي أحد ما لنجدتهم. أما أنا فقد كنت أتمنى أن تحدث معجزة ، أن تعود عجلة الزمن للوراء، لأمسح من سجل التاريخ ذلك اليوم المشؤوم ، سأغير من قدر وفاة الأم لتبقى على قيد الحياة. كنت أتمنى أن أحمي أرواح الأطفال الغضة من مخالب اليتم وجراحها التي لا تندمل. سنكون نحن أيضا في غنى عن سماع هذه القصة المؤلمة التي كنت أحمل معي آلامها وتفاصيلها إلى فراشي فيملأ الخوف ضلوعي، وأنكمش داخل نفسي وإن نمت فإن الدموع تحرق وجهي .
كنت أتساءل دائما: كيف لرجل بسيط جدا أن يجمع هذا الكم من الناس منتبهين ومستمعين له؟ إنها ملكة الدعابة والحكمة والمغزى. بعد أن يبدأ قصته، له وقفة بين الأحداث المشوقة، يجمع فيها ما جادت به جيوب الفقراء، مصدر رزقه من المستمع. ترغيبا وليس ترهيبا كما يفعل بعض لحلايقية أصحاب الجملة المستفزة المشهورة (أشوف أهيا .. يلا ضرتي وعطيتيني بالظهر.. الله يعطيك والله يسد عليك) ههه .. أتعجب من الدعاء على متفرجين، مظاهر الفقر تشاركهم ملابسهم ، وعوامل التعرية تعلوا وجههم، وسوء التغذية يستعمر ويستنزف أجسادهم. ولولا بؤسهم لما ساقتهم أقدامهم لتلك الحلقة التي يرجون منها أن تلامس أفق انتظاراتهم وتنسيهم هشاشتهم. لحلايقي الأصيل يحترم الذات المتلقية، هو صاحب رسالة، حلقته تشكل متنفسا لجمهور يجد ذاته فيها. الرڭراڭي و الحكواتي و مصطفى البوكسور والعوني و الدكالي رجال لهم مكانة كبيرة في قلوب البنجريرين وفي الذاكرة الجمعية للمغاربة .
الحلقة القادمة مع لعبدي والمزڭيطي ...
*الصورة للركراكري مساء امس 15/04/20222 .
ابيقور - عاطف الرقيبة .
لست ربوت