كنت قد نشرت في ثلاث حلقات سالفة، على أحد المواقع الإلكترونية المحلية، سنة: 2015- 2016. تدوينة بعنوان : " في البدء كان الماء ". وهذا بعض ما كتب فيها:
" ... وأمام إلحاح الكثير من الأصدقاء والقراء على مواصلة الكتابة في موضوع الذاكرة المحلية لابن ﯕرير، والذي يحبذونه ويأملون أن يتواصل العطاء فيه، أجدني اليوم أخوض تجربة أخرى من زاوية مغايرة، تهدف إلى إثارة ذاكرة المكان لهذه المدينة، لعل الموضوع يجد كتابات أخرى تغذيه وتغنيه.
في بوتقة المكان تتشكل الذاكرة، ومن كيمياء الذاكرة تولد الهوية. فهما متلازمتان في وجدان الفرد كما الجماعة؛ إذ كلاهما يكتسب هويته خلال عملية تطورية تنشأ عند تفاعلها مع الغير في حيز زماني ومكاني مسترسل.
لأجل ذلك، فإن الأمر يستوجب استدعاء المكان الذي هو مهد لذلك التفاعل ومنطلق له. هذا الاستدعاء هو في حد ذاته استكشاف واستنكاه... ، يحتاج إلى الأدوات العلمية اللازمة، كما يحتاج إلى جهد مؤسس لإبرازه وصيانته، وليس الاقتصار على اهتمامات شخصية وفردية فقط.
لقد أصبحت الحاجة ملحة الآن، وأكثر من أي وقت مضى، لتعزيز الانتماء إلى هذا ( الابن جرير) المكان، من خلال ذاكرة جماعية، لازلنا لا نجد لها صدى إلا في معالم تكاد تنمحي، في مرحلة يتحمل فيها الجميع مسؤوليته حسب موقعه الذي يؤهله لذلك، وعلى رأسهم المبدعون.
فالمبدعون هم حراس المكان، هم المتشبعون بنفسه الروحي، وعبقه الوجداني، عبر إبداعاتهم في مختلف الفنون. من الكتابة والرسم والتصوير، إلى الهندسة المعمارية. فلا عجب إذا كان الكاتب أو الرسام المبدع، أو المهندس الفنان، يختلف عن البناء. فالأول يهدينا وطنا موشحا بالألوان وبالموال، أما الثاني فيعرض علينا الإعلانات المدبجة بالمساحات ومبالغ الأموال... !
ماذا لو خرجنا من العام إلى الخاص؟ وتفقدنا الأماكن التي تسكننا وكنا نسكن فيها ؟ ... وعن الخرائط الدفينة التي ظلت تفتقدنا ونفتقدها في هذه الرقعة من الأرض؟ أضعنا صورها الطفولية، وطمسنا ملامحها الأولى، ولم يعد لدينا من القرائن ما يدلنا عليها سوى ما يختزنه هذا المكان نفسه. ونتف مما روته أجيال قضت أو هي في طريقها إلى الانقضاء. وليس لنا من التدوين إلا ما كتبه القبطان كورنيت " le capitaine cornet " في يومياته الحربية : " في غزو مغرب الجنوب. "
A la conquête du Maroc du Sud avec la colonne Mangin, 1912-1913.
لما زحفت جيوش ليوطي بقيادة الكولونيل مانجان، من مازاغان ( مدينة الجديدة ) لتصل إلى مشرع بن عبو خلال شهر غشت من سنة 1912، ولتبدأ فصول ملحمة مجيدة، جسدت فيها قبيلة الرحامنة وقبائل الجنوب، أروع فصول المقاومة في معارك بطولية شهدتها منطقة « واد وهّام » بجماعة سيدي منصور حاليا، وأربعاء صخور الرحامنة، ومنطقة بابا عيسى، وابن جرير، ثم المعركة الشهيرة في سيدي بوعثمان؛ حيث اندحرت جيوش المربيه ربو بن ماء العينين، أخ أحمد الهيبة أمام القوة الفرنسية المدججة بأحدث وأفتك الأسلحة والعتاد آنذاك.
والآن، وأمام هذه الذاكرة التي تستفزنا وتخزنا؛ يمتد هذا المكان الذي تتكشف ملامحه الأولى في حضن برية منخفضة تمتد من الشمال نحو الجنوب. وتنحدر على جانبيها شعاب وآثار مجاري سيول نحو واد تتجمع وتسري فيه مياه أمطار الصيف وغيث الربيع. وتتناثر على طول مجراه آبار كثيرة تمنح الحياة والبقاء لكثير من القرى والدواوير. مكان اعتز الأقدمون بوفرة مياهه فأطلقوا عليه مثلهم البليغ « مائة بير وبير من بيدﱡو إلى ابن ﯕرير ». ( بيدو هو اسم بئر توجد في طريق العريصة في اتجاه دوار نَشَّلْ ) . وتهافتت عليه القوات الغازية طلبا للشرب والمورد. فأطلقت عليه عموما اسم « آبار ابن ﯕرير». فلنتوقف قليلا لنستمتع بما كتبه الكابتن كورنيت غداة معركة بابا عيسى، فجر التاسع والعشرين من شهر غشت 1912 في كتابه السالف الذكر، « في غزو مغرب الجنوب » ص :22-23 . « أعطى الكولونيل مانجان أوامره بالتحول عن وجهة بابا عيسى والتوجه مباشرة نحو ابن ﯕرير حيث يعسكر خليفة الهيبة مع معظم جنده. عند طلوع الفجر هاجمتنا جموع من الفرسان والمشاة من كل الجهات؛ فبرزوا من أعلى المرتفعات، و كروا نحونا من كل المنحدرات. كان الرصاص ينهمر على قواتنا التي استمرت رغم ذاك في المسير متخذة وضعيتها القتالية المناسبة. كنا نرد على هذا الهجوم بقذائف الشرابنيل shrapnell العنقودية التي تنفجر وتطلق وابلا من الرصاص في كل الاتجاهات فوق جموع أعدائنا الذين استبسلوا، وأظهروا شجاعة منقطعة النظير. كانوا يتقدمون نحونا غير آبهين بخطورة الموقف. لجأنا مرة أخرى إلى استعمال المدافع القصيرة المدى، ودفعنا بالمشاة إلى الأمام لإفساح الميدان أمامنا والتقدم بسرعة أكثر، مما جعل العدو يوجه هجومه إلى مؤخرة جيشنا. استمرت المعركة طول الصبيحة، وعند الزوال عدت فرقة من الخيالة السينيغاليين، مدعومة بجزء من قواتنا الرئيسية نحو « آبار ابن ﯕرير» التي تلوح من بعيد. إنها بطن من الأرض مقعرة، مأهولة بعدة بيوت متفرقة، بعضها من قش وتبن، وبعضها مبني بالطين. وقرب مقبرة هناك ( مقبرة ابن عزوز حاليا )، كانت تنتصب أربعة أضرحة ذات قباب، زادتها شمس الظهيرة بياضا ونصوعا، تظلل جوانبها سديرات نبتت بين الأحجار والقبور. كانت بعض طيور اليمام تطير من هنا وتحط هناك، وبعض القبرات تتوقف ثم تدرج بسرعة على الأرض العارية.
لقد اختفى العدو، ولم يترك سوى ما خلفه وراءه من أثر عند الآبار، قمامة… روث بهائم، وبقايا شعير حيث كانت مرابط الخيول. كان الجو حارا يخنق الأنفاس، وريح السموم الحارة يلهب لظاها العيون. وأصبح الرجال والجياد يعانون من شدة العطش، مع العلم أنه لا يوجد ماء بعد هذا المكان إلا على بعد كيلومترات عديدة نحو الجنوب. كان التعب قد هد مشاتنا ولم يعد في مقدورهم تجاوز ابن ﯕرير... أقام الجنود الخيام، وخندقوا المعسكر، وبدأت أعمال جلب الماء الشاقة حول الآبار. وشرع الجنود الأوروبيون، والجزائريون، والمغاربة، والسينغاليون الذين يتصببون عرقا، ينزلون الدلاء المصنوعة من القماش السميك، والمربوطة إلى الأحزمة الجلدية الحمراء إلى قاع الآبار لجلب الماء الثمين. كانت الخيول الظمأى تمد أعناقها مرتعشة نحو الأحواض ، تكاد النار تخرج من خياشيمها من شدة الهيم، والسبايسية والـﯕوم يزيدونها ماء بعد ماء، علها تطفئ لظاها ».
ويكتب مرة أخرى في الصفحتين : 34-35. « أشعرنا الجنود بضرورة التزود بالماء، فالآبار القادمة توجد في سيدي بوعثمان التي لن نصلها إلا غدا عند الزوال. وعلينا قبل ذلك، أن نزيح «الحَرْكَة» من هناك وننتصر عليها. فالنصر... والنصر وحده، كفيل بتمكيننا من الشرب مرة أخرى...».
فما هي آبار ابن ﯕرير؟. وما أسماؤها ؟. وأين هي مواقعها ؟. أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح بخصوص هذا الموضوع. لكنها وبناء على ما سلف، تنتشر عبر هذه الأرض المقعرة التي يتخللها واد بوشان والتي تمتد من بيدﱡو إلى " نزالة ابن ﯕرير ". كانت هذه النزالة تشكل منذ القديم محطة يجد فيها العابرون الماء، والطعام، والمبيت لهم، ولدوابهم وأنعامهم. وتوفر للمقيمين فيها دخلا ماديا عن طريق بعض الخدمات كالسقاية، والإطعام، والإيواء، والحدادة، والخرازة، وغيرها. وهذا ما أدى إلى ظهور المكونات الأولى للعمران في ابن جرير في هذه النزالة، كمرحلة أولى، ثم انتشارها في ما حولها في مرحلة ثانية. لكن أين مكان هذه النزالة الآن؟.
يبين التصميم الإداري الذي أنجزته الإدارة الفرنسية في مرحلة الحماية، لتهيئة مركز ابن جرير ، أنها توجد في التلة المقابلة لمركز الوقاية المدنية حيث أقيم فضاء الذاكرة التاريخية لرجال المقاومة وأعضاء جيش التحرير الآن، تطل على بئر " الحوزيات " - نأسف لردم هذه البئر مؤخرا، رغم أنها من المعالم الأولى للمدينة - وعلى المورد . L’ABREUVOIR وهو البئر المشهور باسم بئر «الفرفارة» - الفرفارة التي سرقت، وتلك قصة أخرى - الذي يوجد في ساحة البحيرة حاليا. هناك كانت النشأة الأولى، والتي ستمتد معالمها بعد ذلك لتكون دواوير محيطة بها وبطريق الدار البيضاء- مراكش، ولتشكل تجمعات أخرى على طول امتداد واد بوشان نحو الشمال. وسيعمد سكانها بعد ذلك إلى حفر آبار أخرى لتلبية احتياجاتهم من الماء، ولسقي ما هو ضروري لهم من خضر وفواكه. هكذا ظهرت « السواني » و« العرصات » على جانبي هذا الواد، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، وبأسمائها المعروفة، ناحية اليمين في اتجاه الفريقية : عرصة المدني - لها قصة هي الأخرى - ، عرصات الخليفة أحمد، عرصة بن عمر، عرصة الفقير عياد، عرصة السي عباس، عرصة الطاشرون، عرصة الفقير بوشعيب. أما ناحية الشمال ودائما في اتجاه الدوار الجديد : عرصة ابن المحجوب، ثم عرصة السي أحمد الرباع، عرصة المراكشية، عرصة السي مصطفى، عرصة السي إبراهيم أيت ماضي. وكانت هناك عرصات أخرى تمتد على طول رافدي واد بوشان أكبرها عرصة ابن قدور، وهي الوحيدة التي لازال جزء منها يقاوم زحف البناء الآن.
هكذا، وإلى حدود بداية السبعينات من القرن الماضي، كان واد بوشان سواء من ناحية حي الفريقية أو من جهة الدوار الجديد ، يشكل مجالا أخضر. يمد السكان بالماء وبالغذاء، ويخلق بيئة طبيعية تعيش فيها وتتكاثر فيها شتى أنواع الطيور المقيمة والطيور المهاجرة. فمن يذكر منا الآن بعضا من هذه الأسماء؟ : كلاليوس، بلحمير، أم قنين، ميسيسي، كريكر، بلارج... والتي كان الناس يمسون على أناشيدها الشجية كل مساء مع حمرة المغيب، ويغدون على شذوها المرح مع أولى تباشير الصباحات الباكرة. ومن منا لا تسعفه الأيام في استرجاع ذاكرته الطفولية ؟ فيذكر أيام الصيف الحارة، حين تتحول صهاريج هذه العراصي إلى مسابح عمومية، ينعش في مياهها البارد جسده الصغير مقابل عشرين سنتيما أو يزيد قليلا؟
تلك أيام قد مضت، وتلك الأماكن لم يعد من الممكن أن تصمد أمام تحولات الأيام، وتقلبات عوادي الزمن، وما عرفه هذا «الابن ﯕرير» من فوضى أمام التأثير السلبي للمحيط ، وما نتج عن ذلك من ظواهر سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية، استمرت لمدة فاقت أربعين عاما. وبالرغم من ذلك، ظل الماء هو أيقونة هذا المكان. فقد كان لحقب سحيقة فوقها، ثم غار تحتها، وقد آن الأوان لأن يفور مرة أخرى في أعلاها، ليس لثأثيث المشهد الحضري الجديد، بل ليلعب دوره في التنمية البشرية على مستوى الإقليم ككل في قطاع إنتاجي فلاحي متطور، يسعى إلى توفير الموارد البشرية والمادية اللازمة وعلى رأسها الماء. فالرحامنة ليست محتاجة لترابها فقط، بل هي محتاجة أيضا إلى مائها. فهما معا يمكن ان يشكلا النشأة الثانية لابن جرير الكبرى، إذ لا يمكن تنمية المركز إلا بتنمية المحيط. وبذلك من الممكن أن تلعب دورها في الحقل الاقتصادي والاجتماعي على المستوى الجهوي والوطني، أليس معروفا عند الخاصة والعامة أن الرحامنة إن " صيفت " شبع المغرب كله...! . فبالماء الابتداء، وإليه المنتهى. هو الذي جعل « نزالة ابن ﯕرير» تقدم مستلزمات الحياة في السنين الخوالي للمقيمين وللغرباء والعابرين... "
انتهى
لست ربوت