مرآة الباشا حمو محمد بوخار

إعلان الرئيسية

 





رفعت جوزيفين رأسها، تنظر إلى دخان البخور الذي تصاعد من مجمر الطين، وانبسط تحت سقف القصب كغيمة بيضاء تمور في أرجاء الغرفة، وتوحي بأن شيئا ما يسكنها ويحركها. ثم نظرت حيث تجلس الشوافة، فرأتها تلتقط من طبق الدوم المبسوط أمامها بخورا تلقيه على الجمر المتوهج؛ خليط عجيب من العود وحصوات من اللبان وأصماغ أخرى مختلفة الأشكال والألوان. غمر جوزيفين ذلك الإحساس بالطمأنينة والهدوء الذي كانت تشعر به عندما تنبعث رائحة الجاوي من البيوت، وتعم فضاء الدوار في ليلة القدر، ومختلف ليالي الأعياد.

ثم أخرج صوت الشوافة جوزيفين مما كانت تحس به، ومما كانت تراه وتحاول أن تفهمه؛ كانت تتمتم تعاويذها بغمغمة، لم تفهم منها جوزيفين شيئا، ثم أزالت الثوب الأحمر الذي كان يدثر جسمها، فبدا وجهها من وراء دخان البخور يتموج و يتلوى، يظهر ويختفي، كشكل مبهم من وراء السراب. ثم فتر الدخان، فتجلت ملامح وجهها حادة وواضحة؛ تمنحها بشرتها البيضاء، والرسم الموشوم على ذقنها وبين عينيها السوداوتين الواسعتين، حسنا غامضا... كان شعرها الطويل يغطي كتفيها وصدرها، ويكاد يخفي عقود الكهرمان والعقيق التي تتدلى من عنقها. وكانت أساور الفضة، وأحجار الخواتم التي تزين بها أصابعها تتلألأ مع توهج الجمر، فبدت لجوزيفين كأنها من تلك الجنيات اللواتي كانت ترى صورهن، وتؤخذ بحكاياتهن التي كانت تقرأها في سريرها بمساعدة أمها قبل أن تنام. ولقد مرت بذهنها تلك الأسئلة البريئة، وذلك الحديث الذي كان يدور بينها وبين أمها حين يهبط سلطان النوم ليداعب جفنيها:
- أين تسكن الجنيات يا أمي؟
- بعيدا... وراء النهر.
- أريد أن تأخذيني إليها.
- لماذا؟
- لكي أطلب منها أن تحقق رغبتي.
- وما هي رغبتك يا عزيزتي؟
- أن تحملني إلى بلاد العجائب...
- عندما تكبرين، سأذهب بك إلى هناك...
لم يدم الأمر طويلا، حتى مدت الشوافة يدها إلى صدرها، وأخرجت من تحت ثيابها مرآة صغيرة مستديرة، أمسكتها من قبضتها، وألقت نظرة على وجه جوزيفين لتستطلع مدى استعدادها للقيام بما ستطلبه منها، وما لا يمكن أن يقوم به أحد سواها، فقالت لها: " مدي إلي كفك اليمنى ". مدت جوزيفين كفها، فتأملتها طويلا، ثم نفثت فيها ثلاثا، وقالت لها: " أمسكي هذه المرآة، وانظري وجهك فيها قليلا، ثم رديها إلي. "
ورغم أن جوزيفين اشمأزت مما علق في كفها من أثر النفث، إلا أنها لم تجد بدا من أن تمسك قبضة المرآة، وتنظر فيها. كان وجهها يبدو عاديا، لا شيء تغير فيه، وبدأت تسأل نفسها: " لماذا تطلب مني أن أنظر إلى وجهي...؟ بدل أن أنظر إلى وجه أمي...! فهل سيبدو لي في هذه المرآة؟ " وكأنما سمعت الشوافة ما كانت جوزيفين تحدث به نفسها فهمست لها: " لا يمكن أن يحدث ذلك... ولكن لا تخافي... " ثم مدت يدها بلطف، وأمسكت المرآة من يد جوزيفين، وشرعت، تجول فيها بعينيها. ومرة بعد الأخرى تركز نظرها على نقطة في وسط أو في جانب المرآة، قبل أن تحوله إلى جانب آخر. ظلت جوزيفين تطيل النظر إلى وجه الشوافة تستطلع ما يرتسم على محياها، لكنها لم تر إلا عينين وسط ملامح جامدة، تتحركان بسرعة كأنما تترقبان شيئا يمكن أن يظهر لها بين الفينة والأخرى. حاولت جوزيفين أن تقترب علها ترى شيئا، إلا أن إشارة سريعة من يد الشوافة أمرتها بالابتعاد، فتراجعت إلى الوراء، حيث تجلس فطومة التي ظلت في مكانها هادئة، مطمئنة، يعبر وجهها عن الاستسلام التام لما تقوم به الشوافة وهي تردد: " التسليم... ألباشا حمو... ".
أطلقت الشوافة ضحكة طويلة، وقالت بصوت عال كأنها تخاطب شيئا ظهر لها على صفحة المرآة الصغيرة : "مرحبا... مرحبا... مبروك ... هذه المرأة أطلقت سراحك اليوم...، بحق أسيادك، وبحق أوليائك، لا تخذلها، وأخبرني بما جاءت تبحث عنه."
ثم بدأت تتلو كلاما سريعا متتاليا. كل ذلك والمرآة تتحرك بين أصابعها وتهتز، إلى أن هدأت، فأطلقت الشوافة مرة أخرى ضحكات طويلة ومتواليات، ثم عبست، ثم ضحكت، ثم تنفست الصعداء، ثم قبلت المرآة الصغيرة، واخفتها في صدرها تحت الثياب، وانتهى كل شيء.
انجلى الدخان واختفى، وعاد صوت الشوافة رقيقا، رخيما، فيه نبرة من حنان، فتوجهت إلى جوزيفين ثم قالت لها باقتضاب:
- قال الباشا حمو: أمك في الكتب والأغاني، ووجهها في الطين... أما أبوك... فمعلق على جدار.
- لم أفهم هذا...!
- لا تقلقي... هذا ما أخبرني به... ربما لا تستطيعين أن تفهمي كلامه الآن، ولكن لا تستعجلي ...
انتهت الشوافة من تعاويذها ومن قهقهاتها وصياحها، وأصبحت جوزيفين ترى فيها كما توقعت، تلك المرأة الغامضة الملتبسة عن الفهم، كمثل كلامها وإشاراتها المنفلتة عن المألوف.
وأدركت جوزيفين أنه على الرغم من كبرها الآن، إلا أنها مازالت أشبه بما كانت عليه في صغرها؛ حين كانت تصدق ما تقرأه في قصصها الصغيرة، وتتمنى أن تحقق لها الجنيات رغبتها التي كانت تحلم بها. لقد كانت ترجو اليوم، أن تنفذ الشوافة إلى قلبها كما تنفذ إلى عالم الباشا حمو، لترى ما يضطرب فيه، فتعمل على إيهامها ولو بكلمة أمل، كانت ترجو أن تسمعها منها. لكنها، لم تسمع، ولم تر، سوى ما بدد أملها، كما تبدد دخان البخور منذ قليل تحت سقف القصب.
مقتطف من رواية " إسبيرانزا "
محمد بوخار

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button