الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فحيث أن كثيرًا من المساجد مغلقة بسبب جائحة كورونا، ولا يتمكن أكثر المسلمين من القيام بالاعتكاف، الذي قال فيه الإمام الزهري رحمه الله: "عجبًا من الناس، كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله ﷺ كان يَفعل الشيء ويَترُكه، وما ترك الاعتكاف حتى قُبض، فهذه ورقة تقترح حلولا لإدراك بعض فضائله، وما لا يدرك كله، لا يترك جله.
سر الاعتكاف
إن أول قضية لا بد من النظر إليها في هذا السياق، هي "العلة" أو "العلل" التي جعلت من الاعتكاف بهذه المنزلة العظيمة، والتي حدت بالنبي ﷺ أن يداوم عليه، في كل حياته خلا سنوات ثلاث انشغل في الأولى منها بأمر غزوة بدر، وفي الأخيرة منها بأمر فتح مكة، وأما الثانية فبسبب ما حصل من نساؤه وازدحام المسجد بأخبيتهن، ومع ذلك قضى رسول الله ﷺ الاعتكاف في شهر شوال.
ما هي تلك الأسرار، التي تجعل من الرسول ﷺ، المسؤول الأول عن البشرية كلها، "يعطل" تلك المسؤوليات، سوى ما كان من الجهاد في غزوة بدر، ثم فتح مكة، مدة عشرة أيام متواليات، حابسًا نفسه في المسجد، متفرغًا لأنواع محددة من العبادة، مع أنه هو الذي جعل الحياة بأنشطتها السياسية، والاجتماعية، والرياضية عبادة، لا أظن أحدًا يستطيع الإحاطة بهذه الأسرار كلها، لكن يبدو أن لبّها يعود إلى ما يأتي من فضائل، ولو تأملناها لوجدنا أن كثيرًا منا قادر كذلك على القيام بها خارج المساجد، فلو تعذر الاعتكاف الكامل، فإن هذه الفضائل لن تتعذر!
1- كون المسلم في صلاة ما انتظر الصلاة.
2- استغفار الملائكة للمصلي ما دام في مصلاه.
3- الرباط بانتظار الصلاة التالية، بعد أن فرغ من الصلاة السابقة، فالمرابط حصل الفضيلتين السابقتين؛ كونه في صلاة، ثم استغفار الملائكة له، ولعل تسميته رباطا يضيف إليه فضيلة أخرى ثالثة.
فمن صلى العشاء مثلا، ومكث في مكانه، في صلاة، وذكر -وإن تخلل ذلك شيء آخر يسير- حتى صلاة الفجر، ثم عاد إلى ما كان عليه من ذكر ونحوه، واستمر على ذلك إلى شروق الشمس ثم ارتفاعها، ثم صلى ركعتين، فكيف إذا حصل له ذلك في ليلة القدر، والتي تضاعف فيها الحسنات ستون ألف مرة؟ قال الله جل وعلا (ليلة القدر خير من ألف شهر) والشهر ستون ضعفا لليوم، أو الليلة، فأي فضل قد حاز؟ صحيح أن المعتكف في المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف، قد حصل هذه الفضائل، حتى لو اشتغل بنوم، أو طعام، أو أي عمل آخر مباح، ومع أن اللحاق به عزيز، لكن لعل حبس الإنسان نفسه في الموطن الذي أدى فيه الصلاة، ولو كان خارج المساجد المعروفة، منتظرًا الصلاة التي تليها، يفتح له مضمار السباق، وفضل الله جل وعلا واسع.
وهذه أبرز أدلة الفضيلتين الأوليين؛ لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة، واستغفار الملائكة للمصلي ما دام في مصلاه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (وإذا دخل المسجد، كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وتصلي – يعني عليه الملائكة- ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، مالم يحدث فيه) متفق عليه. وفيهما أيضا عن أنس عن النبي ﷺ: (أنه لما أخر صلاة العشاء الآخرة، ثم خرج فصلى بهم، قال لهم: إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة)، وفي المسند مرفوعا إلى النبي ﷺ (القاعد يراعي الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) وفي رواية له: (فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع).
وفي سنن ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ: (إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَشَارَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ، أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ . قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ: هِيَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ. قُلْتُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ ؟! قَالَ: بَلَى، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَا يَحْبِسُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ). وفي رمضان 1441 جمعتان، تمنحنا هذا الفضل العظيم لاستجابة الدعاء؛ فالجمعة أفضل الأيام، في صيام، في شهر رمضان، في العشر الأواخر، ومن انتظر الصلاة فهو في صلاة وهي أحرى لاستجابة الدعاء، ينتظر صلاة وتستغفر له الملائكة، والتوبة والاستغفار مفاتيح السماء لاستجابة الدعاء.
والمعتكف في المسجد حبس نفسه للصلاة، فهو في حكم المصلي، أجرا، وثوابًا وفضلاَ، أربعًا وعشرين ساعة، يكتب له أجر المصلي وهو نائم، على طهارة وبدونها، أو أثناء أكله وشربه، وضحكه، وصمته، وكلامه، كأنما كان يصلي في كل لحظة مدة اعتكافه، فسبحان الله على هذا الفضل العظيم !، أما من انتظر الصلاة ولو لم يصل في المسجد، فيحصل هذا الأجر إذا مكث في مصلاه، بشرط الطهارة، وكف الأذى والابتداع. ويتأكد كون منتظر الصلاة آخذ أجر المصلي، بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ ... فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاة). مسلم.
والصلاة في الأحوال الاعتيادية هي أفضل الأعمال ولا شك، فهي الركن الثاني، وقد فرضها الله جل وعلا على نبيه في السماء السابعة، مشافهة دون واسطة، خمسين صلاة أول الأمر، وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، وهي الفاصل بين الكفر والإسلام، وهي خير موضوع، وما يسجد الإنسان لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة.. فكيف بالإنسان إذا كان متلبسا بها طيلة وقته؟ وقد سئل الإمام مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث؟ قال نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمر جالسا، وقد نص على هذا جمع من العلماء، وفي عدد من شروح الموطأ أن المرأة لو قعدت في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث، لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة.
الرباط في الثغور المدنية
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله ﷺ قال (أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، وفي المسند عن عبد الله بن عمرو قال: صليت مع رسول الله ﷺ المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله ﷺ مسرعاً قد حَفَزه النفَس، وقد حسر عن ركبته فقال: (أبشروا ! هذا ربكم قد فتح عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى ) حديث صحيح.
وماذا عن المرأة
إن جميع ما تقدم من فضائل للاعتكاف البديل إن صحت التسمية، يشترك فيه النساء والرجال على حد سواء، وقد أجاز علماء الحنفية اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، لكن هذه الورقة لا تتسع لتناول هذه القضية.
المكوث في المصلى بعد صلاة الفجر
قد يتيسر لكثير من الناس أداء صلاة الفجر جماعة في بيوتهم، فإن حصل لهم ذلك، فلا يفوتهم هذا الأجر الوارد في هذه الأحاديث: قال الترمذي باب (ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس)، ثم أورد بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة)، وفي رواية (تامة، تامة، تامة)، وقد ورد في ذلك عدة أحاديث، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لست ربوت