(عندما تمرون جنب بعض أطلال الحيطان المتربة في بعض أزقة ابن جرير، دققوا فيها النظر مليا، وادخلوا في شقوقها، وتنسموا ترابها وقشها، ستجدون كل الحكايا مكثفة هناك).
في ابن جرير القديمة التي كلما استحضرناها أمام أعيننا في حالة صفاء ذهني تام، تتراءى لنا ببيوتها المتربة الواطئة ، وبآبارها بجراراتها ودلائها المطاطية، وغبارها وزوابعها، وعبق شجيرات وأغراس عرصاتها، كلما استعدنا نمط عيشها وعلاقات سكانها و"كوشيناتها" و"كابيناتها" وفناءاتها وقواديسها المعدنية المدلاة من أسقف البيوت، وكلما استعدنا أعراسها ومواسمها وأعيادها وشخوصها ممن هم على باب الله ، وأنشطتها التجارية الثابتة في الحوانيت أو المتنقلة عبر الباعة الجائلين، والذين كانوا جزءا من المجال العام سواء ما تعلق بعلاقاتهم التجارية مع السكان أو مع علاقاتهم الاجتماعية معهم. (كلما استحضرنا كل ذلك وغيره) نحاول أن نغوص في التفاصيل الدقيقة ليس بغاية التنفيس السيكولوجي عن حاضر مختنق نعيشه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومجاليا، ولكن لننقل تلك الصور والمشاهد والأحداث والأشخاص، لنتقاسم الحديث عنها مع الجيل الذي كان واليوم يستمرئ ما يعتبره فيضها وبهاءها، ومع الجيل الذي فتح عينيه على الإسمنت، فلم يجد بيوتا واطئة ولم يشم عبق عرصات متناثرة في لفريقية والزاوية، ولم يسمع أصوات الباعة الجائلين يوزع بعضهم الحليب الطري في الصباحات الباكرة أيام الربيع المزهر واللبن عندما ينتصف النهار، ولم يسمع باعة "كرموس النصارى" على شواري دوابهم غير آبهين بالأشواك التي تتطاير من الفاكهة المتوحشة، ولنعيد تركيب تلك الصور الضائعة في هذه الذاكرة وتلك، بغرض إزالة الشوائب منها وترميمها، وتقديمها في حلة يستطيبها القارئ المتتبع العزيز.
في زمننا الذي عشناه ووعيناه، كنا في صباحات الربيع الباكرة الجميلة ننتظر قدوم واحد من أولئك البسطاء الذين يتنقلون عبر الأزقة على دوابهم وهم يصيحون: حليييب ...حليييب. وعندما كان من مهامنا ـ نحن الصغارـ تلبية نداء بائع الحليب إذا تعذر علينا اللحاق به عند السي مصطفى الصولاحي، كنا نحمل أكوابنا الصغيرة التي لا تتعدى نصف لتر في أحسن الأحوال، لنعود به إلى حيث يمزج بقهوة الصباح لنشد بعدها الرحال إلى المدرسة بعد أن نكون استمعنا إلى شيء من معتقات القديسة فيروز وما ساء من أخبار حرب ال 67 بين العرب وإسرائيل، وما أدهشنا من أسماء "ليونيد بريجنيف" و"أندري غروميكو" و"نيكولاي بودغورني" أيام الفقيد الاتحاد السوفياتي.
وعندما تعود الأسر عند العاشرة إلى تعديل المزاج ببراد مشحر على الفحم، يخرج صوت هزيل لرجل هزيل وهو يحاول أن يوصله إلى فناء البيوت: نخااااال....نخاااال. هذا النشاط "التجاري" كان له نصيبه من التوفيق، لأن كل الأسر كانت تتوفر على فائض من النخالة اعتبارا لكون السكان يعتمدون على "تكيال" الحبوب بالقنطار أو العبرة في أحسن الأحوال، ولم يكن هناك لا دقيق أبيض "فورص" ولا دقيق سميد "فينو"، ولا دقيق كامل في الأكياس، سوى ما تم شراؤه خاما من السوق، وغسله في البيت ونشره فيه أو خارجا في الهواء الطلق، وتنقيته بشكل فردي أو مع الجارات، ثم حمله إلى الطاحونة لتقوم بطحنه، لتتم غربلته و"شطشطته" بواسطة "الشطاطتو"، والإبقاء على ما فضل من النخالة لبيعها.
لا يختفي الجائلون على مدار الاسبوع، إلا حينما "تسوء" الأحوال الجوية. وفي أيام الجمعات يأتي صوت ذلك الرجل المتمنطق ب"مزيطه" والحامل لدعدوعه الذي يشبه دعدوع المرحوم بوجميع، فيشرع في قرعه إيذانا بمجيئه. وبعده أو قبله أو بالتزامن معه، تقبل تلك المرأة المنهكة القوى، ترسل ذلك الصوت المتوسل الرخيم من أجل كسرة خبز: "آ من جاد علينا بخبيز الله يلحكها للوالدين".
وعندما يفيض "الكرموس" على جنان نبات الصبار (الدركَ)، يملأ بعض الباعة الجائلون "شوارياتهم" بالهندية دون انتقاء ودون تمييز على أساس البنية الجسدية للكرموصة. داخل الشواري تستوي "القرصيحة" مع الطايبة الهارية، فيتوزعون على أزقة ابن جرير: "كرمووووص...واه الكرموص". ولأنه كان يدخل في مجال سد الخصاص في الأيام المعسرة، فقد كان "الكرموص" الوفير ساعتها، بمثابة وجبة متكاملة حينما يصاحبها الخبز "المراكس" أي القمح مع الشعير. وللتدليل على أن الأمر كان كذلك، فيكفي أن تلقي نظرة على ما كان يلفظه البشر قرب الدور المهجورة أو في الخلاء، لترى "بلورات" الكرموص تزين "داك الشي" كأنه قطعة من "محنشة" محشوة بقشور الفواكه المصبرة.
ولا يتخلف أصحاب حيازة بعض المتلاشيات ـ على غرار ما نشاهده اليوم ـ عن تأثيت ذلك المجال البنكريري البسيط في الأزقة الضيقة لبعض الدواوير المتربة ، ولكن مع اختلاف في نوعية المحتويات.
من بعيد يصل الصوت كأنه منبعث من قرار بئر عميقة: قراعي للبيع، الشراوط للبيع، صباط بالي. وباستثناء القراعي التي كانت من الزجاج، وكانت تستعمل للزيت "الرومية" وللمشروبات الغازية والروحية، فإن باقي المتلاشيات من ألبسة ونعال وأحذية، تكون في الغالب في أرذل مراحل همرها من كثرة تلحيمها إن كانت بلاستيكية، ومن كثرة "تسميرها" إن كانت جلدية، ومن كثرة ترقيعها إن كانت من الصوف أو القماش. وكثيرا ما كان يحتفظ بالملابس والنعال إن صغرت مقاساتها، لأنها في إطار التداول الديمقراطي عليها من طرف الإخوة الكبار الذين يتنازلون عنها للصغار، لا يتم طرحها للبيع إلا إذا أنهت مهمتها بالكامل مع آخر حبة عنقود داخل البيت.
وللزينة عند النساء من خواتم و"خلاخل" ودمالج وأقراط وكحل بمروده وغمده، و"حركوص" وسواك ملفوف كرضيع في القماط وحناء ومشط "الكرن" وصابون بلدي ، جوابها لما يأتي العطار حاملا بضاعته كعروس على الهودج، فتكون تلك الفرصة مناسبة تقيس فيها النساء والفتيات العذارى ما يستحببنه من البضاعة، ويستوين أمام تلك المرايا المحاطة بالبلاستيك، ليسوين ملامح الوجه والشعر، ويتمثلن وضعهن الجديد بعد إضافة أكسيسوارات الزينة.
كل تلك الأصوات ذهبت أدراج الرياح مع الزمن، وكل تلك الروائح دفنت مع أمهاتنا وجداتنا، وكل ذلك اللجاج مع العطار وبائع "الكرموص" بالمائة حبة أو ب "التعريكة" حتى الشبع، ذهب ولم يعد له أثر كما لم يعد أثر حتى للكرموصة "القرسيحة" التي كان يعافها الناس، بعد أن خربت الحشرة القرمزية أو الحشرة البشرية كل جنان "الدركَ"، حتى أصبحت اليوم كالصريم.
لست ربوت