من ذاكرة الكدح البروليتاري التلاميذي، أو حينما كان الشباب يعمل في السوق والحقول والضيعات ليتدبر مصاريف دراسته ويساهم في إعالة أسرته.بقلم عبد الكريم التابي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية من ذاكرة الكدح البروليتاري التلاميذي، أو حينما كان الشباب يعمل في السوق والحقول والضيعات ليتدبر مصاريف دراسته ويساهم في إعالة أسرته.بقلم عبد الكريم التابي

من ذاكرة الكدح البروليتاري التلاميذي، أو حينما كان الشباب يعمل في السوق والحقول والضيعات ليتدبر مصاريف دراسته ويساهم في إعالة أسرته.بقلم عبد الكريم التابي

" لو يذكر الزيتون غارسه
لصار الزيت دمعا"
(الكبير محمود درويش).
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏شخص أو أكثر‏، ‏أشخاص يقفون‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏حينما نتصفح صور تلاميذ ابن جرير الجماعية القديمة للستينيات والسبعينيات في السلك الابتدائي كما الإعدادي، تظهر علامات الفقر والخصاص بادية على السواد الأعظم من خلال نوعية الملابس والنعال والسحنات. كما أننا لو نعود إلى ملفات التلاميذ والخانات المخصصة لمهن آبائهم، وكذا إلى ما كنا نسمعه من إجاباتهم عن ذلك السؤال السوسيو اقتصادي الشهير الذي كان عادة أول ما يبدأ به المعلمون للتعرف على مهن وحرف الآباء من خلال: آش كيدير باك، أو فاش خدام باك؟ كانت الإجابات كافية لمعرفة العامل المشترك الموحد للمراجع الاجتماعية التي تكاد تتشابه وإن كانت بعض التفاوتات تبدو طفيفة ولا تؤشر على فوارق كبيرة بين أفراد جماعة القسم، باستثناء أقلية قليلة تنتمي إلى المركز، وآباؤهم محسوبون على الموظفين الصغار من رجال تعليم وغيرهم. أما في الهوامش فتكاد المسألة تكون "مسكية بمغرفة وحدة".
ولأن ذلك الخصاص كان باديا على قطاع واسع من التلاميذ اليافعين، ولم يكن بمستطاع الآباء تحمل نفقات أسرة كانت غالبيتها تتجاوز ستة أفراد بحكم الولادة الدائمة غير المتحكم فيها امتثالا للقول المأثور (كل واحد يتزاد برزقو). فكان من الصعب على أب مياوم في أغلب الأحيان لا يعود عليه عمله إلا ببعض الدريهمات المعدودة التي لا تكفي لشراء بعض المواد الأساسية من سكر وزيت وشمع وخضر دون الحديث عن اللحم وأشياء أخرى تدخل في عداد الأساسيات، (كان من الصعب عليه) توفير كل هذه المستلزمات بمفرده ودون دعم من أحد أبنائه.
فكان لزاما على كثير من شباب ذلك الوقت وحتى بعض أطفاله، أن يشمروا على سواعدهم ويشتغلوا فيما كان ساعتها متاحا من بعض أعمال الفلاحة ربيعا أو صيفا بما يتزامن مع العطل المدرسية، أو في مجالات عمل أخرى غير الفلاحة.
وهكذا كان "المُوقٌفْ" المجاور للساحة المقابلة ل"دار الضو" في نطاق السي لهلالي بالدوار الجديد، هو المكان الذي يلتحق به الشبان دون نسيلان الشابات في الساعات الأولى من الصباح، ليجدوا الشاحنات و"شاريوهات" الجرارات التي تقلهم إلى ضيعات الحاج عمر التيسير والسي حماد والحاج خليفة والحاج بوشعيب، وذلك لجني بعض الفواكه الصيفية كالخوخ والمشمش والشهدية وغيرها. وكان العمل يبدأ مبكرا من السادسة صباحا وينتهي متأخرا في حدود السادسة مساء مع فترة استراحة غذاء مدتها ساعة، يتناول فيها الشباب وجبة تتكون في الغالب من الخبز وأتاي. وكل ذلك التعب طيلة اليوم بمبلغ زهيد لا يتجاوز الخمسة دراهم، وهي التسعيرة الخاصة بمن يسميهم المشغل بأولاد المدرسة.
كما كان الشباب يشتغل أيضا في الحقول فيما يسمى ب"التنقية" وهي عملية تنقية الحقول وهي عملية اقتلاع تلك الأعشاب الزائدة في فصل الربيع عندما تنمو السنابل وتشرئب أعناقها ممتعظة مما يزاحمها في التملك الفردي للتربة والماء، وذلك عكس ما عليه الأمر اليوم حيث تقوم المبيدات بالمطلوب. وكانت هذه العملية تستهدف حقول الحبوب من قمح صلب وطري (فرينة) وشعير بالإضافة إلى الكمون الذي كانت تشتهر به المنطقة. وعند حلول الصيف يلتحق الشباب مجددا بالحقول للقيام بعملية "النتافة" للحبوب والكمون والعدس، وذلك بمقابل مادي قيمته عشرة دراهم لعمل يستغرق من السادسة صباحا إلى الثانية زوالا.
ولا يرى بعض الشباب الذي كان في وضعية هشة جدا حرجا من أن يقوم بعملية "التسارية" أي التجوال القسري على بعض البيادر (الكاعات) بالدواوير المجاورة حين يكون الفلاحون بصدد درس وتذرية المحصول وتصفيته، حيث يمدونهم ببعض ما يجودون به عليهم، ليبيعوه مجددا أو يستغلوه للاستهلاك.
لم يرتبط عمل التلاميذ بالمجال الفلاحي فقط، بل أنهم كانوا يترددون على السوق الأسبوعية "الثلاث" إما لبيع السجائر بالتقسيط أو لمساعدة بعض باعة الخضر وباعة النعال البلاستيكية (الصنادل)، كما عملوا أيضا في مجال البناء كمساعدين ل"المعلمين" بحمل ما ينبغي حمله من مواد. وهناك البعض ممن كان يعمل في الإنعاش أيضا أي في ما كان يسمى قديما ب"البطالة".
وكثير من التلاميذ الصغار، كانت العطل المدرسية فرصة لآبائهم ليلحقوهم ببعض الورشات كالميكانيك والنجارة وإصلاح الدراجات، ليتعلموا "الصنعة" بلا مقابل أو ببعض "الريالات" المعدودة لجبر خاطر الفتى لا غير.
وفي القشلة مركز ابن جرير، كانت حركة بيع البيض المسلوق في سلات القصب، نشاطا اقتصاديا موازيا لكثير من الشباب الذين كانوا يتسابقون للحاق بأية حافلة تتوقف وسط القشلة. ويحدث نفس الأمر مع باعة الكرموص الهندية. ومزاولوها من شباب ابن جرير وممن نعرفهم من أصدقائنا ب"لفريقية" ودوار الجديد والزاوية والجلود، معروفون ولا حاجة للتذكير بهم.

لا يخلو هذا الانخراط القسري للشباب المتمدرس وغيره ممن لم تسعفه الظروف للذهاب إلى المدرسة، من معاناة بدنية ونفسية شاقة رغم ما يتخللها من لحظات الترويح عن النفس، كما أنها أيضا لم تخل من لحظات طيش للسطو على كل ما يقع تحت اليد من خضر وفواكه ونعال، تكون ثمرة "جهد" آخر تلعب فيه خفة اليد دورا لا يقل أهمية عن خفة قطف "خوخة" أو "مشماشة" من ضيعات الحجاج الكبار هناك. 

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button