من الذاكرة الفنية الشعبية المغبونة: عبد الرحمان الغنامي: مَلِكُ الكمنجة و"الجرَة" في زمنه.بقلم عبد الكريم التابي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية من الذاكرة الفنية الشعبية المغبونة: عبد الرحمان الغنامي: مَلِكُ الكمنجة و"الجرَة" في زمنه.بقلم عبد الكريم التابي

من الذاكرة الفنية الشعبية المغبونة: عبد الرحمان الغنامي: مَلِكُ الكمنجة و"الجرَة" في زمنه.بقلم عبد الكريم التابي

( نوصيك يا حارث الشيح، والشيح فيه المرورة
اللي تظنو وتقطع عليه، تاتيك منو الضرورة
نوصيك يا حارث الدوم، والدوم كثرو نفاعو
الدم ما ينفع الدم، يا ويل من خانو دراعو)
عبد الرحمان المجذوب.
كم هو مؤلم وقاس، أن يعيش الإنسان فترة من عمره يكون سيدها بامتياز لما يكون اسمه يتداوله الكبار والصغار على أوسع نطاق ولما تكون لياقته البدنية في عز عنفوانها، ويجري الناس يبحثون عنه من أجل لحظة إمتاع ومؤانسة يقتطعها من زمنه ومن أوتار كمنجته، ليضفي على المكان وساكنيه وضيوفه طابعا من الترويح عن النفس وأحيانا السمو بها إلى عالم تتداخل فيه الحال المرئية مع الحال المخفية، ولما ينتهي زمن ذلك الشخص إثر مرض عضال أو وفاة تحمل الجسد والروح إلى مثويهما الأخيرين، ينظر أمامه ويلتفت وراءه، فلا يجد إلا من كان من بعض الأسرة القريبة المقربة سندا وكتفا يتكئ عليه في ضعف ووهن وألم وجرح نفسي وجسد متهالك كالحطام، ويقول له: "ما لي سواك ولا ألوي على أحد".
والمرحوم الفنان الشعبي الشهير عبد الرحمان الغنامي، واحد من هؤلاء الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس في زمنهم، وذاعت شهرته في عديد من المناطق، إلا أن اسمه غطى سماء الرحامنة حينما تكون شاتية ماطرة دافئة في الشتاء، وحزينة مزمجرة في الخريف، وأرجوانية في الربيع، وصاخبة كل صيف بأفراحها وأعراسها ولياليها الزاهية الباحثة عن الأنس والسمر في الليالي القمراء في الخيام أو تحت سماء الله المكشوفة في تلك الابن جرير البسيطة التي كان الغنامي ملهمها بما تعشقه الأذن من تراث شعبي كان ولازال يحظى بكثير من التتبع والبحث والاهتمام من طرف قلة قليلة ممن يسكنهم جني الجرة وتمدد الحنجرات، وباللامبالاة ممن يفترض فيهم أنهم الأوصياء على الشأن العام وفي صلبه الشأن الثقافي بمعناه الواسع.
كان ناس الرحامنة يعرفون السي سوان وكبور وولد شكيل وعمرالحسوني وغيرهم، لكنهم كانوا يتنادون بالمرحوم عبد الرحمان الغنامي. وأحيانا يستحضرون اسمه على سبيل مقارنة ما لا يقارن، أو على سبيل المراهنة والتحدي، فيقول واحد للآخر: "إيوا مالك كيتسحاب ليك جايب لينا الغنامي".
حينما يحضر الغنامي بفرقته، يبدو وسطها بأناقته وأسنانه المذهبة، وجلاليبه المقتناة بعناية، وبلغاته الصفراء الحادة الرأس وطاقياته التي يضعها حسب حساب المثلثات والخاتم الذهبي الذي يزين أصبعه، كأنه سلطان كل الأنظار تُشَدُّ إليه واقفا كان أو جالسا أو حينما يمشي مختالا ذات اليمين وذات الشمال، أما حينما تحتك الأوتار بالأوتار، ترتخي كل الآذان لتنساب الجرة انسياب الخدر في العروق، خاصة وأن حفلات وأعراس ذلك الزمن، لا يعتبر حضورها ذا قيمة والاستمتاع بها ناجزا، إلا إذا تدفق النبيذ الأحمر ووصلت روحه المركزة إلى "ملغيغة" الرأس.
يتحدر المرحوم عبد الرحمان الغنامي من دوار ولاد غنام بسيدي بوعثمان. انجذب إلى الكمنجة كما ينجذب إليها صغار البادية في الأرض الخلاء، وعندما نما الجسم وبرزت شعيرات اليفاع، سيذهب إلى مراكش وبالضبط إلى عالمها السحري بجامع الفنا الذي انشد إليها عديد من المشاهير وعلى رأسهم الكاتب والأديب الإسباني "خوان غويتسولو" الذي عاش بمراكش عقودا من الزمن وبها توفي. هناك في جامع الفنا مثلما انشد "بول بولز" و"جان جوني" إلى طنجة الساحرة.
سيُمضي المرحوم الغنامي فترة غير يسيرة من بداياته الأولى، وفي عالمها السحري الذي تختلط فيه كل الأرواح من التراث الشعبي المغربي، سيزيد تمرسه على العزف على الكمنجة ومما اكتسبه من اختلاطه ببعض المجموعات الغنائية التي كانت تنشط هناك ومنها المخاليف اساسا.
بعد ذلك انتقل إلى ابن جرير التي كانت وقتها منطبعة بطابع "البداوة" في المجال الجغرافي والميول الثقافي والفني، حيث استقر بالدوار الجديد جوار "با علال كعيكعات" وبين العدوتين (دار الوكادي ودار بنمفتاحي، ذلك المخزني الذي اشتهر بقتل الكلاب الضالة بالبندقية على غرار مجايليه من المخازنية المعروفين آنذاك والذين كان غالبيتهم يقطنون بالبلوك).
بدأ مساره الفني الجديد مع مجموعة من النساء اللواتي يمتهن الغناء الشعبي ك ( رشيدة ـ د) و(رشيدة بنت مول الما ـ وعائشة بنت (...) و(لعزيزة) وغيرهن ممن ارتبطن بمجموعة الغنامي، التي غنت في عدد من الحفلات العائلية والرسمية كالأعياد الوطنية، وانتشرت شهرتها بشهرة "الشيخ المايسترو" الغنامي، الذي صار كبار القوم في منطقة الرحامنة لا يحتفلون وينشطون ويستمتعون، إلا بحضوره.
عندما بدأت ظاهرة المجموعات الغنائية الشعبية في ابن جرير في الانحسار، بعد ظهور موجات جديدة من الغناء وبعد دخول آلات عصرية على التوزيع الموسيقي، انكمش نجم الغنامي خاصة بعد أن أصيب بمرض في الكلي، والذي تسببت له في آلام وأوجاع فظيعة، وزاد الألم والمعاناة النفسية بعد أن اكتشف أن ذلك الغنامي الذي كان له دوره في المشهد الفني، وكان له اسمه ومعارفه، ليس هذا الغنامي الذي جار عليه وعلى أسرته الزمن، وصارع المرض والحاجة وحيدا دون أن يلتفت إليه أحد من الوسط الثقافي "العاقل" ولا أحد من سلطات البلد ومجالسه المنتخبة. وبقي على تلك الحال يصارع بما بقي في الحنجرة من بحة مصحوبة بغصة العقوق والجحود إلى أن توقف القلب وتوقفت الأصابع، وصعدت آخر حشرجة موت إلى حيث مستقرها الأبدي، ليغادر الغنامي هذه الدنيا تاركا من متاعها تلك الكمنجة وكثيرا من العوز والحاجة لدى أسرته/ زوجته على الخصوص.
سيكون اختيارا موفقا إذا ما أقبلت جهة ما على مبادرة الالتفات إليه وإلى أسرته وخاصة الالتفات إلى ما ساهم به في المجال الفني الشعبي، الذي كان له جمهور لا يختلف عن جماهير الكرة.في ذلك الزمن الذي كان كباره وجزء عريض من شبابه وشاباته، لا يفترون من ترديد:
وفين ايامك يا بنكرير
ياك الغبرا والكور يطير
ياك الغبرا واكصاص الخيل
و فين ايامك ألاربعا
كان موسم ولا حركة
لا خزانة ولا عود ابقا
و فين ايامك آبو عثمان
اكدات النار بلا دخان
ورا الطرابش كي بلعمان
ورا الموتى كيف الذبان
ورا العسكر حابس البيبان
ورا الخواجة مزوق لولاد
أما نحن، فلا يسعنا إلا أن نردد:
وفين يامك يا الغنامي

شي عطاتو، شي كلعت ليه.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button