شهد المقر المترب المجاور لبيت الأستاذ عبد المجيد فرح بالدوار الجديد، ميلاد فاتح ماي الجميل الصاخب الهادر في فجر البدايات الأولى لثمانينيات القرن الفائت. وفيه أينع الزمن النقابي الذي كان مأوى لمن لا نقابة له، وملاذا للاحتماء من المظالم التي كانت مثلها كمثل كائن بشري شديد الغلظة يحمل السوط والمهماز، ويتجول في المدارس والثانويات ونيابة التعليم وفي المؤسسات والإدارات وفي سكة الحديد ومكتشف تراب الفوسفاط.
في ذلك المقر المترب الهش، كانت تحرر تصاريح الخروج في سبيل الوطن يوم العيد الأممي الكبير، في ذلك المقر المترب المتداعية جدرانه وسقفه إلى السقوط، كان يرسم خط المسار والمسير والختم والنهاية التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد..في ذلك المقر المترب، كتبت اللافتات بعرق المناضلين..في ذلك المقر المترب، كانت تقام صلوات "الاستخارة" النضالية بحثا عن وطن دافئ آمن عادل يتسع للجميع...في ذلك المقر المترب، كان المهدي بعينيه المتقدتين شامخا يعلو، يعلو ليرى الوطن من بقايا حوض الأسيد، وكان عمر دوما مبتسما للآتي الذي لا ريب فيه...أمام ذلك المقر المترب، كانت عيون المخبرين ترابض هناك منذ الساعات الأولى ليوم العيد، وهي تحصي سكنات الداخلين والخارجين، وتدون آلام وآمال الشغيلة في مفكراتها الشخصية الصغيرة، لتبلغ رؤساءها بطبيعة الأمل والألم ونوايا البحث عن مطارق لتكسير القيود الظالمة والبحث عن الخبز والدفتر وحبة الأسبرين من أنياب رأسمال مستبد فاسد فاحش. في المقر الهش المترب كانت فلسطين تسكن ساريات التراب والقش والقصب وخشب السقف، وكان أحمد قعبور شاهدا، وكان سميح القاسم شاهدا، وكان الهمشري شاهدا، وكان صلاح الخلف والحكيم حبش وأبو عمار شهودا، وكان "العاشقون" والإمام الضرير وبنت الجبل، يحيون صباحات العيد قبل انطلاق الشعب وخروجه ليصدح ويستهجن ويندد ويستنكر الاستغلال وقواه المافيوزية، ويطالب بالأمن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية في غيران الفوسفاط وفي الحقول والمصانع والموانئ والمدارس والمستشفيات وحيث يوجد كل أثر للاستعباد والاستغلال.
في المقر المترب، صدحت حيطانه أن ولد الشبعان باطرون غدا...كرشو كدامو ويتهدى ..كيتخير ويتنخوى...وعلى الشفرة مربي الكبدة...هو ياكل التمرة، وولد المسكين ياكل القشرة.. وولد المسكين مضيوم غدا..قد ما طاح قد ما يتزوى..ف حرارة المعامل يتكوى...وف غيران الفوسفاط يتربى..ومع الطالب يعمر لو الراس ويتقوى.
كثرة حنا وقلة هوما..والفرق من يوم الولادة..والفرق شلا شلا ما بين ولاد الشغالة عايشين بالما والبيصارة...و ولاد ولاد الشفارة عايشين بالمشوي وشلاضة...والفرق من يوم لولادة والفرق شلا شلا... ولادهم يورثو الوزينات والدريهمات والبنكات والعمارات والتبنديرة ف البرلمانات... وولد المسكين يورث الخطيات وكويلة والدربالات والكوب والدمالات والنعسة ف الكوانات...يورث البارود..يورث السيف ..يورث ثورة جبالة ف الريف وكفاح الجدود، وف أمزميز وأيت باعمران وزيد وزيد.
في المقر المترب، عاشت الكدش أزهى أيامها وهي تخلد العيد الكبير بلا ذبيحة سوى ذلك الصدق في النضال من أجل الدفاع عن حقوق مكتسبة وأخرى مهضومة في بلد يعز اللصوص ويذل المبلغين عنهم.
في المقرب المترب، كان مناضل صادق اسمه لحسن مبروم، مثالا للنقابي المتفاني الصامد، الذي أدى الثمن غاليا بدءا من القمع والملاحقة مرورا بالتوقيف عن العمل لمدة سبع سنوات عانى فيها الفقيد ومعه أسرته كثيرا من المحن، مرورا بالاعتقال ومخلفات السجن، والحرمان من الحقوق المدنية حيث ظل بلا بطاقة وطنية لسبع سنين، وانتهاء بآلام المرض الخبيث الذي وضع حدا لحياته.
لروحه في هذا العيد المحجور عليه، كل السكينة والأمان الأبديين، وله المجد ولأسرته الفخر، أنه كان مناضلا نقابيا استثنائيا، كان بإمكانه أن يجنبه الصمت والمداهنة والريع النقابي كل تلك الآلام والمعاناة، لكنه لم يفعل، لأنه من طينة الكبار.
(الصورة من أحد فواتح ماي بداية الثمانينيات بابن جرير، ويظهر فيها الفقيد لحسن مبروم على المنصة بلباس عمال الفوسفاط).
لست ربوت