من الذاكرة النضالية والثقافية التي لا يمكن أن يطويها النسيان: ياسير بلهيبة: بقلم عبد الكريم التابي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية من الذاكرة النضالية والثقافية التي لا يمكن أن يطويها النسيان: ياسير بلهيبة: بقلم عبد الكريم التابي

من الذاكرة النضالية والثقافية التي لا يمكن أن يطويها النسيان: ياسير بلهيبة: بقلم عبد الكريم التابي

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Yassire Belhaiba‎‏‏، ‏‏نظارة‏‏‏‏
( شهوة السكين لن يفهمها عطر الزنابق
سأغني وليكن منبر أشعاري مشانق
أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب كل قارئ)
الكبير (م/ د).
لم أنس ياسير بلهيبة ولم يسقط من مفكرتي لا عمدا ولا سهوا، ولم يخطر ببالي أن أستحضر مع نفسي أو مع الناس ذاكرة المدينة وبعض أشخاصها، دون أن يحضر طيف عدد ممن استوطن ذاكرتي الشخصية، وخاصة أولئك الذين جاورتهم في لحظات استثنائية في تاريخ ابن جرير، ومنها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، الحراكات الاحتجاجية البطولية للجمعية الوطنية لحاملي الشهادات المعطلين في ذروة عنفوانها زمن التسعينيات والنصف الثاني منها على الخصوص، إلى جانب الهدير الصاخب الذي ارتبط بتلك الريح السموم القادمة من الشرق التي سميت بحركة 20 فبراير.
كان ياسير حاضرا في مفكرتي، واتصلت به بداية انطلاق مشروع الذاكرة هذا، وأعلمته أن الدور سيكون عليه، وتبادلنا أطراف الحديث عن الماضي والحاضر، لكنه اعتذر لي لأسباب تتعلق به. قبلت اعتذاره رغم أنني لم أتفق معه في الدواعي والأسباب. لكن مادام الأمر صار مرتبطا بمشروع سيجمع عما قريب في هيئة كتاب، فقد بدا لي أن استشارته تجانب الصواب، لأنني لست كاتب بورتريهات لأشخاص محددين في الصفة والهوية والمراجع الثقافية والاجتماعية. ففي هذه الذاكرة من كان محسوبا على الحركة الشعبية أو الأحرار أو الاتحاد الدستوري، سيجاور من كان في المنظمة أو الطليعة أو الاتحاد الاشتراكي أو البام أو العدل والإحسان أو العدالة والتنمية أو كان مرتبطا بأي تعبير يساري جذري أو حتى "البدون" Les SAP ( Sans Appartenance Politique ).
في الفترة الممتدة بين 1995 و2014 التي عشت كثيرا من أحداثها بكل تفاصيلها السياسية والاجتماعية والثقافية، كان ياسير حاضرا في قلبها بكل قناعاته وجوراحه .هذا التأكيد وما سيلحقه، لا علاقة له بالشهادة لأنني لا أضع نفسي في موضع الشاهد الذي يوزع الشهادات، ولا علاقة له بكتابة البورتريهات، ولكنه يقترب من الذاكرة ويكاد يبتعد عن التاريخ بيداغوجية ومنهجا.
ياسير كان فاعلا في النضالات الجماهيرية من باب الخلفية الفكرية والسياسية التي كانت تؤطر ممارسته الميدانية، أو قل هي البوصلة التي يهتدي بها في مداخلاته ونقاشاته وتقديراته التي تعرفت عليها في كثير من اللقاءات التي جمعتنا لما كانت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي كنت أحد أعضائها، المناصر الأول لنضالات الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين، وكان مقرها هو المقر الذي شغلته الجمعية لفترات طويلة، وفيه اتخذت كثير من القرارات المهمة، ومنه خرجت كثير من الحراكات الاستثنائية في تاريخ ابن جري. ومنه أيضا نُسِجتْ طريق الحرير إلى كثير من الصداقات الإنسانية وكثير من علاقات الرفقة التي حتى وإن جار عليها الزمن، فإنها ستبقى حية لن تموت.
ومعركة المعطلين تلك بتضحياتها ومحاكماتها وأرباحها وخسائرها، إن كان من شيء فيها يوضع في خانة الأرباح المهمة بمقياس التاريخ، فهو في اعتقادي أمران مهمان: الأول، أن بعض الوجوه القليلة جدا والمعروفة جدا ومنها ياسير إلى جانب السعدية بوخير وعزيز بابنة والحسين الراشدي وابراهيم المونتيس، كانت لا تضع مسافة بين مطالبها في الجمعية، وبين إسنادها للحركات الاحتجاجية وكل النضالات التي كانت تدعو إليها تعبيرات سياسية ومدنية أخرى، وذلك بحضورها المستمر ومساهمتها في إنتاج المواقف والبرامج النضالية، وفي ترجمتها عمليا في الميدان (وقفات واحتجاجات وبيانات). والأمر الثاني الذي بفوق الأول أهمية، أنه بالرغم من كون ياسير والسعدية وبابنة أصبحت لهم أحذية بعد أن حصلوا على فرص شغل بعد معاناة مريرة، فإنهم استمروا في السير مع الحفاة وإسناد نضالاتهم ومطالبهم سواء تعلق الأمر بما له علاقة بالشأن المحلي أو ما تعلق بالقضايا الوطنية الكبرى.
وستكون حركة 20 فبراير المنعرج التاريخي الذي انخرط فيه ياسير كبقية المناضلين الذين كانوا يؤمنون بأن التاريخ لا يسير وفقا لخط مستقيم يحمل الاستبداد والفساد والظلم واللاعدالة واللاإنصاف، ويؤبدهم إلى ما لا نهاية، بل كانت 20 فبراير لحظة الانعراج المفصلية التي تستحضر ما قاله "هيجل": (لا شيء عظيم تحقق في التاريخ بدون معاناة).
لم يكن ياسير كغيره من المناضلين الذين طبعوا تاريخ ابن جرير في لحظات معينة، ينزوي إلى الظل منحشرا وسط الصراخ، أو لا يفتح فمه إلا إذا كان محميا بطوق من المناضلين، بل كان ما يقتنع به لا يتردد في الجهر به في أي مكان وفي أي ظرف ومع أي كان ممن يملكون سلطة القرار وسوط التنفيذ، وحتى مع رفاقه في كل المسارات المختلفة التي جمعته بهم، والتي انتهى بعضها مؤلما وخسارته على حركة النضال المجتمعي افدح من خسارته على مستوى الأشخاص، مادام الأشخاص عابرين وحركة النضال من أجل المغرب الآخر لا زالت وستبقى مستمرة إلى أن يتحقق ما قدم من أجله السابقون واللاحقون كثيرا من التضحيات التي لا تعد ولا تحصى.
قبل 20 فبراير، لم يكن ياسير مرتبطا فقط بحراك المعطلين فحسب، بل أن قبعة جمعية "أطاك المغرب" لطالما أكدت حضورها الدائم بتنظيم بعض الأنشطة إلى جانب تمثيليتها في كل ما كان ينظم بشكل مشترك على صعيد ابن جرير، كما أن ياسير كان مندمجا في السيرورة التنسيقية الشهيرة، التي كانت بمثابة متراس في زمن استبدادي محلي على عهد الولاية الجماعية للسيد محمد العيادي 2009/ 2002 ، والتي واجهت كثيرا من المظالم التي كان رئيس المجلس مصدرها، ولعل أشهرها طرد عدد من الموظفين الذين "تجرؤوا" على زرع البذور الأولى للفعل النقابي داخل بلدية ابن جرير، وكان ياسير بطبيعة الحال واحدا منهم، وبالنتيجة سيكون واحدا ممن سيشملهم الطرد. ومن يجرب عذابات الحرمان من الرزق الأسري وما يستتبعه، سيدرك معنى النضال ومآلاته، وسيدرك معنى أن يطلب منك أصحاب الكنبة أن تكون جائعا ورائعا في نفس الوقت كما قال الكاتب المكسيكي " أوكتافيو باث". ولأن تلك التنسيقية كانت على درجة من التفاعل اليومي مع الأحداث المرتبطة بالخدمات الاجتماعية في ابن ابن جرير ، فقد كان ياسير واحدا من أعضائها الذين لم يستكينوا إلى "قدر" المظالم، بل تحركوا في كل اتجاه بدءا من صياغة بيانات التنديد والاستنكار والمطالبة باسترداد الحقوق المهضومة لكافة ساكنة البلدة في القطاعات الحيوية كالصحة والماء والكهرباء، مرورا بعقد اجتماع مع عامل إقليم القلعة آنذاك محمد كلموس، وكذا عقد ندوة صحفية بنادي المحامين بالرباط.
ولأن المراد ليس هو أن ياسير كان وظل وبات وأمسى وأضحى وما انفك ومادام وما فتئ ومازال وصار ، فإن ما يعتبر في تقديري واحدا من معوقات تطور الحركة الديمقراطية ، هو تلك الثقافة المدمرة التي تسري فينا جميعا مجرى الدم في العروق، والتي ترفع شعارا مركزيا "لنأكل بعضننا البعض، ولننهش بعضنا البعض حتى لا نبقي سوى على العظام وما فضل للأغراب حتى يستطيبوه في سخرية وتشف لا يتوقفان". وما يثير الاستغراب في تلك الثقافة المحنطة في توابيت الاستعلاء، هو أنها تستمر في تحنطها، بل قد تورثه لمن يأتي بعدها في حروب لا تختلف عن حروب المبجلة السيدة "البسوس" التي استمرت حوالي أربعين عاما حسب البعض أو أقل من ذلك حسب البعض الآخر.
ياسير رجل عصامي في تكوين ذاته على الأقل ونقل عصاميته إلى آخرين من خلال مبادرات انطلقت من ابن جرير وبالضبط من مركز التثقيف الذاتي، ونضجت بدراسته لعلم الاجتماع واهتمامه بالجسد وتعبيراته، وتوجت بإصداره لكتاب "الجسد الراقص كإشكالية" (منشورات آدم 2018)، وسيظهر له قريبا إصدار جديد سيكون رهن إشارة القراء في المكتبات فور وصوله من مصر.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button