أتسلل بنظرة.. يوم مشمس، فأجرب بلمسة.. زجاج بارد فعلٌ صباحيٌ لرصد الجو من خلف الجدران، لكنّي في الغد سأفتح الباب وسأخرج وسأعرف إن تغيّرَ الطقس فعلا، في الغالب أصبح أكثر دفئا، أراهم ينشرون صورا على مواقع التواصل بثياب أقل سماكة، هذا يعني أن الربيع قد اقترب، لكن هل سيحصل كل هذا التغيير في أربعة عشر يوما فقط؟! أساسا كنت أستطيع فتح باب الشرفة طيلة الأسبوعين الماضيين، لكني لم أفعل، فهذه كانت بطاقة حصانتي من غدر البرد الذي قد يوصلني لحجر صحي حقيقي في مشفى بسبب الشكوك! فكان الأسلم فتح النوافذ قليلا لأجل الأكسجين فقط وهو ما سأفعله مجددا الآن، لكن ليس اعتبارا من الغد.
إلى المرآة الآن.. هل كبرتِ في أسبوعين لهذه الدرجة؟ لم تغيرت ملامحك؟ لون جلدك باهت، ربما لأنك تفتقدين الشمس، أهي عيون متعبة تخفي شيئا؟ لا داعي للمبالغة كل ما في الأمر أن وجهك يفتقد لمساحيق التجميل، لكن لماذا لم تستخدميها طيلة الأربعة عشر يوما الماضية؟ وهل كان ذلك ممكنا أساسا دون رغبة أو طاقة؟ أما الآن فاغسلي وجهك جيدا وغادري الحمام سريعا لا تمكثي طويلا، ففي الغد ستضعين مساحيق التجميل وستخرجين بأبهى حلة، ألا تفتقدين التأنق الصباحي؟ بلى لكن ماذا عمّن سيقابلونني مجددا؟ الكل اهتم بك في هذه الفترة فلم كل هذه الهواجس؟ لربما سيكونون قلقين من أن أنقل إليهم الفيروس؟!
كفاك تفكيرا ومبالغة، أخذتِ كل الاحتياطات وجلست في الحجر المنزلي لأربعة عشر يوما، ستنتهي بتحاليل تثبت على الأقل أن كرياتك البيض غير مستنفرة وهذا يكفي لهذه المرحلة طالما أنه لا يوجد أعراض حقيقية، وفحص الكورونا لا يمكن إجراؤه ببساطة للجميع، فهو متاح فقط لمن لديهم أعراض حادة وكانوا في مكان به إصابات وأنت لا تحققين إلا شرطا واحدا، بالتالي ستنهين هذا الحوار الصباحي مع ذاتك فورا، وستستمرين بأخذ الاحتياطات كي لا يقلق زملائك، فمن يعلم؟! لربما يبقى الفيروس كامنا لأكثر من أربعة عشر يوما كما يقول البعض، ومن يعلم أيضا، لربما سيحوم الفيروس بقربك مجددا، لكنك على الأقل أصبحت خبيرة في تعليمات الوقاية، وهذا جيد.
والآن.. تحضير القهوة الصباحية، في الغد لن أحضّر وجبة منزلية للغداء ولا للعشاء، سآكل في الخارج، أفتقد الجلوس في مقهى فهذه من عاداتي المحببة، ما الذي تهذين به الآن؟ أهذه هي الاحتياطات التي تتحدثين عنها؟ ستستمرين بنظام غذائي صحي، لكن لا ضير من فنجان قهوة في أحد أماكنك المفضلة، تذكري أن تحملي القفازات والمعقمات معك.
هل تحول الأمر بالنسبة لك إلى وسواس قهري الآن؟ كفّي عن ذلك، تذكري ما تعلمتيه في هذه المدة، لا للهلع لا للتوتر واستمري بأخذ الاحتياطات، هل تعرفين أنك اختبرت الكثير في أسبوعين فقط؟ عرفت من يهتم لأمرك بالفعل، لمست محبة عديدين أصروا على التواصل وإن كان عن بعد ولساعات أحيانا، واختبرت قدرتك على الصبر، صحيح أنك أخفقت وبجدارة في الأسبوع الأول، لكنك كنت قوية واستطعت تجاوز الكثير.
كفاك مبالغة.. مجرد حجر صحي لأسبوعين وفي المنزل، فماذا لو كنت معتقلة أو سجينة لأشهر أو لسنوات؟ نعم هذه هي فرح التي أعرفها، لكن مع ذلك ستسمحي لي بأن أفرح في الغد كثيرا، حسنا لا ضير في ذلك لكن في الحقيقة لم أعد أشعر برغبة حقيقية في الخروج..! أتذكر الأسبوع الأول من الحجر المنزلي جيدا، كان أسبوع انتظار الكورونا بامتياز، خوف وقلق وملل وتأفف، شعور بالاختناق يجر الذهن نحو التفكير بكسر الحظر، وعمليا لم يتجاوز ذلك فتح النافذة ليتسرب عبرها الهواء قليلا.
الأسبوع الثاني مختلف، هو أسبوع التأقلم لدرجة اعتياد العزلة، لا تفكير بما خلف الجدران ولا طاقة ولا حماس أحيانا، وكل الخيبات تحضر معا، ولتجربة الأسبوع الاول تأثير بالغ، يترافق ذلك وخمول، الخمول ذاته هو الذي سيبدد كل ما سبق في وقت لاحق، فهو مريب في حالة الانتظار، الوقت ثقيل، ويصبح فيروسا أقوى على الذات من الفيروس نفسه، فيفسح المجال لصراع مع ذاتك وقناعاتها وأوهامها، وتشتد المعركة أحيانا ويهزمك أنت وذاتك معا في أحيان كثيرة.
أتذكر اليوم الأول من الحجر أيضا، كان قصيرا جدا، لم يكف لحل كل المشاكل ولا للإجابة عن كل التساؤلات ولا حتى لإجراء ترتيبات العزلة الإجبارية الفجائية، فالحجر يعني ألا تخرج وألا يزورك أحد، وحين تكون غريبا مغتربا إراديا قد لا يختلف ذلك عن الوضع الروتيني، ولكنه يصبح مختلفا كليا في الحالة القسرية، وأبسط الأسئلة كيف سآكل؟ وجواب هذا السؤال وغيره كان لدى الأصدقاء الذين رتبوا الحلول السحرية لكل شيء، وعن بعد.
اعتبارا من اليوم الثاني، يطول الوقت ويزيد التفكير، في هذا اليوم أجريت واحدا من حواراتي مع ذاتي، فخاطبتها بالقول "لنعتبرها إجازة، هي فرصة قسرية للراحة بعد أشهر من العمل والسفر، لننم ساعات أطول، لنشاهد الأفلام، لنطبخ أكثر ولنعد للكتابة ونستمع لموسيقانا المفضلة بهدوء، لنحلّق في عالمنا الذي نحب دون ضجة، لنؤجل كل الخطط لوهلة، فلن نتأخر أساسا على شيء"، في الحقيقة ورغم الجرعة الإيجابية، لكن لا أنا ولا ذاتي ولا الآخرين كنا نعرف ما الذي يخبئه الوقت، فالنوم المنشود سيسبقه إغراق في التفكير، وسيبدده عطاس أو سعال، هو ذاته ما سيزيد القلق والريبة.. والوقت.
غرقت بعدها بمتابعة أخبار الفيروس المستجد، وبالتواصل مع أمثالي من الفريق الصحفي الذي غادر طهران مباشرة بعد تغطية الانتخابات البرلمانية الإيرانية لقناة الجزيرة، ومع من تركتهم هناك ووضعهم أصعب في الحقيقة، لكن اللافت كان تقاطع الكل عند إيجابية التعامل، وبالقرار المسبق بعدم جر التواصل الالكتروني نحو مساحة الخوف، نعم كلنا خائفون لكن لا أحد يعترف أمام الآخرين، فإن تحدث أحدهم مثلا عن ظهور عارض صحي فهذا يعني أن الفيروس قد اصطاد أحدنا، وإخبار الآخرين يعني أنهم باتوا في مرمى الكورونا والمسألة مسألة "وقت" وحسب، فتحوّل التواصل لتبادل صور القهوة والطعام اليومي وطرائف الكورونا وحتى لميزان الحرارة، الصديق المقرب في هذه الفترة، فهو الوحيد الذي سيواجهك بالحقيقة، ومع ذلك كان شبح الكورونا يخيّم أحيانا، خاصة حين يقرر أحدهم الحديث بصراحة متأنية عن مخاوفه، لكنني من جهة أخرى احترفت الكذب الأبيض المتاح، خاصة حين كنت أتلقى اتصالا من أحد أفراد العائلة.
بعدها، مررت بأول انتكاسة صحية ونفسية حقيقية، اختبرت أعراضا تشبه الزكام، وبدأت أتبادل المبررات مع ذاتي مجددا.. هذه حساسية، فأنت تعانين من حساسية موسمية وتعرفين ذلك جيدا، لا لا.. هو ذات الزكام الخفيف الذي أصابك قبل الإعلان عن الكورونا في إيران أساسا وهذه هي مراحله الأخيرة، أتذكرين حين كنت في مركز الاقتراع تغطين أخبار ذاك اليوم لقد عطست أكثر من مرة لدرجة أن الجميع ضحك، فالكل كان قد سمع حديثا بوصول الكورونا لإيران.
في يوم الانتكاسة تحديدا، التصقت بميزان الحرارة، فالطبيب الذي يتابع معي عن بعد قال إن ارتفاع درجة الحرارة هو الأساس حتى بوجود الشعور بالإرهاق، لكن الحجة العلمية لم تنفع مع الانتكاسة النفسية، التي اشتدت مع تأكيد إصابة شخصين تحديدا في ذات اليوم، أحدهما كان قريبا مني في مركز الاقتراع وجلست مطولا مع فريق عمله، والآخر هو مستشارة الرئيس الإيراني التي حضرت لاستديوهات الجزيرة وشاركت في إحدى نوافذ التغطية، لم أكن موجودة في ذاك التوقيت تحديدا، لكن الفريق كاملا كان معها، كل ذلك يعني، نعم.. أحدنا مصاب بالكورونا.
كلما طال الوقت اتسع قطر دائرة المصابين في إيران حتى ممن أعرفهم شخصيا، وتزاحمت معه الأفكار، ومع أن ذاتي العقلانية خبيرة في كبح ذاتي العاطفية لكنها ضعفت هي الأخرى فغرقتُ بالبكاء، فمن الآن وصاعدا أنا في انتظار أخبار أسوأ، ليس لأنني سأصاب بالكورونا وهي الفكرة التي اعتدتها لوهلة إثر خسارة معركة مع الوقت، بل أيضا لعدم قدرتي على التأقلم مع فكرة أكبر، أسرى الوقت الآخرون.. زوجي صديقاتي أصدقائي زملائي.. كلهم في دائرة الخطر الآن والخسارة ستصبح جماعية!
يمر الوقت فتختلف الأمور قليلا، باغتتهُ ذاتي مرة وعلى حين غرّة، فأضاءت لي دائرة عريضة حول فكرة أن التوتر يؤثر على جهاز المناعة وهو ما سيجعلنا فريسة سهلة، ففي هذه المرحلة كنت أواجه واقع أن الفيروس كامن ويتجهز للانقضاض وما علي إلا أن أفعل ذات الشيء، غذائيا وصحيا، ولا خيارات أخرى لدي، ومن هذه اللحظة تحديدا تصبح الأيام التالية متشابهة، انتظار وترقب، ضعف حينا ونسيان حينا، فيمر الوقت مجددا، لكن يبدو أنه يصاب بالملل مثلنا أحيانا، خاصة حين نستسلم له، في لحظة كتلك عادت ذاتي صارمة حازمة، فعلمتني معادلة الوجود والايمان بالقدر جيدا.
أنا الآن وبعد أسبوعين، أستعد للخروج من بيتي لإجراء تحاليل روتينية ولأعود لحياتي الطبيعية مع بعض الحذر والتوصيات التي على الجميع أخذها بعين الاعتبار، سأخرج وقد سمعت أن كافة أفراد فريق التغطية بخير أيضا، ودون أن يكون الكورونا قد أصابني في الحقيقة، رغم أنه كان منتشرا وقريبا للغاية مني، لكنه لم يخترني، وربما اختارني وهزمته دون أن أشعر، وهذا يعتمد على تشخيص العلماء مستقبلا لطبيعة هذا الفيروس.
أخرج الآن وأنا أتذكر
حطت الطائرة في اسطنبول بعد أن كنت قد أنهيت للتو مهمة تغطية الانتخابات البرلمانية الإيرانية، إشعارات الهاتف لم تهدأ، وجاء في أحدها أن تركيا قررت وقف الرحلات القادمة من إيران، نعم، كنت على متن الطائرة الأخيرة دون أن أدري، قرار بإجراء فحص الحرارة للركاب، تأخير وتأخر، ارتفعت الحرارة في مقصورة الطائرة المغلقة المليئة بأنفاس المختنقين من الكمامات أساسا، غادرت طائرتي الثانية إلى أنقرة من دوني، ضاعت حقيبة سفري، فسألت ذاتي وأنا غاضبة ما إن كان سينتهي هذا اليوم السيء بأقل الخسائر وما إن كانت دراما الفيلم الهوليودي هذا حقيقية، الفيلم الذي أعيش أحداثه منذ صباح ذاك اليوم، وأحدها تأخري كثيرا في الوصول لمطار طهران ظهرا بسبب تجاوز المخرج على الطريق السريع لنصل إلى حدود مدينة قم، نعم قم، حيث بدأت قصة انتشار الكورونا في إيران!
لا يبدو أنه سينتهي، دون تحلية نهاية السهرة التي تصل في رسالة الكترونية تقول: يرجى الالتزام بالحجر المنزلي لأربعة عشر يوما حرصا على السلامة، وهذه كانت بداية القصة..
لست ربوت