قبل عام واحد بالتمام والكمال، كتبت هنا متسائلا: «ماذا يحضّر لنا العالم؟». وقلت وقتها إن الحسابات الدولية الكبيرة ليست بعيدة عنا، «بل تدنو منا في حركة دوران لولبية تفضي جميعها إلى التأثير في مصالحنا الوجودية، أي استقرارنا وتنميتنا وسلامة وحدتنا وسيادتنا». وختمت مقالتي تلك بالتعبير عن الشعور بالقلق «مع بوادر اقتراب لحظة حسم كثير من «الصفقات» التي طبخت على مهل. فالمغرب يدخل سوق المساومات الدولية مواجها مساومات ذوي القربى قبل «الأغراب» حول سيادته على نصف ترابه الجنوبي، بدءا من بولتون وصقور واشنطن، مرورا باللوبي اليهودي والأشقاء في الخليج…».
توالت التصريحات الرسمية للمغرب منذ ذلك الحين، سواء على لسان الملك شخصيا، عبر برقياته ورسائله، أو عبر تصريحات رئيس الحكومة ووزير الخارجية، والتي ظلّت تؤكد رفض المملكة الانخراط في «البيعة وشرية» الخاصة بفلسطين. وحتى عندما دعت واشنطن المغرب إلى المشاركة في مؤتمر البحرين حول الشق الاقتصادي لـ«صفقة القرن»، والذي احتضنته البحرين متم يونيو الماضي، صمد الموقف الرسمي بطريقته، وبعث موظفا في وزارة الاقتصاد والمالية لتمثيل المملكة في هذا المؤتمر.
فماذا جرى حتى اجتاحتنا في الأيام القليلة الماضية موجة الشك والتردّد بعد التسريبات الإسرائيلية حول صفقة مفترضة عنوانها «الصحراء مقابل فلسطين»؟ وهل بات المغرب الرسمي مستعدا للقبول بمثل هذه المساومة؟ وهل المسيرة الشعبية التي جرت يوم أمس في العاصمة مجرّد «ترمومتر» لقياس حجم الغضب الشعبي المحتمل في حال الإقدام على ذلك؟
لا بد أن نسجّل، أولا، أن أكبر المداخل التي سمحت بتدفّق تيار الشك والاهتزاز في الموقف، هو الذي فتحته تصريحات وزير الخارجية، ناصر بوريطة، أمام البرلمان. فالرجل، وبكلّ ما يحوزه من تجربة ومهارة دبلوماسية ولباقة في التواصل وكياسة في التعبير، سقط في فخ اللعب على أرضية لا يعتادها، مثله في ذلك مثل جميع التقنوقراط.
فهؤلاء، ومهما كانوا خبراء وأكفاء، يبقون عاجزين عن امتطاء صهوة الخطاب السياسي. والدبلوماسية التي يعرّفها البعض بكونها الفن الذي يجعلك تقول لكلب مسعور «يا لك من كلب لطيف»، إلى أن تتمكن من التقاط حجر تلقمه إياه، لا تصبح مجدية حين يتعلّق الأمر بملامسة مواضيع تهم الشعور الوطني والأسس التي ينبني عليها الانتماء الجماعي إلى وطن.
لكن، سواء كانت تصريحات بوريطة مجرد زلة لسان، أو تعبيرا عن اختيار واع لدى الدولة لتصريف لحظة ضغط استثنائي من واشنطن، فإن أخطر ما في الأمر هو هذا الموقف الداعر الذي فوجئنا به في مجالنا العام، ربما لأول مرة، والذي حاول أن يدافع عن هذه الصفقة المحتملة التي روّجها الإسرائيليون أخيرا، والتي تتلخّص في دعم المغرب «صفقة القرن» مقابل اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء.
وسواء كان هؤلاء مجرّد عناصر شاردة، أم ضحايا للتحوّلات السريعة التي فرضتها الثورة التكنولوجية والشبكات الاجتماعية، بما تنطوي عليه من إمكانيات لتسطيح الفكر، وإضعاف الوعي بخطورة الاستهداف الصهيوني لكامل المنطقة العربية من البحر إلى النهر (المغرب عربي في تصوّر إسرائيل لمحيطها الإقليمي، وإن كانت تزعم دعمها للقضية الأمازيغية)، فإن ما عشناه في الأيام القليلة الماضية يشير إلى تمكّن الصهيونية من اختراق صفوفنا التي كانت، إلى وقت قريب، تفرّقها الإيديولوجيات وتوحّدها عدالة القضية الفلسطينية.
ويتخذ هذا الاختراق شكل أساطير جديدة، متفرّعة عن تلك التي أسست الصهيونية، من قبيل وجود امتداد مغربي داخل إسرائيل، يزعم البعض أنه بحجم يقارب المليون نسمة من سكان الدولة العبرية، ووهم العصا السحرية الأمريكية التي يكفي أن نهش بها على خصومنا حتى يتركوا لنا الصحراء ويفروا هاربين.
تهافت هذه الأساطير لا يحتاج إلى عناء كبير لإثباته. فالإسرائيليون المنحدرون من أصول مغربية، لم يعبّروا يوما، عبر صحافتهم وأحزابهم أو جمعياتهم، عن تعلّقهم بالمغرب ومصالحه. ولم نسمع يوما إسرائيليا يطالب حكومته بالدفاع عن مصالح بلده الأصلي في واشنطن أو باريس، بقدر ما نشاهد كل يوم إسرائيليين من أصول مغربية يؤدون القسم على الولاء لدولتهم المجرمة، ويلتحقون بصفوف جيشها لقتل الفلسطينيين وترهيب «العرب»، وحتى عندما يلتفتون إلى المغرب، فلكي يحاولوا التسلل إليه، اقتصاديا أو ثقافيا، لخدمة الأجندة والمصالح الإسرائيلية.
وإذا كان هناك من «مغاربة-إسرائيليين»، فإنهم لا يختلفون في شيء عن مغاربة داعش، لا فائدة نجنيها من ولائهم ولا من اشتراكهم معنا في حمل الجنسية المغربية. وأية محاولة للعب ورقة «معاداة السامية» والتذرع بالمكون اليهودي للمغرب، لن تختلف في شيء عن الدفاع عن «الدواعش» بدعوى أنهم مسلمون و«إخوة في الدين». فالمغاربة اليهود الوطنيون يوجدون هنا بين ظهرانينا يقاومون التطبيع، كما في عواصم العالم، يدينون للمغرب بالولاء ويدافعون عن مصالحه، دون أن يزكوا بالضرورة جريمة اسمها إسرائيل.
أما أسطورة الحسم الأمريكي لملف الصحراء، فأشبه ما تكون بالمزحة السخيفة. لقد اطلعنا في هذه الجريدة، ونشرنا عدة ملفات وتقارير، انطلاقا من التقارير والوثائق الأمريكية التي ظلت مشمولة بالسرية إلى وقت قريب. وفي هذه الوثائق والتقارير الاستخباراتية والدبلوماسية، نجد الموقف الأمريكي من ملف الصحراء، في نسخته الخام بعيدا عن مساحيق الخطب الرسمية والبرقيات والمؤتمرات.
واشنطن، ومنذ أول إطلالة لها على ملف الصحراء في الستينيات وإلى غاية اليوم، تقيس ملف الصحراء بميزان مصالحها، وهي في ذلك لا تعتبر القضية نزاعا داخليا ولا تقريرا للمصير ولا خلافا فكريا. واشنطن تعتبر ملف الصحراء مشكلة مغربية-جزائرية-إسبانية، وتدرس كل خطوة تتخذها بشأنه من زاوية انعكاسها على مصالحها مع هذه الدول، وليس من منظور تجار العقارات الذي يعتقد البعض هنا أن الرئيس دونالد ترامب جعله دستورا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية.
إن أكبر أسطورة صهيونية انطلت على بعض بني جلدتنا، هي اعتبار التقارب مع إسرائيل فرصة لجلب المصالح الاقتصادية والسياسية، كما لو أن الدول العربية المطبعة رسميا، والأخرى المطبعة ضمنيا، ترفل في الرخاء والسلام والاستقرار.
وإذا كان البعض اختار سبيل العمالة ليصبح مأجورا في الأجندة الصهيونية بين ظهرانينا، فإن الخطر الأكبر هو تسرّب مثل هذه الأساطير إلى عقول أجيال فتحت أعينها على عصر الشبكة العنكبوتية وأفول نجم التأطير السياسي، بيمينه ويساره. فأخطر الخيانات ليست هي التي ترتكب مع إحساس صاحبها بارتكاب الجرم، بل حين تصبح الخيانة فكرة.
لست ربوت