بعدما قدمنا في الجزء الأول لمحة عامة عن السلفية، المقصود بها، رجالاتها المؤسسون، وبعضا من نشأتها وتطورها التاريخي… في هذا الجزء الثاني، نقدم لمحة تاريخية عن ظهور السلفية في المغرب وتطورها.
في القرن الـ18م، حين أخذ محمد بن عبد الوهاب يحيي السلفية في شبه الجزيرة العربية كأساس إيديولوجي لميلاد السعودية الأولى، بدا أن لدعوته قدرة كبيرة على التعبئة والانتشار.
انتشار تجاوز حدود المملكة السعودية بكثير؛ ويبدو أن زعامات سياسية عدة حينذاك تجاوبت معه، كنوع من التعبير عن الاقتناع بما يدعو إليه من إصلاح عقدي واجتماعي[1].
الحقيقة أننا لسنا نملك اليوم وثائق تدل، صراحة، على تجاوب مماثل من طرف السلاطين العلويين الذين كانوا يحكمون المغرب منذ قرن… طبيعة المشهد الديني للمغرب، حينذاك، كانت موسومة بتعدد أشكال التدين كالصوفية والكلامية والطرقية وغيرها.
كثير من وجوه السلفية في المغرب كانوا متصوفة في البدء، قبل أن يتخلوا عن التصوف بزعم أن ذلك كان كفرا…
هذه الأشكال كان لها إرث قديم بالمغرب، لذلك شكلت تحديا كبيرا أمام الدعوة السلفية في سياق زعمها لـ”إصلاح البلاد والعباد”[2]، هذا دون الحديث عن أن السلفية تكفر كل أشكال التدين هذه وتكن لها عداوة شديدة صريحة.
كما سنعرف لاحقا، فإن كثيرا من وجوه السلفية في المغرب كانوا متصوفة في البدء، قبل أن يتخلوا عن التصوف بزعم أن ذلك كان كفرا… الكفر هنا، بالمناسبة، سلة يرمى فيها بكل من/ما يخالف الفكر السلفي، وما دام هذا الفكر متعددا حد الاختلاف كما رأينا في الجزء الأول، فقد نجد في سلة كل سلفية ما، السلفيات الأخرى.
بالعودة إلى نشأة السلفية في المغرب، فإن ملامحها الأولى بدت مع السلطان محمد بن عبد الله بن اسماعيل، الذي كان “عالما سلفيا”، مالكي المذهب، حنبلي العقيدة، ومن ثم نهى عن دراسة كتب الكلام، وحبب بالمقابل العقيدة السلفية[3].
يورد المؤرخ المغربي، أحمد بن خالد الناصري، في كتابه “الاستقصا” أن وريث السلطان، المولى سليمان، قام من بعده بإصدار مرسوم ينهى عن المواسم التي تقام على أضرحة الصالحين، بل وذهب أبعد من أبيه بإرسال وفد إلى السعودية لمدح دعوة عبد الوهاب.
كما يمكن أن نقرأ في تاريخ المغرب، فإن السلفية الوطنية كانت ورقة بارزة في المشهد الديني والسياسي إبان الاستعمار.
ثم مضت السنين. مرة تبرز السلفية ومرة تخفت، حتى حدود أواخر القرن الـ19 وبداية القرن 20، إذ ظهر شيخ في فاس اسمه عبد الله بن ادريس السنوسي. درس الأخير في القرويين، وكان صوفيا في البدء، ثم سافر إلى الهند ليدرس بمدرسة “أهل الحديث”.
لما عاد إلى المغرب، أخذ يدعو إلى منهجه السلفي، لكنه كان في ذلك شرسا، فعارضه عدد من الشيوخ ثم استجار بالسلطان عبد العزيز، الذي حماه، حتى بعدما عُزل[4].
في غضون ذلك، ظهر شيخ آخر اسمه أبو شعيب الدكالي، وقد درس بالأزهر فتأثر بمحمد عبده ورشيد رضا… الدكالي كان قد عاد إلى المغرب إبان الاستعمار وولاه السلطان عبد الحفيظ وزارة العدل، ومن بين أبرز تلامذته، محمد بن العربي العلوي.
بجانب شيخ الإسلام ابن العربي العلوي، كثير من رجالات الحركة الوطنية مثل المختار السوسي وعلال الفاسي كانوا يفصحون عن سلفيتهم… لكن سلفية هؤلاء كانت كما قلنا في الجزء الأول، وطنية؛ بمعنى أنها تنم أساسا عن رغبة في التجديد ودحض الخرافات ومحاربة الجهل.
كما يمكن أن نقرأ في تاريخ المغرب، فإن السلفية الوطنية كانت ورقة بارزة في المشهد الديني والسياسي إبان الاستعمار.
يظل أبرز تلاميذ الهلالي جميعا، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، الذي أسس عام 1976م جمعية الدعوة للقرآن والسنة، المؤسِّسةِ لدور القرآن في المغرب.
بعد هؤلاء، ظهر شيخ اسمه محمد تقي الدين الهلالي… كان تلميذا لابن العربي العلوي، متصوفا في البداية هو أيضا، ثم جال بلدانا عديدة ليدرس علم الحديث، ويعتبره البعض أول من أرسى فعليا أعمدة الوهابية في المغرب.
يظل أبرز تلاميذ الهلالي جميعا، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، الذي أسس عام 1976م جمعية الدعوة للقرآن والسنة، المؤسِّسةِ لدور القرآن في المغرب.
المغراوي، بالمناسبة، أصدر عام 2008 فتوى تجيز تزويج الفتيات في عمر التاسعة، فأثار بذلك جدلا واسعا وقتها ففر هاربا إلى السعودية، قبل أن يعود في سياق انتفاضات ما سمي بالربيع العربي عام 2011.
لاحقا، انقسم تيار المغراوي إلى قسمين؛ من ظلوا تُبَّعاً له ومن اتبعوا شيخا سعوديا اسمه ربيع المدخلي… المدخلية في المغرب أنشأوا من جانبهم مراكز أطلقوا عليها “دار الحديث”[5].
فضلا عن هؤلاء، نجد في المغرب سلفية غير منظمة بفعل تضييق الخناق عليها من طرف الدولة[6]، تعرف بـ”التيار الجهادي”… هذه السلفية بدأت تظهر مع بروز تنظيم “القاعدة”، واشتهرت بظلوعها في أحداث 16 ماي الإرهابية، وكثيرون ممن يتبنونها يقبعون اليوم داخل أسوار السجن لتورطهم في ملفات إرهاب.
في الجزء الثالث… نتابع تمثلات التيارات السلفية في المغرب للعمل السياسي.
لست ربوت