عيطة الشمال .. نداءات الجبل المغربي أسامة غجو : معازف.بكوم / بتصرف

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية عيطة الشمال .. نداءات الجبل المغربي أسامة غجو : معازف.بكوم / بتصرف

عيطة الشمال .. نداءات الجبل المغربي أسامة غجو : معازف.بكوم / بتصرف

تعني العيطة من الناحية الإيثيمولوجية النداءَ أو الصياح الذي يكاد يبلغ أحيانًا الندب. إنها صوت القرويين الحقيقي المتروع بآهاتٍ تصعد من القلب لتقول التاريخَ عاريًا. إنها فجر الشعر العربي / الأمازيغي في المغرب ولسانُ ذاكرةٍ سحيقة، يعذب تارة ويلذع تارات أخرى. العيطة إذن تراث أصيل ترجع جذوره إلى ما قبل دخول الإسلام للمغرب وقتَ كان غناءً جماعيًا مبنيًا على ما يسمى بالحوار الشعري المرتجل.
ليس ثمة منطقة في المغرب تخلو من هذا التراث الذي انتقل شفهيًا عبر الأجيال. فالمغرب بتنوعه الموسيقي يضم عدة أنماط من فنّ العيطة، يمكن تعدادها في تسعةٍ جغرافيًا: العيطة الحصباوية (منطقة عبدة)، العيطة المرساوية (الشاوية ورديغة)، العيطة الملاّلية (قبيلة بني ملال)، العيطة الحوزية (أحواز مراكش)، العيطة الشيظمية (إقليم الصويرة)، العيطة الغرباوية (منطقة الغرب كقبيلة بني حسن)، العيطة الزعرية (قبيلة زعير)، العيطة الفيلالية (منطقة تافيلالت)، ثم أخيرا العيطة الجبلية (شمال المغرب). وسوف يتناول هذا المقال نمطًا واحدًا فقط هو العيطة الجبلية.

مداخل إلى العيطة الجبلية

تتميز العيطة الجبلية عن العيطات الأخرى بليونتها وسهولة عزفها وعذوبة لحنها، فهي لا تتوفر على فصول كثيرة ما يجعلها خفيفةً على السمع، قريبةً من ذائقة المُنصتين كبارًا وصغارًا. وتمتاز أيضًا بملامحها المتوسطية، إذ نجد تقاطعات وتشابهات مع بعضأهازيج وموسيقات البحر الأبيض المتوسط، كموسيقىالمجرودة في ليبيا أو طقطوقات مصر القديمة مثل يا بلح زغلول من تلحين سيد درويش (وربما من هنا اسم “الطقطوقة الجبلية”)، أو موسيقى موناكو الشبيهة كثيراً بالغيطة.
ويحدد المختصون الأغنية التقليدية في خمس نقاط تنطبق كلها على العيطة الجبلية: فهي أولًا موسيقى ذات أصول قديمة، ثم إنها تستند على التناقل الشفوي فقط، وترتبط بسياق ثقافي، وتحمل جملة من القيم، وأخيرًا ترتبط بشبكة من المعتقدات والممارسات، بيد أنّ بها هامشًا غير قليلٍ للارتجال العفوي كما في الموسيقى الشعبية عموماً. إنّ العيطة موسيقى ذات طابع رعوي، تصدر عن أصوات وتضاريس الطبيعة الجميلة بجبالها وسهولها، وتمتح من صفات الشخصية الجبلية الفريدة التي مازت بالإقدام والشجاعة.
أما تسمية الطقطوقة الجبلية فهي تسمية دخيلة، غير دقيقة، بل وخاطئة. لأنّ الطقطوقة أهزوجة خفيفة لا يُعنى تمام العناية بتلحينها تلحينًا فنيًا دقيقًا، أما العيطة فتتوفر على مقومات تجعل من بنيتها سواء الشعرية أو الموسيقية (إيقاعًا وتلحينًا) بنيةً مركبة.
وعلى الرغم من أنها تنتشر في مختلف المناطق الشمالية في المغرب، كقبائل أهل سريف وبني حسان والخماس وسوماتة وبني جُرفط وبني زكاف وبني زروال وجبل الحبيب، إلاّ أنّ العديد من الباحثين – كعبد اللطيف بنيحيى – يعتبرون بني عروس المنبع الرئيسي والأصلي للعيطة الجبلية. يورد الكاتب والباحث المختص في فن العيطة حسن نجمي في كتابه غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب أنّ من بين العادات الأندلسية خلال العهد المرابطي، ثم العهد الموحدي، الخروجَ الجماعي المنظم الذي يسمّى النزاهة (من التنزّه). إذ كان الأندلسيون يخرجون مع أطفالهم إلى الحقول مرتدين أجمل الملابس، ومصطحبين آلات الموسيقى والطرب بغرض الرقص والغناء. ولقد تأثرت جبالة بهذا الطقس، فتشكلت فرق الملحون الجبلي، وهو نمط غنائي اندثر بفعل الإهمال وغياب التدوين، رغم احتفاظ بعض الأشياخ بقصائد قليلة نادرة منه.
كان تشكّل هذه الفرق إذًا البدايةَ الفعلية للأغنية الجبلية بكل تلويناتها اللاحقة. والأكيد أنّ انتقال أشياخ هذه الفرق وشيخاتها أفرادًا وجماعات بين المدن والقرى المجاورة في مواسم الأولياء أو في بعض الأعياد كذكرى عاشوراء أو طلبًا للعمل أو للاسترواح، قد ساعد على تبادل المعارف والخبرات الموسيقية وتبادل صنوف من العيطات يمكن اعتبارها حينئذ الإرهاصات الأولى للأغنية الجبلية بالشكل الذي نعرفه الآن.
ولذلك يكاد يجمع المختصون على اعتبار الموسيقى الأندلسية منبعًا أساسيًا للأغنية الجبلية. ولا غرو أن هذا التأثر يتجلّى في شيئين اثنين: البنية الموسيقية والآلات المستعملة.
فالعيطة، من جهة، تعتمد نفس قالب المتتابعات المكون للنوبة الأندلسية تقريبًا (البغية، التصديرة، القنطرة، الانصراف) المقابل لـ(الرايلة، العيطة، الكباحي، الدرديكة) في النمط الجبلي.
ولا يخفى، من جهة أخرى، أن الأغنية الجبلية تستعمل جل الآلات المستعملة في الطرب الأندلسي، إذ تقوم أساسًا على العزف الآلي (الطبل والغيطة). ويصاحب الغناءَ الكنبري (وله أحجام ثلاثة: الهجهوج/الفرخ/السويسي) والكمنجةُ، والبندير. وفي بعض النماذج الغنائية يتم استعمال آلات النفخ كالليرة حيث تفيد دراسات أنّ الهلاليين هم من أدخلوا هذه الآلات النفخية لفن العيطة كالشبابة وهي قصبة للنفخ أكبر من الناي.
والآن، بعدما حددنا ظروف تشكل العيطة الجبلية تاريخيًا، لا بدّ لنا من إطلالة سريعة على بنيتها الموسيقية. فعزف العيطة الجبلية عزف غير عسير، يتم بثلاثة أوتار متكاملة إذا كان على الكنبري، أما إذا كان على الكمان فيتم بثلاثة اوتار متكاملة وبالسلم الموسيقي الخامس المتكامل، وتقع المساوية في لوتار أو في الكمنجة المساوية العصرية المعروفة في الوقت الحاضر، أما في العود فيستحسن أن يساوي الوتر الثاني في صول والتدرج معه إلى الوتر الخامس، على أساس أن الجبلي خلافًا للغناء العصري يبدأ من أخشن الأصوات وينتهي إلى أدقها.
تستمد العيطة خصوصيتها الإيقاعية من الإيقاع الذي ينبني عليه قسمها الأول الموسع الحركة، وهو إيقاع معقّد ينبني على تشكيلة زمنية ذات تقسيم أعرج. والدور الإيقاعي تتواتر في نطاقه الزمني أربعة أزمنة ونصف حسب ثمن الوحدة البسيطة. وخصوصية هذا الإيقاع تتمثل في النبض الأعرج يقع في نصف الزمن الذي يلتصق بالزمن الرابع. وتوجد طبوع العيطة الجبلية نغميًا في أجناس أمادياطونية أو اصطناعية، ونطاقها الصوتي إما من ثلاث درجات أو أربع.
وتخضع العيطة لانتقالات مقامية يغلب عليها مقام الحجاز في التصديرة والجنس الرباعي الأول من مقام نهاوند على نفس الدرجة، فالجنس الرباعي الأول لمقام السيكاه أو الكرد.
أما الأغنية الجبلية الخفيفة فتغلب عليها البساطة في اللحن وسهولة الحفظ، ويطغى عليها الإيقاع الشعبي.
هذا من جهة المبنى، أما من جهة المعنى، فموضوع الأغنية الجبلية ينحصر في ثلاثة أشياء: إما أن يكون عرضًا للحالات النفسية والروحية مثل الفرح والحزن والسعادة والألم وغيرها، وإما أن يكون نقلًا لأخبار المعارك والحروب والانتصارات والهزائم من جهة ثانية، وإما أن يكون تغنيًا بجمال الطبيعة والمرأة من جهة ثالثة.
ولا بد للأغنية الجبلية أن تُستهلّ بـ العيوع، وهو لفظ مشتق من عوى أي صرخ. ويعد، كالموال، مدخلًا للأغنية يتكون من أبيات شعرية ترتجلها عادةً النساء ذوات الأصوات القوية الجميلة ارتجالًا تلقائيًا حسب حالاتهن النفسية حينذاك.

محمد العروسي : رائد الأغنية الجبلية

من بين أشهر أشياخ العيطة الجبلية، نذكر الشيخ أحمد الكُرفطي والشيخ حاجي السريفي والشيخ بريطل والشيخ الخُمسي والشيخ عبد السلام العطار والشيخ محمد الغياثي والشيخ محمد بن العربي والمعلّم عبد الرحمن لحلو. لكن يبقى العروسي اسمًا فارقًا في تاريخ العيطة الجبلية، لأنه استطاع أن يجدّد هذا الفنّ ويبعث فيه الروح بألحانه وطريقة أدائه. وله يعود الفضل في انتشار العيطة الجبلية على نطاق واسع. فالأغنية الجبلية مرتبطة بالعروسي أيّما ارتباط، وصعبٌ استحضارها دون أن تخطر على بالنا أغنية من أغاني المرحوم، ودون أن يطالعنا وجهه وهندامه التقليدي في شكل جلبابه القصير المليء بالجيوب (تلك الجيوب التي كانت تصلح لضم البارود).
وقصة حياة العروسي تستحق أن تروى، لأنها تلخص مسار شغفٍ بالموسيقى قلّ نظيره. وسنستهلّها بسنة 1934 تاريخ ميلاد الحاج محمد العروسي بدوار بن دركول وسط أسرة محافظة أدخلته المسجد ليحفظ القرآن حين كان صبيًا. وقد وجد عند الفقيه بعضًا من قصائد الملحون أخذت بعقله، فجعل يُلحنها متأثراً بالشيخ طريرف الذي كان معروفًا آنذاك، والذي سوف يهديه كمانه الشخصي سنوات بعد ذلك.
كانت بداية الصبي محمد العروسي الفنية صعبةً، فبعدما نجح في صنع كمنجة من علبة سردين كي يستطيع أداء ألحناه، بدأ يتدرب حتى صار قادرًا على الذهاب للأعراس ومرافقة الأشياخ، وسرعان ما لفت انتباههم وعُرف بينهم بحسن الصوت، فابتدأت قصته مع الغناء في سن مبكرة وهو لما يتجاوز ربيعه العاشر.
استمر العروسي في تأليف أغانيه حتى اعتقاله وهو ابن الرابعة عشر سنة بعدما أنشد قصيدة يهجو فيها قائدًا عسكريًا فرنسيًا ويفضح سلوكه الاستعماري المتسلط، وهي قصيدة القبطان صولي، فبقي في زنزانة لمدة تسعة أيام وتوعده من في السلطة بالإعدام في حالة إقدامه على غنائها مرة أخرى.
بعد هذه الحادثة، فرض عليه أن يترك الغناء الجبلي، ليغني لونًا آخر من الغناء، فدُفع دفعاً إلى حفظ أغاني فريد الأطرش وغيره من فناني مصر، حتى حفظ العديد منها. وذات يوم طُلِبَ منه تأدية النشيد الوطني الفرنسي في مراسم استقبال الجنرال جيوم الفرنسي والقائد ابراهيم ولد الباشا التهامي الكلاوي. لكن نفسه استثقلت غناء ذلك النشيد الفرنسي. وبدلاً عنه غنى دقوا المزاهر لفريد الأطرش. فتوعده القائد وهدده شرّ تهديد.
يظل العروسي ظاهرة فنيّة فريدة، لأنّ له بصمتَه الخاصة على الأغنية الجبلية. فهو يجيد جميع العيطات دون استثناء، كعيطة القبايل وعيطة الأولياء وعيطة البارود والعيطة الجهادية التي تُقال أثناء المعارك/ ومنها مثلاً ما قاله أهل قبيلة بني مسارة حين داهمهم المستعمر:
“الولاد يا المسارين خارجين بالحراقين
تحزمو يا الولاد راه العدو ف الزواقين”
 
إنها عيطة الغرض منها تنبيه المجاهدين إلى خطر العدو الذي يتقدم إلى دوار قريب، وحثهم على إعداد عدتهم له. عُرف العروسي كذلك بتأديته المميزة لمقام الحجاز، فليس يشبهه فيه أحد. أمّا عزفه فكان خلافًا لباقي العازفين، يمسك القوس بيساره ويثبت الكمان بمينه مما جعل تحكمه في آلته محكمًا.
للعروسي أيضا بصمته الخاصة على العيوع، فبعدما كان العيوع حكراً على النساء، صار مع العروسي فنًا رجاليًا أيضًا، وقد أدخل عليه آهاتٍ هي بمثابة إمضائه الخاص.
خلال مسيرته الفنية التي دامت أكثر من سبعة عقود، لامس العروسي مختلف الموضوعات. لقد غنّى للطبيعة في أغنية يوم الربيع قالو جات مثلًا أو جبل الحماموهي ملحون قديم، وغنّى للأم وللطفل، وغنّى للوطن في أغنية بلادي يا أرض الخير. وتبدأ الأخيرة بهذا الكلام البسيط الجميل:
“آه يا حبابي آه يا صحابي
بلادي يا أرض الخير
كيبغي الكبير والصغير
جمالك ما عندو نظير
حبك ف قلوبنا كبير
وراني معاكوم”
 
شكلت أغنية الشريكة عند صدورها حدثًا فنيًا هامًا لكونها تطرقت لقضية مجتمعية هي قضية تعدد الزوجات، وأدانتها – في انسجام مع عادات الجبليين الذين يستنكرون التعدد سليقيًا – بشكل فنّي جعل العديد من المستمعين يتعاطف مع تلك الزوجة التي تسرّ لأبنائها بشجن كبير وتعترف لهم عند أول الأغنية بحسن معاملة زوجها لها:
“أ وليدي يا وليدي
باباكوم أ وليدي
عمرو ما بكاني”
 
ثم تمضي بالأغنية إلى حيث تزيد من نبرة التقريع، تقريع زوجها على زيجته الثانية، حيث تكشف عن حزنها العاري.
“باباكوم بدلني وانا لمن نشكي؟
أوليدي أوليدي وانا لمن نشكي؟”.
 
ثم تقول بحرقة واضحة إنّ خبر زواجه بعروس أخرى قد أبكاها وهي التي لم تبك يوما.
“سمح فيا وفيكوم جاب عليا عروسة
أ وليدي يا وليدي وهادي لتبكيني”
 
وللعروسي أيضًا أغانٍ خفيفة تتسم بطابع هزلي كأغنية أنا الراي والشوار التي تحكي عن علاقةِ رجل بامرأةٍ متسلطة لا تطيعه في شيء، تفعل ما تريد، فتذهب إلى السينما وتجعله يغسل الأواني ويكنس الأرض. كل هذا في قالبٍ كوميدي ساخر.
وإن كانَ علينا أن نسوق أغنيةً تتلخص فيها روح الأغنية الجبلية، لما ترددنا عن ذكر أغنية عين زورة التي أصبحت بمثابة مانيفستو للأغنية الجبلية، وبفضلها ذاع صيت العروسي في ربوع المملكة المغربية. تتحدث الأغنية عن رجلٍ يعتزم الهجرة، وبمجرد وصوله لعين زهرة، يتحسر فقط على ترك حبيبته الجميلة، لا على بلده الذي غادره مغتربًا.
********
ركبت على عين زهرة
وتشوش خاطري
وشحـــــال بكيـــــــــت،
مـــا بيــــــا بلادي، بيــــــا هي العيلة اللي خليــــــــــت
أنا مزاوك يا جماعة … حب الزيــــن راني متولاع بيه”
فرقة الجهجوكة وعالمية عيطة الجبل
حظيت مجموعة جهجوكة، وهي جزء من فضاء العيطة الجبلية، باعترافٍ عالمي وحضورٍ مشع عبر البلدان والمهرجانات الدولية المهمة. ذلك منذ أن لفت الانتباه إليها الكاتب الأمريكي الكبير بول بولز في بداية الخمسينات من القرن العشرين، واهتم بها شعراء وكتاب الجماعة الأدبية الأمريكية الشهيرة المعروفة بجيل البيت، خصوصاً وليام بورّووز، كما اهتم بها جون هوبكنز، الكاتب الأمريكي المعروف، وكذا صديقه الرسام والشاعر براين غَيْسَنَ، والكاتب الصحافي روبير بالمر، وأورنيت كولمان، وبراين جونز وتيموثي ليري وآخرون .
غيرت هذه الموسيقى التقليدية الروحية التي تنتمي للعيطة الجبلية الحساسية الموسيقية الغربية المعاصرة، وعمقت الرؤية الجديدة للعالم لدى الكثيرين من الذين كانوا سجناء أنواع من “الموسيقى العالمَة”. وتقريبًا، لقد تغير معنى الموسيقى في العالم الراهن بفضل هذا الانتشار الذي تحقق لهذا الصنف الجبلي بقيادة هذه الفرقة التي تعدّ من بين الفرق القليلة التي تزاوج الأداء الموسيقي الآلي (الطبول والغيطات) والغناء العيطي، في نفس الآن. وهذا الأداء إنما يتم وفق القوالب الكبرى للعيطة لكنه أداءٌ خاص ينمّ عن ثراءٍ استثنائي وقدرةٍ على الذهاب بعيدًا في التجريب الموسيقي.
ومعلوم أنّ قرية جهجوكة أو ‘زهجوكة’ هي إحدى قبائل بني سريف، كان أغلب سكانها إلى حدود القرن التاسع عشر من الطبّالين والغياطين. كما شكلوا في القرن التاسع عشر فرقتين موسيقيتين رسميتين كانتا تتناوبان على دار المخزن بفاس، شهرًا لكل واحدة منهما.
وقد كان لأهل هذه القبيلة دارٌ عُرفت بدار المعلمين يجتمع فيها الأشياخ فيؤدون العيطية الجبلية آليًا (موسيقى فقط دون غناء) أو غناءً وأداءً موسيقيًا، بانتقال نفس العازفين من الطبل والغيطة إلى الآلات الوترية والإيقاعية (الكنبري والبندير مثلًا).
ولموسيقى جهجوكة طقوس خاصة، فهي تُعزف عادةً على رقصة بوجلود، وهي رقصة غريبة تُعدّ لها النارُ، فيما تكون الأعين مترقبة ظهور بوجلود من جهات الغابة ملتحفًا جلد الماعز، حاملًا شطبتي الزيتون وهو يرتعد على إيقاع الموسيقى، فيُطلب منه تخصيب النساء والأرض، كما كان الأمر بالنسبة للإله بام، إله الماعز عند الرومان.
ثم حانت ساعة موسيقى جهجوكة. فالدور الذي أداه براين غيسن في الترويج لموسيقى جهجوكة كان لافتاً حقّا بعد إنشائه لمطعم ألف ليلة وليلة في طنجة سنة ١٩٥٢، حيث توالت عليه زيارات كبار الفنانين العالميين الذين سيكتشفون هذا الكنز المخبوء المسمى فنّ العيطة الجبلية، وسيتعرفون على موسيقى جهجوكة تحديدًا.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد تعاونت الفرقة مرة أخرى مع ميك جاكر لتسجيل بعض المقاطع من ألبومه ستيل ويلز، وساهمت كذلك في الموسيقى التسجيلية لفيلم المأدبة الحافية المأخوذ عن كتاب ويليام بورووز. كلّ هذا النجاح سوف يفتح طريقًا للعالمية لفرقة جهجوكة ولقائدهم بشير العطار، ابن الشيخ عبد السلام العطار، الذي ستكبر طموحاته بعد استقراره في نيويورك سنة ١٩٩٠، وسيقدم على التعاون مع كبار المؤلفين، كالكندي هوراد شور، الذي سيؤلف إلى جانبه الموسيقى التصويرية لفيلم ذ سِل سنة 2000.
هذه فقط بضع أمثلة من التعاونات التي جمعت مؤلفين كبار بفرقة جهجوكة. ويبقى السؤال مطروحًا: لماذا من المرجح أن تدخل موسيقى جهجوكة بالتحديد العالمية من بابها الواسع؟ هل ثمة عناصر موضوعية تفسر نجاح هذا النمط من العيطة؟ وما الذي يجعل من موسيقى محلية خاصة فقط بجبالة شمال المغرب موسيقى عالمية؟
إنّ جدلية المحلي والعالمي، في الفن كما في الأدب، جدلية قديمة. والحق أنَّ ما يصبح عالميًا لا يخلو من خصائص تجعله كذلك. وفي نظري أنّ جهجوكة إنما أصبحت عالمية بفضل عناصر ثلاث أسردها كالتالي:
أولاً، تاريخها السحيق الممتد لما قبل دخول الإسلام إلى المنطقة بأربعة قرون كما يقول ويليام بورووز. وربما كانت موسيقى ذات أصول إيرانية كما يقول أدريان فاريبورز.
ثانيًا، إنها في الأساس موسيقى صوفية، وجوهر الصوفيّة واحدٌ عبر كل ثقافات العالم. ولا غرابة في أن تكون كلّ موسيقى صوفية، كالقوّالي عند نصرت فاتح علي خان مثلًا، موسيقى عالمية لأنها تستطيع الوصول إلى الجميع.
ثالثًا، موسيقى جهجوكة صارت تندرج اليوم فيما أصبح يعرف بموسيقى العالم، أو موسيقى المزج، وهي أصناف فرعية من الموسيقى العالمية تتميز بانصهار ومزج موسيقات من أجناس مختلفة ومن حقب مختلفة أيضًا. وقد صاغ مصطلح موسيقى العالم الكاتب ماثيو مونتفورت سنة ١٩٧٨. وعرّفه على هذا النحو: “موسيقى المزج هي التي تجمع أفكاراً من عدة تقاليد موسيقية عبر العالم”. ينطبق هذا التعريف تمامًا على موسيقى جهجوكة، فقدرتها على الاندماج مع الأنواع والأفكار الموسيقية الأخرى غير محدودة. وليس أدلّ على هذا الاتجاه الجديد الذي سلكته الفرقة كمثل ألبوم الطريق إلى جهجوكة الصادر سنة 2013، حيث تم مزج الغيطة مع أنواع موسيقية أخرى، سنذكر منها على التوالي هذه العناوين:
 يد فاطمة : جمع هذا العمل بشير العطار والثلاثي مدسكي، مارتين ووودز مرافَقين بـمارك ريبوت على الجيتار. ويعتبر هذا العمل مزجاً بين الغيطة متمثلةً في ليرة بشير العطار ولون الجاز المعاصر الذي يقدمه الثلاثي، ثم أخيراً نفساً من الموسيقى التجريبية بقيادة مارك ريبوت.
هضاب جبالة : يمزج هذا العمل جهجوكة بغناء الهنديفالو مع ساكسوفون جون زورن وبايس فلي مؤسس فرقة الروك الأمريكية رِد هُت شيلي بيبرز.
غيطة بلوز : يجمع هذا العنوان بشير العطار على غيطته (مزمار المشمش الخشبي)، وعضوي فرقة الروك البديل وين: لاعب البيانو ماركو بينيفينتو ولاعب الباس ديف دريويتز.
الحضرة الصوفية: فيها ينصهر صوتُ فالو في ضربات لاعب الآلة الإيقاعية السينغالي آييب دينغ، وفي ألحان الموسيقي التجريبي بيل لاسويل.
هذه أربعة أعمالٍ فقط من هذا الألبوم الذي يعدّ برهانًا على عالمية جهجوكة بتعريف ماثيو مونتفورت، إذ تلتقي فيه أفكارٌ موسيقية من مختلف بقاع الأرض.
يبقى إذًا مسار فرقة جهجوكة مساراً يستحق المزيد من الدراسة لأنّه يثبت أنّ فنّ العيطة فيالمغرب عموماً قادرٌ على التجدد والظهور بأشكالٍ تجريبية جديدة، وأنّ الفكرة القائلة بوجود مستويات موسيقية إحداها راقية أو عالمة كالموسيقى الأندلسية بإزاء أخرى شعبية أو قبلية كالعيطة لا تبلغها درجةً هي فكرة خاطئة.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button