"يجلس الجبلاوي في بيته الكبير المحاط بالحدائق والأسوار العالية ومن حوله أحفاده الذين يتنازعون للحصول على وقفه، ويقوم الفتوات بإبعاد هؤلاء عن جنته الأرضية، حيث استقرت ذريته خارج أسوار البيت الكبير، وبالرغم من فقرهم إلا أنهم لم يكفوا عن الدعاء بأن ينزل الجبلاوي إليهم ويترك عزلته ويوزع تركته ويخلصهم من بطش الفتوات فيسود الخير على الجميع، ويظهر في كل جيل هذا المخلص والذي يتعلق به الناس وينتفضون معه ضد الفتوات، ولكن الجشع والجهل يرجعهم في آخر المطاف إلى ما كانت عليه الأوضاع ويبقى الفقر والمعاناة مصيرهم الذي لا مفر منه..".
نتناول هذه المرة في تدوينة الأسبوع واحدة من أكثر الروايات إثارة للجدل في تاريخ الأدب العربي، يتعلق الأمر بـ"أولاد حارتنا" للأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، صدرت لأول مرة عام 1959، عبر حلقات مسلسلة في جريدة الأهرام المصرية، ما خلف أزمة كبيرة بعد معارضة شيوخ الأزهر لمحتواها، ومطالبتهم بوقف نشرها، قبل أن تصدر في كتاب عن دار الآداب اللبنانية في الستينات، ومنعت من الدخول إلى مصر (وهذا رغم عدم صدور أي قرار رسمي بمنعها من الأزهر، إلا أن نجيب محفوظ اتفق مع حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على عدم نشرها في مصر إلا بعد موافقة الأزهر).
قبل الحديث عن محتوى رواية "أولاد حارتنا" وجب علينا فهم السياق التاريخي الذي كتبت فيه.
مباشرة بعد قيام ثورة يوليو (أو ثورة الضباط الأحرار) في مصر عام 1952، توقف محفوظ عن الكتابة، معتبرا أن التغيير الذي كان ينادي به في رواياته قد تحقق، لكنه سرعان ما قرر العودة إلى الكتابة بعد سنوات من التوقف عندما شعر بأن الثورة المنشودة بدأت تنحرف عن مسارها، فأصدر "أولاد حارتنا" التي كتبها بشكل رمزي عن حقيقة الذات الإنسانية والنظرة الكونية الإنسانية العامة مع الاستفادة من قصص الأنبياء في خلق حبكة روائية توجه النقد بالدرجة الأولى للسلطة الحاكمة.
في هذه الرواية تخلى محفوظ عن أسلوبه الواضح في مناقشة المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها المصريون، واعتمد على الأسلوب الرمزي، وهو ما يسمى في الأدب بروايات المفتاح (Romans à Clef) والتي ظهرت لأول مرة في القرن السابع عشر على يد الأديبة الفرنسية دو سكودري، وحققت شعبية كبيرة وإن تراوحت الأعمال المقدمة بين الخوارق الفنية والأعمال السطحية، فأنت بمجرد تصفحك لرواية تنتمي لهذا الصنف فإنك تبحث في البداية عن "المفتاح" الخاص بها، وما إن تعثر عليه حتى تبدأ كل الرموز الأخرى في التفكك والكشف عن وجهها.
من أشهر روايات هذا الصنف في الكتابات الأدبية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، "جلينارفون" لكارولين لامب، "المثقفون" لسيمون دي بوفوار، وغيرها، أما في الأدب العربي فيمكن القول بأن هذا الصنف قد انتشر بقوة منذ الستينيات، مع "شيء من الخوف" لثروت أباظة (علاقة عتريس بفؤادة وتجسيد العلاقة بين مصر وعبد الناصر)، وغيرها من الروايات التي تناولت دائما نفس القالب عن مصر بنت البلد العفيفة الأصيلة والمصري هو القهوجي ابن البلد "الجدع"، وسكان العمارة الذين يرزحون تحت نير صاحبها المستبد الذي يقطع عنهم الماء والكهرباء ويعطل المصاعد (العمارة هي مصر وصاحبها هو الديكتاتور والمصعد هو التنمية إلخ..).
بالعودة إلى "أولاد حارتنا"، يمكن القول بأنها مشكلتها تكمن في كونها نوعا واضحا وسهلا جدا من روايات المفتاح، فأي طفل في الابتدائية سيتمكن من فك رموزها، وسيعلم أن الجبلاوي ترميز للذات الإلهية، فيما يرمز البيت الكبير للسماء والأرض، الحارة هي العالم أو الكون، أدهم هو آدم عليه السلام، إدريس هو إبليس، جبل هو موسى عليه السلام، رفاعة هو عيسى عليه السلام، كما أن معظم الأحداث مستقاة من قصص الأنبياء عليهم السلام، لتصل الصدمة إلى ذروتها مع وفاة الجبلاوي نفسه!
أصر محفوظ أكثر من مرة على أن قصده من هذه الرواية كان نقد الوضع السياسي القائم، (وإن كانت الأحداث تميل إلى التصريح أكثر من الترميز).
وقد نفى عنه تهمة الكفر والإلحاد عندما قال يوما: "الأمر الذي لا شك فيه أنني في حياتي لم يأت إلي شك في الله، وإذا كنت قد بدأت أفهم الدين فهما خاصا في وقت المراهقة، فإنني قد فهمت الإسلام على حقيقته تماما بعد ذلك. بل أعتقد جازما وحازما أنه لا نهضة حقيقية في بلد إسلامي إلا من خلال الإسلام"، لكن البلبلة لاحقته طوال سنوات عمره المتبقية، ورغم محاولات كثيرة لإعادة طبعها إلا أنه كان يرفض معتبرا أن هذا لن يتم إلا بعد موافقة الأزهر، ما يدل على أنه في قرارة نفسه كان يتمنى نسيان هذه الرواية، هو أولا ثم بعده جمهور القراء، إلا أنه فشل في ذلك، فالممنوع دائما مرغوب، والمثير للتأمل هنا أن قراءة أعمال أخرى لنجيب ستكشف لنا بأن "أولاد حارتنا" رغم الجدل الهائل حولها إلا أن لم تكن في يوم من الأيام أفضل ما كتب.
وكما هو معروف، كانت هذه الرواية سببا مباشرا في تعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال كادت أن تودي بحياته سنة 1994، نفذها شابان تم إعدامهما فيما بعد، رغم أن محفوظ صرح بأنه ليس ناقما عليهما وأنه كان يتمنى لو لم يعدما، هما اللذان قالا بأنهما لم يطالعا سطرا واحدا من الرواية!
نتناول هذه المرة في تدوينة الأسبوع واحدة من أكثر الروايات إثارة للجدل في تاريخ الأدب العربي، يتعلق الأمر بـ"أولاد حارتنا" للأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، صدرت لأول مرة عام 1959، عبر حلقات مسلسلة في جريدة الأهرام المصرية، ما خلف أزمة كبيرة بعد معارضة شيوخ الأزهر لمحتواها، ومطالبتهم بوقف نشرها، قبل أن تصدر في كتاب عن دار الآداب اللبنانية في الستينات، ومنعت من الدخول إلى مصر (وهذا رغم عدم صدور أي قرار رسمي بمنعها من الأزهر، إلا أن نجيب محفوظ اتفق مع حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على عدم نشرها في مصر إلا بعد موافقة الأزهر).
قبل الحديث عن محتوى رواية "أولاد حارتنا" وجب علينا فهم السياق التاريخي الذي كتبت فيه.
مباشرة بعد قيام ثورة يوليو (أو ثورة الضباط الأحرار) في مصر عام 1952، توقف محفوظ عن الكتابة، معتبرا أن التغيير الذي كان ينادي به في رواياته قد تحقق، لكنه سرعان ما قرر العودة إلى الكتابة بعد سنوات من التوقف عندما شعر بأن الثورة المنشودة بدأت تنحرف عن مسارها، فأصدر "أولاد حارتنا" التي كتبها بشكل رمزي عن حقيقة الذات الإنسانية والنظرة الكونية الإنسانية العامة مع الاستفادة من قصص الأنبياء في خلق حبكة روائية توجه النقد بالدرجة الأولى للسلطة الحاكمة.
مشكلة رواية "أولاد حارتنا" تكمن في كونها نوعا واضحا وسهلا جدا من روايات المفتاح، فأي طفل في الابتدائية سيتمكن من فك رموزها.
مواقع التواصل
من أشهر روايات هذا الصنف في الكتابات الأدبية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، "جلينارفون" لكارولين لامب، "المثقفون" لسيمون دي بوفوار، وغيرها، أما في الأدب العربي فيمكن القول بأن هذا الصنف قد انتشر بقوة منذ الستينيات، مع "شيء من الخوف" لثروت أباظة (علاقة عتريس بفؤادة وتجسيد العلاقة بين مصر وعبد الناصر)، وغيرها من الروايات التي تناولت دائما نفس القالب عن مصر بنت البلد العفيفة الأصيلة والمصري هو القهوجي ابن البلد "الجدع"، وسكان العمارة الذين يرزحون تحت نير صاحبها المستبد الذي يقطع عنهم الماء والكهرباء ويعطل المصاعد (العمارة هي مصر وصاحبها هو الديكتاتور والمصعد هو التنمية إلخ..).
بالعودة إلى "أولاد حارتنا"، يمكن القول بأنها مشكلتها تكمن في كونها نوعا واضحا وسهلا جدا من روايات المفتاح، فأي طفل في الابتدائية سيتمكن من فك رموزها، وسيعلم أن الجبلاوي ترميز للذات الإلهية، فيما يرمز البيت الكبير للسماء والأرض، الحارة هي العالم أو الكون، أدهم هو آدم عليه السلام، إدريس هو إبليس، جبل هو موسى عليه السلام، رفاعة هو عيسى عليه السلام، كما أن معظم الأحداث مستقاة من قصص الأنبياء عليهم السلام، لتصل الصدمة إلى ذروتها مع وفاة الجبلاوي نفسه!
أصر محفوظ أكثر من مرة على أن قصده من هذه الرواية كان نقد الوضع السياسي القائم، (وإن كانت الأحداث تميل إلى التصريح أكثر من الترميز).
وقد نفى عنه تهمة الكفر والإلحاد عندما قال يوما: "الأمر الذي لا شك فيه أنني في حياتي لم يأت إلي شك في الله، وإذا كنت قد بدأت أفهم الدين فهما خاصا في وقت المراهقة، فإنني قد فهمت الإسلام على حقيقته تماما بعد ذلك. بل أعتقد جازما وحازما أنه لا نهضة حقيقية في بلد إسلامي إلا من خلال الإسلام"، لكن البلبلة لاحقته طوال سنوات عمره المتبقية، ورغم محاولات كثيرة لإعادة طبعها إلا أنه كان يرفض معتبرا أن هذا لن يتم إلا بعد موافقة الأزهر، ما يدل على أنه في قرارة نفسه كان يتمنى نسيان هذه الرواية، هو أولا ثم بعده جمهور القراء، إلا أنه فشل في ذلك، فالممنوع دائما مرغوب، والمثير للتأمل هنا أن قراءة أعمال أخرى لنجيب ستكشف لنا بأن "أولاد حارتنا" رغم الجدل الهائل حولها إلا أن لم تكن في يوم من الأيام أفضل ما كتب.
وكما هو معروف، كانت هذه الرواية سببا مباشرا في تعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال كادت أن تودي بحياته سنة 1994، نفذها شابان تم إعدامهما فيما بعد، رغم أن محفوظ صرح بأنه ليس ناقما عليهما وأنه كان يتمنى لو لم يعدما، هما اللذان قالا بأنهما لم يطالعا سطرا واحدا من الرواية!
لست ربوت