بقلم : صبري يوسف.
لا يختلف الناس مهما “تطرفوا ” حول أهمية المصلحة العامة وقيمتها ،في رؤية مدنهم وبلداتهم وقراهم تتطور وتتقدم وتزدهر،ولا يمكن أن يرفض أيا كان فكرة إنشاء مشروع جوار بيته أو حيه باسم “إعطاء ” لمسة معينة للحي ،وإضافة خاصية ذات أبعاد اقتصادية ومجالية ،ومن تم ملامسة الأبعاد الأخرى.. اجتماعية ونفسية وجمالية “استيطيقية Esthétique ” وما إلى ذلك …
ابن جرير قبل أكثر من عقد كانت لا شيء .كان هناك الفراغ باستثناء قطاع الفوسفاط الذي كان يستخرج “أتربته” ،ويحملها على متن القطارات ،وتختفي من وراء (دوار بن ابراهيم )عن عيون الساكنة التي جزء مهم فيها كان قليل الإهتمام بماهية هذا القطاع ..أهدافه ..مهماته ..من هم كساكنة؟ وماذا يعني هذا التراب؟
كانت ابن جرير تعرف في بداية العشرية الأولى من الألفية الثالثة جوا من انتشار الجريمة بالشوارع المكسوة بالعربات المجرورة والفقر داخل الأحياء وسوق ابن جرير “المتنفس “، إلى جوار الرداءة الاجتماعية وكثرة المتسولين ..وصورا للإنحطاط بكل مقاييسه .
كان الجو العام مهيأ للانفجار الاجتماعي ،والجريمة في أبعادها مؤشر على فقدان التوازن داخل المجتمع أحيانا لفائدة اختلالات معينة .
بين الأمس واليوم أصبحت بابن جرير تنوع سكاني ،وتضاعفت ربما الساكنة وتزايدت أحياء جديدة ..وتكاثرت مظاهر العمران بكل ناحية ..ووجدت في سابقة من نوعها مشاريع ارتبطت باسم “المدينة الخضراء ” عبر مجموعة من الأشطر .. وانخرط الفوسفاط فيما أطلق عليه ب”المشروع التنموي الكبير”كشريك ،ولو أن هذا المشروع بقيت عليه مجموعة ملاحظات عدة وبقيت حال ودار لقمان على حالهما ،ومس التحول جغرافية الفوسفاط الجديدة فقط…
ترى ،هل ربحت ابن جرير “التاريخية ” من الدعاية وصناعة “الإتجاه “لتسويق المدينة وجامعتها الدولية الكبرى شيئا؟
بودنا اليوم بعد مضي سنوات على بداية الأشغال بالمدينة الخضراء ،ونهاية أشطر منها ،والاستمرار في بناء أخرى ..أن نتساءل :هل بالإمكان القول أن “الفوسفاط ” فطن إلى ” محو الهوة “بين مجاليين يظهر اليوم أنهما متباعدين إلى أبعد الحدود ..؟
بمعنى أن الفوسفاط اليوم يستثمر بابن جرير ملايير الدراهم ،بإنشاء مؤسسات تبدو أنها عملاقة ،وبمؤهلات ومواصفات كبيرة ،ناهيك عن المشاريع التعليمية الكبرى ..البولتكنينك.. Polytechniqueوثانوية التميز Lycée d’excellenceو المدرسة 1737 ..والعاطي ما زال بإمكانه أن يعطي ..
هناك طبعا “الداتا سنتر ” Data center ،نقرأها على الجدران والماكيتات بالشارع المؤدي إلى المدينة الخضراء..وهناك مشاريع من قبيل فنادق ومحلات تجارية يقولون أنها قيد الإنشاء..وكلها خمسة نجوم من البناء إلى أخر قطعة ستوضع في هذه المشاريع ..متوجهة إلى زبناء وساكنة جديدة ..وهناك “فيلا المارغوريت Villas Margueritte وهناك من هناك ..
يبقى السؤال الجوهري ..أين انعكاس كل هذه المشاريع المهمة على البنيات بابن جرير “القديمة ” وعلى ساكنتها ؟
بمعنى ،مسح الفوارق المجالية “La suppression d’écart ؟كيف سيكون شعور مواطني الضفة الشمالية ..؟ إذا اعتبرنا المدينة “الذكية” اليوم تقع جنوب شرق ابن جرير ،إذن فالزائر إذا كان شديد الملاحظة هو بين مجالين :
- مجال فقير مهمش ..مسحوق عمرانيا ودميغرافيا و”جماليا” وصحيا وتعليميا ووعيا ،بالرغم من جهود محو تلك التباينات ،إلا أنها سرعان ما تظهر عل مستوى شارع محمد الخامس سواء بالمساء أو بالصباح ،لأن الشارع حمال أوجه “ظاهراتية” ،هناك الذين يخرجون من جيوب المدينة وهناك الوافدون ،وبين الصورتين المفارقتين ..متسع من الوضاعة المجالية والإنسانية والاقتصادية والنفسية والسلوكية… والعمرانية ،تنعكس على صور البشر وأدائهم وردود أفعالهم بشكل عام وعلى معيشهم المقارن Comparée
- في الجانب الأخر هناك الشوارع النظيفة ،وهناك الأمن الخاص تعبيرا على وجود ما يحتاج إلى الضبط والإكراه Correction البسيشيكي ،في حالة رد فعل غير متوقع ،توجب الالتزام أكنت عابرا على الأرجل أو على متن السيارة..تم هناك انعدام مظاهر “القاع المجتمعي” ، بل هناك رموز ..لغوية و إيماءات ..ونوعية ملابس وسلوك لساكنة تلك الضفة الجدد ..تشير إلى الفوارق التي تغذي المعطيين بشكل لافت على مستوى الملاحظة .
- بابن جرير واعتقد أنه لحد الساعة لم تتغير الصورة النمطية للعابرين والوافدين عليها ،الذين لا يجد أقاربهم وعائلاتهم من جهد سوى أخذهم بجولة إلى الجانب الأخر بدون وعي ! لأنه بالنسبة إليهم يشكل” الأخر وأنا الغير” المسروق منهم مجالهم وخصوبته المعمارية “الحداثية الجوهر والحديثة المظهر ” Noumène-Phénomène .وبالتالي يشكل في نفسية الزائر شعورا معينا ،فيطوف به (مضيفه )بين الطرق الممتازة هناك ،ويطلعه على حجم المشاريع والاستثمارات ،ويشرحها له شرحا مستفيضا بعلم أو بدونه ..ويعيده إلى أحياء ابن جرير “المبهدمة ” أي (المبنية والمهدمة ) على جميع المستويات .
- ابن جرير اليوم مع كل دورات المجالس المنتخبة ومقرراتها ،وتحويل الإعتماد والأبواب ..ودراسة الفائض بالميزانيات ،الذي لا يتجاوز في أغلب الأحيان المليار سنتيم ..ويكون “فائضا متوقعا” وليس محققا ،وحتى إذا ما كان محققا فإنه في الواقع لا يمكن أن ينهض بجماعة حضرية تعداد ساكنتها تجاوز 80 ألف نسمة …لا يشيد مستشفى ولا جامعة ،ولا مرافق ومؤسسات ذات قيمة ..يصبح مجرد رقم هزيل لتشييد مركز للقرب أو ملعب للقرب أو حانوت للقرب …في احتفالية ساخرة.
- في المقابل وبإمكانيات ضخمة جدا ،يستثمر قطاع الفوسفاط من خلال مؤسسته الملايير من الدراهم في خلق المدينة الخضراء الذكية ..المجتهدة ..العالمة ..النقية “الايكولوجية ” ..الجميلة المنظر والمرافق والمنتديات العلمية ومراكز البحث والطاقة والفنادق والقادم الذي لا يعلمه سوى الفوسفاط والله .
- ابن جرير بالرغم من الجهود على فترات متقطعة وبضخ للمال إبان فترة مجيء الهمة ..لا تزال ظاهرة العربات المجرورة تكتسح جل شوارعها ،ولا تزال “الكرنة ” صامدة في محفل الإنسانية بالحي الجديد ..هي مدينة غير إيكولوجية ،وليست ذكية بل (غبية )بحكم التضاد طبعا..وربما قد يعتقد البعض أن ساكنتها كذلك …مدينة قديمة تاريخية لم يشفع لها تاريخها…لا تعرفها فرنسا التي تسمي الأشياء ولأنها تعرف ما تريد من ذلك ..نسيت أن ليوطي نزل بابن جرير إبان عهد ” الحماية” إنما لا يهمها ابن جرير القديم Ancien ،بل يهمها الجانب المشرق فيه .
في الجهة الأخرى تتكرس “مشاعر ” من الحقد ،والإحساس ب”الحكرة” ..ولو أنه متجسد منذ عهود في ساكنة هذه الربوع بحكم أنهم يعتبرون أنفسهم مقصيون ..ترى هم مقصيون من ماذا ؟
الشعور الشبه العام لدى الرحامنة تاريخيا ومع بداية الاستغلال بالمنجم الفوسفاطي ،كان شعورا بالاستحواذ على الأراضي مقابل “دريهمات” لا زال أغلبها بصندوق الإيداع والتدبير ..والأسر احتجت مرارا على “التهام “هذه المؤسسة لمئات الفدادين والهكتارات ،إضافة إلى غياب الإمكانية للتشغيل على طول أكثر من ربع قرن إلا بشكل جد محسوب..بالإضافة إلى ذلك ومع كل التحولات ،وأمام ما عرفته المدينة ابن جرير ،وتزايد الساكنة والتنوع الذي بات فيها ..اعتبر القطاع من خلال مؤسساته التعليمية الراقية ،أنه “يهمش” أبناء الرحامنة المتفوقين ..ويحرم الأطر من الأساتذة لشغل المناصب داخل مؤسساته .حتى أنه وعلى مستوى الفايسبوك أحيانا كانت تظهر لوائح مسربة ربما ؟..حقيقية أو كاذبة ..المهم جلها من جميع الجهات إلا هذا المجال فإنه مقصي.
إذن ،المخيلة والذاكرة المحليتان بالنسبة إليهما مشروع المدينة الخضراء ومعاهدها ومدارسها ومشاريعها لا يعنيهم ..إلا إذا سمح لهم أن يمشوا على الرصيف ..ويشموا هواءا رطبا ،وينظروا بأعينهم ،ويتحدثوا بصمت خوفا من أن تتسمع الأسوار الحديدية على حميميتهم الخاصة.
ابن جرير تتكاثر ساكنتها الوافدة من كل مكان بحكم التحولات الاقتصادية والاجتماعية المبنية على محدد العمل والوظيفة ،أو الهروب من الغلاء بمدن الجوار ،أو لدواعي صحية ،وأخرى معيشية ،وجلها البحث عن الذات في هذا الوطن .
وفي هذا الصدد ،يلجأ الجميع في ابن جرير من الذين لا يتوفرون على جودة التعليم للتنافسية إلى طلب الشغل داخل هذا المجال ،هذا جيد ،إنما يشكو الكثيرون بغياب “حق ” الأولية في التشغيل بالجامعة والمدينة الخضراء ،ولو بمهن كالنظافة والسياقة والأمن الخاص والبناء..وسلالم الوظائف الدنيا والدونية.وبالتالي يطرح السؤال العريض
ماهي مساهمة المدينة الخضراء في الرحامنة ؟
بمعنى ،كم هي عائدات ما أنجز وما هو بصدد الإنجاز على ميزانية الجماعة الحضرية ابن جرير؟ إذا اعتبرنا إداريا أن المدينة تقع تحت سلطة هذه البلدية ؟
وهل يستطيع الرئيس أيا كان أو ممثل الدولة “عامل “..” والي ” نقاش ملف الضرائب والرسوم والإتاوات وحقوق الجماعة مع هذا القطاع بالمنطقة..حول الضريبة على الأراضي الغير المبنية TNB ..والرسوم الأخرى ،والمطالبة برفع الرسم على القيمة المضافة ،وضرائب السكن والنظافة ، من أجل التنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي ،وتحفيز الاقتصاد المحلي ،وضمان الشفافية والعدالة والإنصاف.
إلا إذا كان مستقبلا سيتم إنشاء نظام مقاطعات تصبح المدينة الخضراء خارج دائرة نفوذ ابن جرير هنا سيكون رأيا أخرا .
تم ما حجم مساهمة القطاع الذي” يشيد” على تلك الأراضي بشكل يراعي مفهوم ..التحضر و التحديث والحداثة بالنسبة إليه مقابل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعاطفية بالنسبة لابن جرير.؟
وماذا ستربح ابن جرير من وراء “الأسماء ” الرنانة ؟
عادة ،في كل بقاع العالم تصبح المشاريع الكبرى منفتحة على محيطها ،خاضعة له إداريا ومساهمة ماليا في تنميته ،من خلال رصد ميزانية لفائدة ذلك الجوار ،أو مساهمة في إحداث مشاريع ومحو الفوارق المتباينة .
ابن جرير اليوم هي مدينة “ضائعة ” ،بالرغم من الأضواء الحمراء ،وبالرغم من “الترقيع ” هنا وهناك..لم تحجب عنها الأيام بصمة أنها فعلا …تغرب عنها الشمس بسرعة.
والذي نعنيه بانفتاح الجامعة وهذا أساسي ليس ..السماح بحضور موسمي للمناسبات والأنشطة وتقاسم ..الغذاء وحفلات العشاء ..والبادجات المتزامن مع تلك المبادرات والندوات…لا
انفتاح الجامعة هو شكل أخر ،انفتاح من أجل دراسة المجال ،إكراهات التنمية ،معوقات الاقتصاد المحلي ..إنتاج أفكارعلمية لتطوير الاقتصاد وإنعاش المقاولة المحلية …المساهمة في ابتكار آليات لمحاربة الهدر المدرسي بالرحامنة ،ومحو الأمية عبر ما تملكه الجامعة من خطط علمية ودراسات ورؤى واستراتيجيات لنفس الغرض.
الإنخراط داخل المؤسسات التعليمية من خلال الوزارة الوصية ومندوبية هذا القطاع بالإقليم ..إجراء الأبحاث الميدانية على مستويات الصحة وصحة المرأة والطفل…التشغيل وإعداد المهارات الناعمة …إن الجامعة قادرة على أن تصبح حاضنة للرحامنة والمجال ،وبإمكانها أن تتصالح مع الجميع بصفة نهائية ،كمنارة علمية وجدت من أجل “تفكيك بنيوي” وإعادة تركيب لكل العناصر التي حالت دون أن يسمو في ابن جرير والرحامنة خطاب واع تنموي قوي وجودي ناعم وواعد .
الجامعة تملك أكثر من قدرة للاشتغال على الظواهر الاجتماعية من خلال المؤشرات والاستمارات والعينات ..وإنتاج حلول ليس بشكل “إكرامي ” ،وإنما لأن الثروة التي تغذي تلك المنشآت تخرج من المجال الجغرافي الذي ينتمي إليه هؤلاء السكان المحاصرين بالجهل والعنف المادي والنفسي والقهر ..وسياقة العربات المجرورة والحزن والحرمان المجالي والبشري.
أتابع منصات التواصل الاجتماعية وأشاهد حجم الاحتقان المعبر عنه والسخط اللذين يجب الانتباه لهما ،ففي علم “السيميولوجيا “مع “دوسوسير”.de Saussure.”يصبح جليا دراسة العلامة في كنف المجتمع” .
وجدت صورة مصوبة ب”الفوتوشوب “قبل مدة على حائط الفايسبوك ..فيها مدينة ابن جرير والمدينة الخضراء ،وبينهما جدار عازل .هنا قمة الوضاعة وفي الضفة الأخرى الجانب المشرق ،الرمزية هنا هما :الجدار والتباين وعليك بتأويل المعنى وتفسيره..
العار كل العار أن نترك ابن جرير بدون مشاريع ،أو على الأقل إذا كان مهما إجراء أبحاث ودراسات اجتماعية داخل الجامعة ،على أمكنة من خارج القارة ..فهناك بين أيديهم إقليم يحمل جميع الانتكاسات والتناقضات والشقوق والتصدعات على ظهره .وتزويد الجهات المسيرة للشأن العام لمعرفة كيف التعامل مع الواقع بعلم وأرقام ،وليس التعامل بسطحية وبشكل تبسيطي ..فرجوي ..أكروباتي..دعائي ركيك جدا ،يثير السخرية والشفقة لذا الغير ..ذلك الغير الذي يوزع بين “الفكلرة ” وقواعد العلم وشروط الواقع المتحصر عليها .
لست ربوت