لا يعدّ الحديث عن الفكر السلفي في المغرب من الناحية التاريخية شيئاً جديداً؛ فقد تناولته الأبحاث الأكاديمية مراراً، لكن ارتباطه بلحظات حاسمة من التاريخ القومي للمغرب، خصوصاً لحظات الكفاح ضد الاستعمار، جعل هذه الأبحاث تتناوله بوصفه فكراً أطّر حركات المقاومة والكفاح؛ أي: مجموعة مقولات ساهمت في إمداد هذه الحركات بالحوافز الضرورية للانتقال إلى مرحلة أخرى كانت مشروعاتها للوصول إلى الاستقلال أكثر صراحةً ووضوحاً.
كان من الطبيعي -والحالة هذه- أن يكون لهذا المدخل في البحث نتائج على مستوى مقاربة موضوع السلفية في المغرب؛ فالاهتمام الأساسي الذي ظلّ يشغل الأبحاث المذكورة ليس الفكر السلفي في حد ذاته، وإنما طرائق توظيفه من طرف حركة المقاومة حتى يسبح حاملاً ومغذّياً الأساليب الجديدة التي ارتأتها مناسبةً لخوض معركة الكفاح المسلح.
لقد تحوّل الفكر السلفي -بحسب هذا المنطق- إلى متغيّر تابع لحدث أصلي، وهو المقاومة، وهذا الأمر اقتضى تحليل هذا الفكر في الحدود التي تم فيها توظيفه لخدمة هذا المشروع، وهو ما أدى إلى غضّ الطرف عن جوانب كثيرة لم يكن من الممكن الانتباه لها من دون أن يكون الفكر السلفي هو محور الدراسة ومجالها الأساسي.
كما كان هذا المدخل في البحث سبباً لما لوحظ من قلة العناية بمسألة التأصيل المفهومي لمصطلح السلفية، وكانت النتيجة تعدّد استعمالاته، وتسرّب الإبهام إليه بشكل لا يليق بالدور التاريخي الذي أداه هذا المفهوم في الثقافة العربية بوصفه اتجاهاً فكرياً وعقائدياً في وعي الذات أوضاعها وضرورة إصلاحها.
لا بد قبل ذلك أن نطرح سؤالاً منهجياً يمكن التعبير عنه كالآتي: ألا تنطوي عملية تناول الفكر السلفي -بغضّ النظر عن أسباب إنتاجه وكيفيات توظيفه- على تجاهل لنسبية المفاهيم وتاريخيتها، وهي المقولة الأساسية في العلوم الاجتماعية المعاصرة التي على أساسها يتحدد الفكر ونظرياته ومفاهيمه بشروط ثقافية واجتماعية وسياسية ينطلق منها، ويهدف من خلال بدائله النظرية إلى تقديم إجابات وحلول لما تضعه تلك الشروط من إشكاليات؟.
بعيداً من إنكار هذه القاعدة الذهبية في العلوم الاجتماعية فإن دعوى فعالية المعالجة الشاملة لهذا الموضوع تنطلق من أمرين أساسيين: يتمثّل الأول فيما يُوجبه التحليل العلمي من توضيح للمفاهيم بوصفها شرطاً حاسماً لكلّ مقاربة تريد بلورة تصوّر موضوعي للظاهرة محلّ البحث، ولهذه الخطوة المنهجية كبير الأهمية في تحديد أيّ سلفية نقصد أن تكون محلاً للدراسة من بين كمّ كبير من الأفكار والنظريات والمفاهيم التي تنتسب إلى هذا التوصيف؛ حتى إذا تحقق هذا التحديد المفاهيمي أمكن -في خطوة ثانية- تتبّع طرائق تفاعل الظاهرة التي يدلّ عليها مع محيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ فتصبح -إذ ذاك- مقولة ارتباط النظرية بالواقع مفهومةً ومستوعبةً داخل المقولات المنهجية للعلوم الاجتماعية وغير متعارضة معها؛ إذ في الوقت نفسه الذي يكون فيه الباحث ساعياً بجدية نحو التماس إسقاطات المفهوم على الواقع فإنه يكون واعياً تمام الوعي معنى ذلك المفهوم؛ حتى إذا تعرّض لتوظيفات خرجت به عن تعريفه الإجرائي المحدد ابتداءً كان ذلك مؤشراً إلى خروج الظاهرة التي يصفها من دائرة التحليل.
مفهوم السلفية
صادفتنا في أثناء بحثنا عن تعريف مفهوم السلفية تعريفات كثيرة مطبوعة بطابع العمومية، ويطرح التعميم عدة مشكلات بالنسبة إلى الدراسة الجزئية التي تريد البحث في أنماط محددة من الفكر والعمل، ونعتقد خلافاً لكثير من الدراسات التي تناولت هذا الموضوع أنه ليس من المحبّذ أن نزيد في تعميم المفاهيم بغية حسن استعمالها؛ لأننا بفعلنا ذلك نعدم خصوصية المفاهيم لفرط تحسينها(1)، ويضيع على الباحث استنتاج ما للظاهرة المبحوث فيها من مزايا وانفرادات. لكن تقليص معنى المفاهيم لا يعني بالضرورة حصرها في بعد وحيد، وإنما مجرد التقليل من مداها بشكل يستبعد من حقلها الدلالي -قدر الإمكان- كل ما قد يرتبط بها من مضامين لا تدخل في مجال اهتمام الباحث. وباختصار، يتعلق الأمر بنوع من الانكماش المفهومي الموظف لتحقيق هدفين أوليين وأساسيين:
– صياغة تعريف براجماتي Définition pragmatique يروم التحديد الدقيق والمباشر للسلفية التي ستكون محلّ الدراسة؛ اعتماداً على مضمونها الأكثر بروزاً، وهو تعريف تُقاس مردوديته حسب قدرته على تيسير تناول الموضوع من الوجهة الجزئية.
– الحيلولة دون فتح الملفات التاريخية ذات الصلة التي تستغرقها المناقشات التيولوجية، ودون السقوط في فخّ الجدل الأيديولوجي الدائر بين الاتجاهات التي تتنازع أحقية تمثيل المفهوم بوصفه يحيل إلى كونه أصدق تعبيراً عن الإسلام من بين جميع التيارات التي تنسب نفسها إليه، أو بين التيارات التي توظّفه لا بوصفه نمطاً سائداً ضمن الفكر الإسلامي فحسب، لكن بوصفه غطاءً اصطلاحياً لتمرير النقد الموجّه إلى بنية التصور الديني عامةً.
ولنبدأ -في سياق تحديد المفهوم- بتتبّع تكوّنه التاريخي؛ إذ يُقصد بالسلفية رؤية ومشروع للإصلاح العقائدي والاجتماعي تبلور في البداية مع ابن تيمية وابن القيم الجوزية رداً على ما عدّ انحرافاً في فهم العقيدة الإسلامية وتأويل النصوص المقدسة، ثم استعادت بعد ذلك بقرون حيويتها على يد محمد بن عبدالوهاب؛ لتقاوم ما عدّته تسرّباً لأشكال الوثنية في العقيدة وقواعد التعبّد(2)، ولتقدم أساساً أيديولوجياً بنت عليه الدولة السعودية مشروعية حكمها، وهو خدمة المشروع السلفي في مختلف جوانبه السياسية والاجتماعية.
نخلص من هذا التعريف إلى أن المشروع السلفي قائم على نظرة عقيدية في الأساس، ومنهج في الاعتقاد يقوم على اعتماد القرآن والسنة في إدراك العقائد، مع تنحية الرأي والقياس وإبعادهما تماماً في مجال العقيدة(3)؛ فإذا كانت أصول الإسلام هي الكتاب والسنة فمعنى السلفية هو الأصولية: أصولية النصّ التي لا تعترف بغير جلالة النص حسب فهم السلف له. ولا يقف الحقل الدلالي الذي يفتح عليه مفهوم السلفية عند هذا الموقف الاعتقادي، وإنما يتّسع ليرسم ضوابط للممارسة نفسها على ضوء هذا الاعتقاد؛ فإذا كان الإسلام يقيم العقيدة على توحيد الربوبية فمعنى ذلك أن السلوك والممارسة المترتّبين على عقيدة التوحيد ينضبطان بهذا التوحيد المطلق، وهو توحيد لا مجال فيه لاشتراك غير الله في التوجّه والرجاء والخوف والدعاء والتقرب والنذر والرسل.
إن امتداد المنهج السلفي إلى مجال الممارسة جعل المتكلمين باسمه ليسوا فقط أصحاب رؤية عقيدية بالمعنى المصري للكلمة، وإنما أصحاب مواقف وردود على واقع الممارسة التعبدية؛ لذا يمكن عدّ السلفية نزعةً احتجاجيةً على التطورات التي طرأت على مستويين من المستويات الأساسية للدين، هما: المستوى الفكري، والمستوى التعبدي؛ فعلى المستوى الأول يمكن النظر إلى السلفية بوصفها نمطاً من الفكر يقتصر على استخدام المعجم الإسلامي الأصلي، ويتخذ من قيم الإسلام حسب المعنى الذي يحدده هذا المعجم المعيار الوحيد في النظر والحكم، ومن النصّ الأصلي مرجعه النهائي في التدليل والإثبات من دون أن يستوحي عناصر فكرية مستقلة من خارج الأصولية الإسلامية للاستعانة في مسوغاته الفكرية ودفاعه العقيدي، وإن فعل فبتحفّظ وفي أضيق نطاق ممكن(4).
على المستوى التعبدي، تروم السلفية إعادة تقنين الشعائر الدينية بتوحيد نماذجها، وكلماتها، وإشاراتها، وإجراءاتها؛ لكي تحافظ على النشاط الشعائري الأصلي في مواجهة البدع المستجدة. وإذا أخذنا في الحسبان المعنى الاجتماعي للعبادة، الذي لا يحصرها في كونها الوسيلة التي يعبّر بها المتعبدون عن علاقتهم بالمعبود، لكن على أنها أساساً إظهار للمشاعر وتعبير جماعي عن الموقف من الكون والحياة والعلاقات الاجتماعية(5)، أمكن عدّ السلفية مذهباً اجتماعياً يحاول من خلال عقيدته السلفية رسم صورة مجتمع آخر أساسه التضامن العقدي الذي يجعل الأمة جسداً واحداً يتضامن الكلّ فيه مع الجزء، ويدين كلّ جيل للجيل الذي سبقه برابط معنوي متّصل، ويحمل على عاتقه أمانةً عليه أن ينقلها إلى الجيل الثاني، إنه مجتمع أهل السنة والجماعة الذي أساسه الثبات على الإيمان كما أوجبت التعاليم النصية، وفهمها السلف الصالح المشهود لهم بالخيرية(6).
وكما هو الحال بالنسبة إلى كل مذهب اجتماعي، ينطوي المذهب السلفي على رؤية نقدية واقعية لأوضاع المجتمع المعيش المتوجّه إليه بالإصلاح، معارضاً كل أشكال التضامن الواقعي التي جمعت الناس بروابط غير رابط الاعتقاد الصحيح؛ كالجنس، أو القرابة، أو المذهب. من هنا كان رفض السلفية الاتجاهات الكلامية والصوفية والفلسفية سنّيها ومبتدعها، ووقوفها في وجه محاولات فرض المذاهب الأربعة بالقوة على الأمة.
لكن تنوّع تمظهرات هذه الاتجاهات عبر التاريخ الإسلامي جعل مهمة السلفية منهجاً ومذهباً مستمرة في التاريخ؛ أي: موقفاً يتطور بتطور المجتمع الإسلامي، وينفعل بأحداثه ومذهبه، مع بقاء منهجه في الإصلاح ثابتاً: الاحتكام إلى القرآن والسنة بفهم السلف الصالح، مع ردّ جميع الاجتهادات الأخرى إلى نصوص القرآن والحديث، وعدم التزامها بوصفها مدونةً جاهزةً.
يرجع ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson نشأة هذه النزعة إلى ما يصيب الأيديولوجيات الدينية من تقلّص مستمر في القدرة على تعبئة المناضلين؛ إذ يحصل نوع من البرود والفتور من وقت إلى آخر بسبب اصطدام النظرية بقسوة الواقع؛ لذلك يجد القادة أنفسهم مدعوين إلى إحداث نوع من المراجعة المستمرة التي يخفونها تحت ستاري الإخلاص للمبادئ الأساسية للعقيدة والانخراط الكامل؛ فعندما يصبح التفاوت بين هذا التعديل أو المراجعة والمنطلقات الأساسية للعقيدة كبيراً جداً فإنه يوجد دائماً بعض المؤمنين الذين ينهضون ضد هذه الخيانة؛ لذلك تظهر حركات العودة إلى الأصول؛ ففي كل عقيدة هناك دائماً نصوص وُجدت من أجل التأمل والتقديس، وبالموازاة توجد في هذه النصوص مقاطع تتعارض دائماً وبشكل واضح مع الممارسة، أو تتعارض مع التعديلات التي أجريت على العقيدة من خلال الممارسة، وينظر بعض الناس إلى ذلك بوصفه خيانةً للتعاليم مهما كانت مهارة المؤوّلين في ردم الهوة بين الممارسة والتنظير، وهو ما يقتصر على استلهام الشرارة الأولى للدين من دون أن يعكس بشكل كامل وأمين كل النواميس السياسية والاجتماعية للعقيدة(7).
لكن أصواتاً كثيرة تعالت عبر التاريخ الإسلامي حاملةً هذا المشروع، وبرز مُصلحون كثيرون على مدى حقب هذا التاريخ، كما برزت حركات اجتماعية كثيرة حاولت إحداث تغيّرات في الفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية بناءً على هذه الرؤية. كما أن هناك مجموعة التيارات المعاصرة التي تستغرق هذه الأهداف جزءاً من مشروعاتها الإصلاحية، لكن من دون أن يتوقف سقف البناء الأيديولوجي وأفق العمل الميداني الذي تتبنّاه عند تلك الأهداف، بل يتعدى ذلك بكثير ليمتد إلى اهتمامات أخرى؛ فلا تعدّ الأهداف السابقة سوى نشاط من بين أنشطة أخرى أكثر أهمية في تحديد هويتها الأيديولوجية وفلسفة تنظيمها.
السلفية في المغرب: التطور التاريخي والاتجاهات الحالية
بدأ المذهب السلفي في المغرب بالظهور منذ أمد بعيد على يد السلاطين العلويين خاصة، ابتداءً من السلطان المولى سليمان، ومروراً بالسلطان سيدي محمد بن عبدالله، وانتهاءً بالسلطان مولاي الحسن الأول. وما يوضّح أهمية هذه الحقبة كونها تزامنت مع الحقبة التي عاش فيها محمد عبدالوهاب، وهو مؤشر واضح على عالمية الدعوة السلفية، وقدرتها على التعبئة والانتشار آنذاك؛ بدليل تجاوب الزعامات السياسية معها تجاوباً أساسه الاقتناع بصحة ما تدعو إليه من إصلاح عقيدي واجتماعي.
كما ظهر هذا المنهج في بيئة يطبعها التعدد في الممارسات العبادية؛ كالكلامية، والصوفية، والطرقية. وقد وضع تواتر هذه الممارسات وديمومتها مدةً طويلةً تحدياً كبيراً أمام الجهود التي بذلها روّاد الدعوة السلفية من أجل تصفية العقيدة والتربية على الممارسة التعبدية الصحيحة، وأوجب اختلاف طريقة الدعوة وتباين أسلوبها حسب متطلبات المكان والبيئة الاجتماعية؛ مما أعطى الدعوة السلفية قدرةً على إدراك أثر البيئة الاجتماعية في مسلكيات الدعوة من دون أن تتخلّى عن رسالتها في إصلاح البلاد والعباد وفقاً لتصوراتها.
ومن المعلوم أن المغرب كان منذ الفتح الإسلامي ملجأً لكثير من المذاهب الدينية والسياسية والاجتماعية التي حاولت استيطانه، وجعله فضاءً جغرافياً منضوياً في مجالها الحيوي. وللوصول إلى ضمان الاستقرار النهائي بربوعه كانت تروم عقد تحالفات مع مراكز القوى الداخلية، كانت أبرز جبهة سعت هذه المذاهب إلى السيطرة عليها هي مراكز التعليم الديني التي نشطت في المغرب بفعل المسؤولية التي تحمّلها الفاتحون لنشر الإسلام والدفاع عنه في هذا الثغر الأقصى، فكان على الدعوة السلفية أن تسعى بدورها إلى المساهمة في بعث تعليم ديني يخدم منهجها العقيدي، ومذهبها الاجتماعي، فكان لمجهوداتها في هذا الإطار صيت كبير؛ بدليل النقاشات وردود الفعل التي أثيرت حول ما هدفت إليه من مخالفة ما درجت عليه أساليب التعليم التقليدية من اهتمام بفروع العلم الشرعي والمختصرات المتأخرة في مجال العقائد والعبادات الخالية -حسب رأيها- من كلّ استدلال من الكتاب والسنة، وما سعت إلى إبرازه من مناهج نزوع إلى العناية بالأصول الشرعية المتمثلة في القرآن والسنة بفهم السلف الصالح بما يكفل إعادة ربط الأمة بالعقائد الصحيحة والنقية(8).
هكذا شكّلت ممارسة الدعوة بواسطة التعليم الديني مصدراً لنبوغ كثير من الرموز المحلية المدافعة عن الدعوة السلفية اشتهرت بما خلّفته من آثار علمية، وما كان لها من مكانة اجتماعية متميزة، فكان هؤلاء الرموز بمنزلة آباء مؤسّسين للمذهب السلفي على المستوى المحلي، تلقى بعضهم أساسيات المذهب في المشرق، ومارسوا الدعوة على أساسه في مختلف معاهد التعليم الديني في المغرب(9)، وكانت لهم جهود مهمة في تطوير هذا التعليم، وإعادة ربطه بأصول الاعتقاد الإسلامي؛ مما ساهم في تكوين نخب سلفية ساهمت في رسم مشروعات الإصلاح السياسي والاجتماعي التي ستقدم فيما بعد حافزاً نظرياً إلى حركات المقاومة ضد الاستعمار.
بعد نيل الاستقلال كان للدعوة السلفية أن تعيد النظر في أساليب عملها وتنظيمها تبعاً للتغيرات الكبيرة التي عرفها المجتمع المغربي على جميع المستويات؛ لأن أنماط الفعل السابقة لم تكن لتنسجم مع ما بدأ يشهده المغرب من ورش لبناء المجتمع على ضوء أساليب التنظيم المؤسسي الحديث؛ مما كان يوجب على الدعوة الانتقال من مرحلة الارتباط بالأشخاص إلى العمل داخل المؤسسات، بما يعنيه ذلك من ضرورة تحقيق قفزة على المستوى الدعوي بتوحيد العاملين في حقل الدعوة، والقطع مع أسلوب الدعوة المبعثرة التي يعمل فيها كلّ فريق على حدة، واكتساب مهارات جديدة لتقديم الإسلام في حلل جديدة تناسب التصورات والذهنيات المعاصرة. لكن تزامن مسعى تحديث مناهج الدعوة، وضبط طرائق عملها، مع قيام دعوات أخرى تستند إلى الإسلام في تسويغ مشروعاتها التغييرية أو الإصلاحية، كان مدخلاً إلى تعدد الأفهام واختلاف التصورات والرؤى عند الفاعلين السلفيين، ليس فقط بالنسبة إلى هوية التغيير وممكناته ومداخله، بل امتد ليشمل مسألة توظيف التراث الإسلامي ودوره في هذه المهمة؛ مما يعني الاشتغال على ما يشكّل عصب الدعوة السلفية ومقومها الأساسي.
دفع هذا الهاجس بالدعوة إلى بذل المزيد من الجهود للتعريف بنفسها وأصالتها مقارنةً مع مختلف الاتجاهات المقابلة، فكانت مضطرةً إلى وضع الفواصل وتعميقها؛ حتى تتميّز حقيقة السلفية منهجاً عن جميع الدعاوى المستندة إلى المرجعية الإسلامية على حساب المساهمة في إصلاح حال هذه الدعوة في عمومها وواقعها وإشكالياتها، في محاولة منها لاستشراف مستقبلها، والعمل بشكل جدّي وملخّص لعلاجها مما يعتريها من سلبيات، وتصويب ما يحدث فيها من أخطاء، مع ما يتطلبه ذلك من تسلّح بالرؤية النقدية الفاحصة تجاه أساليب العمل والتنظيم والحركة وأنماط الفعل.
أدى اختلاف الفاعلين في حقل الدعوة السلفية حول مغزى مهمة التميّز والاستفراد بالدين، التي تتمثّل في خطوات تفعيل هذه الدعوة، وحدود الانخراط فيها، والأهداف المرجوة منها، إلى تفاوت تقدير هذه المهمة التاريخية. إن إشكالية التفاعل مع البيئة المجتمعية تعود إلى طرح نفسها من جديد على السلفية بوصفها مذهباً يروم الإصلاح الاجتماعي؛ إذ يمكن القول: إن تفاوت تفاعل الحركات السلفية مع الواقع المغربي تمّ بإكراهٍ من الواقع العالمي، وأفرز تطور الظاهرة في ثلاثة اتجاهات متباينة:
– اتجاه تنطبق عليه محددات الطائفة بالمعنى السوسيولوجي، من حيث قلة تأثره بالسياقات المحلية، وارتباطه بمرجعيات مغلقة وحصرية.
– اتجاه تطور نحو منحنيات راديكالية ذو رؤية معيارية للواقع الاجتماعي ونظرة عدائية له، مع حرصه على توجيه عدائه حتى للطوائف السلفية من النمط الأول التي اكتفت بالاشتغال في نطاقات ضيقة بصفة غير رسمية.
– اتجاهات أصبحت تتخلى عن طابعها الطائفي من خلال تفاعلها القوي مع السياق المحلي، فتبنّت أسلوباً للدعوة أساسه المطالبة بمجال مستقلّ داخل المجال الديني، والانطلاق منه إلى ممارسة الدعوة مع ما يعنيه ذلك من التزام المحددات الرسمية لهذا المجال.
تلك إذاً بعض المعطيات الموضوعية التي تسوّغ الاهتمام بالسلفية داخل المغرب فكراً وحركةً، وإذا كان من الممكن انسحاب بعض هذه الخصائص على حركات أخرى منتشرة في أقطار عربية وإسلامية أخرى، خصوصاً من حيث المبادئ الأساسية المؤطرة للفكر والموجهة للعمل، فإن فهم منطق اشتغال الحركة السلفية في المغرب، وبيان مساراتها وأوجه تفاعلها مع واقعها، لا يتأتّيان إلا بتتبّع الناطقين باسمها، ومناحي فكرهم، ودراسة تنظيماتهم وأنماط سلطاتهم وشبكاتهم الاجتماعية، كلّ ذلك على المستوى القطري أساساً. آنذاك فقط يمكن اكتشاف خصوصية كلّ تيار من التيارات السلفية العاملة داخل المغرب، وهي خصوصية يرفضها مسار هذا القطر التاريخي وبناؤه الاجتماعي على الرغم من ادّعاء الأيديولوجية السلفية التعالي عن معطيات الزمان والمكان، واحتكارها التعبير الصحيح عن عقيدة الإسلام.
لست ربوت