ل للبطولات دروسٌ وعبر من أناس وهبوا أنفسهم رخيصة لأجل أن يبقى تراب وطنهم طاهراً من دنس الاحتلال، إنها الحرية التي لا يتذوّق طعمَها إلا أولئك الذين اقتلعوها بأظفارهم المدماة من تعنّت المحتلّ المتجبّر وحلفاءه.
قصة البطل المجاهد عبد الكريم الخطابي الذي نقشَ اسمه في صفحات التاريخ الإنساني إلى الأبد، كشخصيةٍ قدّمت دروساً خالدة في معنى الوفاء للوطن والتصدي المُتفاني للاحتلال، تكاد هذه الشخصية لا تُفارق المقررات التاريخية الأجنبية والدراسات العسكرية في الكليات الحربية عبر العالم حتى أُشبعت بحثاً وتمحيصا، في حين نجدها غائبة منسيّة عند أصحاب الشأن في الوطن العربي، فلو سألتَ طالبا عربيا عن تشي جيفارا مثلا أو ماوتسي تونغ لأجابكَ بما يُثلج به صدرك، لكنه يقف عاجزاً كل العجز عن معرفة شخصية عربية خلّدها التاريخ العالمي اسمُها عبد الكريم الخطابي.
هو محمد بن عبد الكريم الخطابي أو "رقايد محند" كما يُسميه سكان الريف، أسطورة المقاومة المغربية، الشخص الذي ألحقَ بقوتين عظيمتين هزائم نكراء دفعت بعض الجنرالات إلى الانتحار هروباً من تبعات الذلّ والعار، وُلد سنة 1882 بأجدير، ينتسبُ إلى قبيلة بني ورياغل، اشتغلَ معلماً ومترجماً وكاتباً بالإدارة المركزية للشؤون الأهلية بمليلية، وصحفياً بجريدة "تلغراف ديل الريف" الناطقة بالإسبانية، وصل إلى مليلية وعمره 24 سنة، وبحكم شغله تقرّب من الإسبان حتى أنّه كان يلعب معهم الدومينو في المقهى، تابعَ تمرّد العرب على الأتراك مع (لورانس العرب) والحركة العالمية لمحمد علي يونس وأُعجب كثيراً بشخصية كمال أتاتورك، مكّنه احتكاكه بالمجتمع الإسباني عن قرب من كشف خبايا عقليته والتغلغل في طريقة تفكيره ونظرته للمستقبل والمنطقة، قال "لم أعتبر يوماً أن الحضارة الغربية غاية في السعادة والاستقرار، وكنتُ كلما زاد احتكاكي بالإسبان والأوروبيين زاد إيماني بأنهم يعيشون في حُلم الاستعمار والاستغلال"، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى اتّهمه الإسبان بالتنسيق مع ألمانيا فكان مصيره السجن.
كان كرهه للاستعمار يزيدُ يوماً بعد يوم، فتفكيره كلّه كان منصبّا في لحظة التحرر من قبضته وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، خصوصاً وأنّ منظر رجل يُضرب بالسّوط من طرف جندي إسباني وهو يستغيث فجّر غضبه وألهب حقده وكان بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت مجابهته للاستعمار، كان يُردّد دائما "لا أدري في هذا الوجود سوى الحرية، وكل ما سواها باطل"، ولم تتوقع إسبانيا أن يتحوّل عبد الكريم الخطابي بعد ذلك إلى أشد أعدائها، وأن يُلحقَ بها أفدح الخسائر في الأرواح والعتاد.
ودخل عبد الكريم الخطابي حربه ضد المستعمر الإسباني وهو لا يملكُ ما يُواجه به قوة عسكرية هائلة سوى إيمانه الراسخ بالاستقلال، وطرد المحتل من أرض الأجداد والأحفاد، يُناصره في ذلك ثلّة من الرجال المغاوير الأشاوس، وقد أحدث عبد الكريم الخطابي بتكتيكاته العسكرية الماكرة صدمة كبرى لجنرالات إسبانيا، فأبهرهم بطريقة قتاله ودقّته البالغة في تحديد الهدف ولحظة الهجوم، وحتى يستطيع الصمود في وجه الإسبان لجأ إلى تطوير أسلوب جديد في القتال لم يسبقه إليه أحد من قبل في تنظيمه وطريقة تنفيذه، أسلوب عُرف بحرب العصابات القائم على المباغتة والكرّ والفرّ.
ولم يكن عبد الكريم الخطابي ليحقّق كل هذه الانتصارات المُبهرة بذكائه الثّاقب لولا وجود رجال مقاومين ميزتهم سرعة البديهة، لا يُرهبهم الموتُ ولا أسلحة العدوّ المخيفة، فقد كان باستطاعتهم أن يمكثوا 3 أيام مُتوالية دون أكلٍ سوى بعض الفواكه الجافّة "والقديد" ينتظرون مرور العدو ليُجهزوا عليه بأسلحتهم البسيطة، كانوا يصوبون بدقة عالية على بعد 800 متر، حتى وصل بهم الأمر أن يحسبوا بمهارة عالية ودقّة متناهية وقت سقوط القذيفة وانسيابها في الهواء.
هذه الإرادة العجيبة وقفت سدّاً منيعاً في وجه الاحتلال الاسباني، وقد اعترف بذلك المارشال بيتن بقوله "إن الجنود المغاربة من أشجع الجنود في العالم، ولا يُوجد من يماثلهم في المعركة". وحتى صيف 1925 كانت اسبانيا قبل اتّفاقها مع فرنسا على إبادة سكان الريف قد وصلتْ إلى مرحلة متقدمة من الإخفاق والعجز على كبح إرادة المقاومين شمال المغرب، فالتجأت إلى استخدام وسائل الجبناء، وألقتْ طائراتها على منطقة الريف غازات سامة محرمة دوليا حصدت آلاف الأرواح من الرجال والنساء والأطفال والدواب، وقد أحيطت العملية بسرية تامّة خوفاً من ردّة فعل المنتظم الدولي تجاه هذه الوسيلة الرهيبة في إبادة الجنس البشري.
تُوفي مهندس حرب العصابات بمصر يوم 6 فبراير 1963، ودُفن في مقبرة الشهداء بالقاهرة. رحم الله المجاهد البطل عبد الكريم الخطابي رحمة واسعة.
في قصصِ التحرّر التي كشفت عبر تاريخ الإنسانية الطويل، عن معدنٍ بشريٍ أصيل رافضٍ لكل أوجه الانصياع والاستعباد، متطلّع بطبيعته إلى الحرية والاستقلال ولو كان الثمن المقابل يتعارض مع ميل الإنسان للحياة الهنية والعيش الرغد، فمبدأ الحرية تكاد تنتفي أمامَه كلُّ أساسيات الحياة الأخرى، فهي الأصل، كيف لا والطير نفسه يهرب إلى السماء محلقاً في العلياء حتى وإن اقتربتَ إليه بأجود الأطعمة، مفضلاً بذلك حريته على أي إغراء مادي آخر كيفما كان.
قصة البطل المجاهد عبد الكريم الخطابي الذي نقشَ اسمه في صفحات التاريخ الإنساني إلى الأبد، كشخصيةٍ قدّمت دروساً خالدة في معنى الوفاء للوطن والتصدي المُتفاني للاحتلال، تكاد هذه الشخصية لا تُفارق المقررات التاريخية الأجنبية والدراسات العسكرية في الكليات الحربية عبر العالم حتى أُشبعت بحثاً وتمحيصا، في حين نجدها غائبة منسيّة عند أصحاب الشأن في الوطن العربي، فلو سألتَ طالبا عربيا عن تشي جيفارا مثلا أو ماوتسي تونغ لأجابكَ بما يُثلج به صدرك، لكنه يقف عاجزاً كل العجز عن معرفة شخصية عربية خلّدها التاريخ العالمي اسمُها عبد الكريم الخطابي.
هو محمد بن عبد الكريم الخطابي أو "رقايد محند" كما يُسميه سكان الريف، أسطورة المقاومة المغربية، الشخص الذي ألحقَ بقوتين عظيمتين هزائم نكراء دفعت بعض الجنرالات إلى الانتحار هروباً من تبعات الذلّ والعار، وُلد سنة 1882 بأجدير، ينتسبُ إلى قبيلة بني ورياغل، اشتغلَ معلماً ومترجماً وكاتباً بالإدارة المركزية للشؤون الأهلية بمليلية، وصحفياً بجريدة "تلغراف ديل الريف" الناطقة بالإسبانية، وصل إلى مليلية وعمره 24 سنة، وبحكم شغله تقرّب من الإسبان حتى أنّه كان يلعب معهم الدومينو في المقهى، تابعَ تمرّد العرب على الأتراك مع (لورانس العرب) والحركة العالمية لمحمد علي يونس وأُعجب كثيراً بشخصية كمال أتاتورك، مكّنه احتكاكه بالمجتمع الإسباني عن قرب من كشف خبايا عقليته والتغلغل في طريقة تفكيره ونظرته للمستقبل والمنطقة، قال "لم أعتبر يوماً أن الحضارة الغربية غاية في السعادة والاستقرار، وكنتُ كلما زاد احتكاكي بالإسبان والأوروبيين زاد إيماني بأنهم يعيشون في حُلم الاستعمار والاستغلال"، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى اتّهمه الإسبان بالتنسيق مع ألمانيا فكان مصيره السجن.
كان كرهه للاستعمار يزيدُ يوماً بعد يوم، فتفكيره كلّه كان منصبّا في لحظة التحرر من قبضته وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، خصوصاً وأنّ منظر رجل يُضرب بالسّوط من طرف جندي إسباني وهو يستغيث فجّر غضبه وألهب حقده وكان بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت مجابهته للاستعمار، كان يُردّد دائما "لا أدري في هذا الوجود سوى الحرية، وكل ما سواها باطل"، ولم تتوقع إسبانيا أن يتحوّل عبد الكريم الخطابي بعد ذلك إلى أشد أعدائها، وأن يُلحقَ بها أفدح الخسائر في الأرواح والعتاد.
ودخل عبد الكريم الخطابي حربه ضد المستعمر الإسباني وهو لا يملكُ ما يُواجه به قوة عسكرية هائلة سوى إيمانه الراسخ بالاستقلال، وطرد المحتل من أرض الأجداد والأحفاد، يُناصره في ذلك ثلّة من الرجال المغاوير الأشاوس، وقد أحدث عبد الكريم الخطابي بتكتيكاته العسكرية الماكرة صدمة كبرى لجنرالات إسبانيا، فأبهرهم بطريقة قتاله ودقّته البالغة في تحديد الهدف ولحظة الهجوم، وحتى يستطيع الصمود في وجه الإسبان لجأ إلى تطوير أسلوب جديد في القتال لم يسبقه إليه أحد من قبل في تنظيمه وطريقة تنفيذه، أسلوب عُرف بحرب العصابات القائم على المباغتة والكرّ والفرّ.
وصحيح أن هذا التكتيك كان معروفاً قبل ذلك، فقد استخدمه المجاهد الليبي عمر المختار، واسْتُخدمَ في حرب فيتنام والحرب الشعبية في الصين والهند وفي الحروب العالمية كسلاحٍ فعّالٍ بين قوتين غير متكافئتين، إلا أن المجاهد عبد الكريم الخطابي استطاع أن يُطوره بشكل كبيرٍ وأعاد هيكلته وضبطه بطريقة أتتْ أُكلها بما لم يكن متوقّعا، فطوّر نظام حفرِ الخنادق للتواري عن أنظار العدو وتجنّب الخسائر البشرية الباهظة في حالة سقوط القذائف القريبة، وطوّر طرق الانقضاض على العدو باختيار المكان المناسب واللحظة المناسبة تفادياً للاصطدام مع الجيش وتسهيلا لعملية الانسحاب، كما نهج طريقة حماية الأراضي المحرّرة لأول مرة وأنشأ فرق المهمات الصعبة المدربة تدريباً عاليا أو ما يُسمى الآن بالكوماندوس، وحاصر الجيش الاسباني كثير العدد والعدّة، حتى جعل جنوده يشربون بولهم من شدّة العطش، فكان يواجه بـ 20 ألفا من المجاهدين الأبطال أكثر من نصف مليون من جيش العدو فيُوقع به الهزيمة تِلو الأخرى، ألحقَ بالجنرال سلفستري في معركة أنوال الشهيرة في يوليو 1921 هزيمة مدوية دفعته للانتحار وكبار ضباطه اتقاء للعار، حيث تمكّن عبد الكريم الخطابي من قتل أزيد من 15 ألف جندي واغتنم قطعاً مدفعية ومعدات حربية عديدة، وأسر أكثر من 600 آخرين، برجال مستبسلين أشد الاستبسال لم يتعدّ عددهم ألف رجل، وحّد صفوف قبائل الريف شمال المغرب وتفطّن لكل مكائد العدوّ في التقسيم ونشر الخلاف والفُرقة.
ولم يكن عبد الكريم الخطابي ليحقّق كل هذه الانتصارات المُبهرة بذكائه الثّاقب لولا وجود رجال مقاومين ميزتهم سرعة البديهة، لا يُرهبهم الموتُ ولا أسلحة العدوّ المخيفة، فقد كان باستطاعتهم أن يمكثوا 3 أيام مُتوالية دون أكلٍ سوى بعض الفواكه الجافّة "والقديد" ينتظرون مرور العدو ليُجهزوا عليه بأسلحتهم البسيطة، كانوا يصوبون بدقة عالية على بعد 800 متر، حتى وصل بهم الأمر أن يحسبوا بمهارة عالية ودقّة متناهية وقت سقوط القذيفة وانسيابها في الهواء.
هذه الإرادة العجيبة وقفت سدّاً منيعاً في وجه الاحتلال الاسباني، وقد اعترف بذلك المارشال بيتن بقوله "إن الجنود المغاربة من أشجع الجنود في العالم، ولا يُوجد من يماثلهم في المعركة". وحتى صيف 1925 كانت اسبانيا قبل اتّفاقها مع فرنسا على إبادة سكان الريف قد وصلتْ إلى مرحلة متقدمة من الإخفاق والعجز على كبح إرادة المقاومين شمال المغرب، فالتجأت إلى استخدام وسائل الجبناء، وألقتْ طائراتها على منطقة الريف غازات سامة محرمة دوليا حصدت آلاف الأرواح من الرجال والنساء والأطفال والدواب، وقد أحيطت العملية بسرية تامّة خوفاً من ردّة فعل المنتظم الدولي تجاه هذه الوسيلة الرهيبة في إبادة الجنس البشري.
وهكذا لم يكن أمام المجاهدين سوى الرضوخ لقدر الموتِ اختناقاً وهم يبتسمون من جبن وتفاهة عدوّهم الذي يعرف تمام المعرفة أنه المنهزم في المعركة، ولم يكن أمام عبد الكريم الخطابي سوى أن يُسلّم نفسه للمستعمر خوفاً من سقوط المزيد من الضحايا الأبرياء في موقف بطولي تاريخي لا يفعله سوى الرجال الذين تنتفي أنفسُهم وأجسادُهم تجاه ذرّة واحدة من تراب الوطن الطاهر. هكذا تمّ وأد المقاومة الريفية بالأسلحة الكيماوية بلا رحمة ولا شفقة، دون ردّ فعلٍ حازم من العالم إلى حدود كتابة هذه الكلمات المريرة، ومازالت المنطقة برمّتها تعاني من تبعات السموم بشكل فظيع.
إنه البطل المغوار سيدي محند قاهر الاستعمار الاسباني في شمال المغرب، الرجل الذي انحنى له تشي جيفارا احتراماً لمكانته واسمه بعد أن زاره شخصيا في القاهرة سنة 1960، واعترف بأنه أخذ منه تكتيك حرب العصابات، واستلهم من شجاعته وإقدامه الشيء الكثير، وقد قال ماوتسي تونغ لوفد فلسطيني زاره في بيكين سنة 1971، جئتم تريدون أن أحدّثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين يوجد في تاريخكم أحد المصادر الأساسية التي تعلّمت منها الكثير، وكان يقصدُ بقوله المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
تُوفي مهندس حرب العصابات بمصر يوم 6 فبراير 1963، ودُفن في مقبرة الشهداء بالقاهرة. رحم الله المجاهد البطل عبد الكريم الخطابي رحمة واسعة.
لست ربوت