إنها نهاية التسعينيات في مدينة وجدة المغربية، والناس مرعوبون من شائعة مفادها أن عرافًا تنبأ بسنوات قادمة من الجفاف.
حكاية أشبه بحكايات التراث الخرافية، غير أني أتذكر بالتفاصيل وقعها على آذان العائلة. أتذكر همس الوالد المتعلم، ودعوات الجدة، ورهبة الأم عندما حملت العمة هذا النبأ الأسود. كنت صغيرًا حينها لأحاجهم في مدى مصداقية الخبر. ولو كنت في عمري الآن لما عمدت إلى ذلك. بينما وأنا أعيد شريط الواقعة، السؤال الوحيد الذي يخطر على ذهني هو: لما كل هذا الرعب من انحباس المطر؟
«كي تحكم المغرب يجب على السماء أن تمطر»، يردد المغاربة إلى يومنا هذا، وبكثير من الإيمان، هذه المأثورة عن قائلها الماريشال «ليوطي»، أول مقيم عام للحماية الفرنسية في المغرب. هذا البلد الذي يطمح اقتصاده إلى النمو، وتسعى دولته إلى أن تعيد أمجادها التاريخية في إفريقيا والمنطقة العربية، لم تحسم بعد قصة صراعها التاريخي المرير مع الماء.
قد يعلق بعضهم بأن هذا رهان العالم كله، وهذا القول صحيح. غير أن ما يجعل المغرب استثناء في مجاله الحضاري، أنه ذو تاريخ حافل من مراحل القحط، وقرون سوداء بفعل هذه الكارثة الطبيعية.
كارثة خلَّفت مشاهد دامية كان عنوانها «الجوع». وللجوع كذلك عند المغاربة أثر تاريخي خاص، يرجع بهم إلى سنوات غير بعيدة، نهاية النصف الأول من القرن العشرين، عندما أكلوا الدوم والسدر والجراد كي لا يموتوا جوعًا، أما الحمير والقطط والكلاب، فكانت بالنسبة إليهم حينها قمة الترف.
يقول «فرانسيس مورلابيه»، في كتابه «صناعة الجوع»، إن «المجاعات لا تحدث لأن القدرة الإلهية أرادت ذلك، بل بسبب تصرفات البشر». هذا ما كان في ما أسماه المغاربة بـ«عام الجوع» أو «عام البون»، وهي السنوات العجاف بين 1940 و1947.
صفحة من التاريخ الأسود للاستعمار ما زالت تُورِّث ثقلها الثقافي عبر الأجيال، وما زالت عجائز الأمة تعيد حكاياتها بكثير من التأثر والرهبة. هذا ما جعل البحث فيها أمرًا محتومًا، لا بغرض السقوط في محاكمة أيديولوجية للتاريخ، الأمر الذي ليس لنا حق فعله، بل لفهم تلك المرحلة من حياة أهل البلد، ومعرفة الأساليب التي فرضتها على شعبه درءًا للهلاك، والكشف عن مظاهر تلك الحقبة المترسبة حتى اليوم في ثقافة الإنسان المغربي. المغرب: عام البون
«عام الجوع» أو «عام البون» أو «عام بوهيوف». تتعدد التسميات والمقصود واحد، حقبة المجاعة الكبرى التي طالت مغرب النصف الأول من القرن العشرين، نتيجة موجة الجفاف القاسية التي ضربت البلد آنذاك.
لكن وصفها بـ«عام» يحمل مغالطات كثيرة، لأنها دامت أكثر من سبع سنوات عجاف بداية من عام 1940.
عام 1940، كان اللحظة التاريخية الأكثر سخرية في تاريخ الإمبريالية العالمية، حين اجتاحت ألمانيا النازية فرنسا لتشطرها نصفين: شمالي تابع لها بشكل مباشر، وجنوبي تحكمه حكومة «فيشي» المسيَّرة بيد «الرايخ الثالث». هكذا غدت فرنسا مستعمِرة ومستعمَرة في نفس الوقت، والمغرب بلد تحتله دولة فقدت أدنى سيادة على أراضيها التاريخية.
خلال تلك المزحة التاريخية السمجة، كان شمال إفريقيا بمثابة الجبهة الخلفية للحرب الدائرة رحاها في أوروبا. هكذا عمد المستعمِر إلى استنزاف ثروات المغرب لتوريد مجهوده الحربي، قاسمًا البلاد إلى منطقتي إدارة: مدنية داخل المدن وعسكرية خارجها، واضعًا مِلكية الأراضي الزراعية في يد المستوطنين الفرنسيين، وفارضًا سياسة التقشف على أصحاب الأرض بإقرار نظام صارم لتوزيع الغذاء، أو ما سُمي نظام «البون» (Les Bons d’achat)، وهي قواسم الشراء التي كانت توزعها السلطات الفرنسية، تحدد بها حصص تموين العوائل المغربية.
لم يقف طغيان الاحتلال عند حد مصادرة المنتجات الفلاحية والماشية من أصحابها المغاربة وتوزيعها على بني جنسهم من الفرنسيين فحسب، بل تمادت لتصل إلى مطالبتهم بتقديم تبرعات لصندوق «مليار للتحرير»، الحملة التي دعت إليها الحكومة الفرنسية لدعم مقاومتها في الداخل.
في السنوات الحالكة، عاد المغاربة إلى ممارسة ما اعتادوا عليه لمحاربة الجوع، ودفعت بهم لهفة القوت إلى ذبح كل حية تسعى على الأرض.
كانت الكميات الممنوحة خلال تلك الفترة تغطي أساسيات المائدة المغربية بالكاد: دقيق وسكر وزيت قليل للغاية، يمنع الجوع ولا يبلغ الشبع، كما تصف شهادة نشرتها جريدة «Le Depeche» لأحد سكان البوادي ممن عايشوا تلك المرحلة: «صار الغذاء يتناقص يومًا بعد يوم. غاب اللحم عن مائدتنا أولًا، وغاب الخضار بعده، وبعد ذلك صارت تتناقص الوجبات إلى وجبة، لينتهي الحال ببعض اللقيمات».
أبت سنوات الضيق إلا أن تكرس منطِقَها الساخر، في تزامن بين الوضع السياسي والعسكري من جهة، وحبس المطر عن العباد من جهة أخرى، لتزيد المأساة حدة. غير أن هذا لا ينفي الدور الأساسي للمستعمِر في ذلك القهر، الشيء الذي يؤكده المؤرخ الفرنسي «دانيال ريفيت»، في كتابه «المغرب من ليوطي إلى محمد الخامس»: «الأوهام الحضارية للحماية الفرنسية أخذت بالاضمحلال بفعل أزمة 1929 أولًا، تليها المجاعة الكبرى سنة 1944-1945».
في تلك السنوات الحالكة، عاد المغاربة إلى ممارسة ما اعتادوا عليه لمحاربة الجوع، ودفعت بهم لهفة القوت إلى ذبح كل حية تسعى على الأرض، من كلاب وحمير وقطط ولقالق (جمع لقلق)، والبحث عن أي نبتة تصلح للأكل. فصنعوا خبزهم من جذور نبتة «إرني» السامة، بعد تجفيفها وطحنها دقيقًا، ودخلت بُقول عدة إلى عاداتهم الغذائية، وبلغ بهم الفقر والعري إلى نبش قبور الموتى للاكتساء بأكفانهم، مجسدين بذلك المثل الشعبي: «الحي أبقى من الميت».
أثرت تلك السنوات في ديموغرافيا المغرب، فعمد كثير من سكان الوسط إلى الهجرة نحو السواحل، وصولًا إلى المناطق التي حدث فيها إنزال جيوش الحلفاء، وكذلك اللاجئين الفرنسيين الفارين من ويلات الحرب في بلدهم، للاستفادة من الإعانات التي تقدمها الحماية إلى تلك الشرائح.
مع ذلك، كان وقْع المجاعة ذا ثقل كبير، مخلِّفًا قتلى يصل عددهم إلى 300 ألف، وكثيرًا من مَشاهد الفقر التي بقيت راسخة داخل ذاكرة الشعب، مجسدة فزَّاعة تاريخية وهاجسًا ما زال صامدًا في وعي المغاربة الجمعي إلى اليوم.
فترات الرخاء استثناء
أي استقراء زمني للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر يبين لنا دورية حضور المجاعات في المغرب وتواترها، بشكل كانت فيه فترات الرخاء النادرة استثناء، ما جعل للمغربي ألفة تاريخية وطيدة مع هذه الجائحة.
هذا الحضور لم تكن علته شأنًا محض بيئي، بل تدخل في صناعة وقعه الدموي ظروف الطبيعة مع اختلالات التنظيم الترابي، وسوء إدارة أزمات شح الموارد المائية.
يوضح لنا كتاب «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب»، للمؤرخ المغربي محمد أمين البزاز، ما طبع تلك المرحلة من اقتتال بين السلطة المركزية من جهة، والقبائل المتمردة من جهة أخرى، أضف إلى ذلك تصاعد الضغوطات الاستعمارية على البلاد، وغرقها في أزمات مالية متتالية.
ينقل لنا البزاز، عبر مراسلات أوروبية تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما يوضح إصرار المخزن على جباية الضرائب وقت الأزمات، الشيء الذي كان يُعمِّق أكثر جراح المتضررين، ويورد لنا كذلك من تقرير القنصل الأمريكي في تلك الفترة، شاهدًا يوضح أن «العمال والشيوخ (ممثلي السلطة المركزية) يشتطون في مطالبة المنكوبين بالضرائب، ولا يترددون في حجز عدد قليل من الدواب التي نجت من الهلاك في الجفاف، استيفاءً للواجبات المتأخرة».
في المقابل، كان السلطان يستجيب دائمًا بالصدقات لمساعدة المنكوبين، مشيرًا على خُدَّامه بإحكام مراقبة السوق وقطع الطريق على المحتكرين المستغلين للظروف بغرض الاغتناء.
استجداء البركة لم يكن مقتصرًا على السلاطين، بل كانت الزوايا والأضرحة تلعب دورًا روحيًّا مواكبًا لتلك الفترات العصيبة، ما يوضح لنا أكثر فأكثر التصورات الثيولوجية المغربية التي ترتبط أساسًا بالجوع والجفاف.
هكذا كان الناس يخرجون كلما شحت السماء ليصلُّوا الاستسقاء مصحوبةً بعدد من الطقوس الشعبية الشائعة إلى عهد قريب في المجال القروي المغربي،مثل الطواف بالصلاح والأولياء، وقلب الملابس والمشي حفاة، وتعليق التمائم. مثل الطواف بالصلاح والأولياء، وقلب الملابس والمشي حفاة، وتعليق التمائم.
يحيلنا هذا إلى طبيعة التفسيرات التي كان المغاربة يفسرون بها تلك السنوات من أيامهم، ولا عجب في أن تكون كل تلك التفسيرات دينية روحانية، من قبيل أن القحط غضب من الله بسبب ابتعاد الناس عن طريقه السوي.
غير أن المسؤولية عن ذلك الغضب كان غالبًا ما يجري التراشق بها، وبشكل تلقائي، بين مكونات المجتمع المغربي حينها: مُخَزِّن وقبائل وزوايا. وبذلك كانت تتحول إلى بروباغندا يهاجم بها كل طرف الآخ
.
ثقافة الجوع في المغرب
.تركت المجاعات في ذاكرة الشعب المغربي جراحًا غائرة، كانت كفيلة بخلق ثقافة جوع قائمة بذاتها، تكشف عنها المظاهر، ليست بالقليلة، متغلغلة حتى الآن في كل مستويات السلوك الشعبي.
بهذه الكيفية يتفشى خطاب الحرس قيمة محددة لأخلاقيات هذا الشعب، قيمة يعبَّر عنها في كثير من الأمثال الشعبية، ونجد من خلالها المغربي ملتزمًا بعدم الإسراف، والاحتراز الدائم من الغد الذي يحمل في طياته تكرار مآسي الحاجة والمسغبة.
نجد تأثرًا منقطع النظير للعادات الغذائية المغربية من هذه المرحلة، هي التي كانت تعتمد على الوجود الضروري للحوم مرفَقة بأنواع الخضر المختلفة، ويكون فيها الطاجين أو الكسكس أطباقًا أساسية للطهي، عادت منفتحة على عدد من البقول البرية التي كانت أساس غذاء أيام الشدة، بُقول لم يكن لها قبل شح سنوات الجائحة وجود على المائدة المغربية.
يزخر المطبخ المغربي كذلك بإبداعات كثيرة كانت نتاج تلك المرحلة، تركزت في اختراع أشكال التخزين، بتقديده أو تمليحه، وعمدت النساء المغربيات إلى الاهتمام بهذا الأمر بحرص كبير، جعل من مميزات الزوجة المثالية مدى حرصها على حفظ الغذاء.
أضف إلى ذلك تقديس المغاربة للخبز الذي كان في تلك الأيام السوداء مصدرًا شائعًا لسد الجوع. عاد المغاربة يرون فيه أقدس النعم الإلهية التي يجب على الإنسان الحذر من تدنيسها، سواء برميها في القمامة أو تركها على الأرض، ويجب تقبيلها تكفيرًا عن هذه الزلات إذا ما وقعت.
هذا الوجود القدسي للخبز يعبر عنه المغربي بعمق في لغته، إذ يسمي الحياة الرغيدة «خبزة»، ويدعو الله بخالص الدعاء أن يؤتيه «خبزة سهلة» تكفيه ضنك العيش البائس.سنوات المجاعة التي عرفها المغرب لم تكن حدثًا عرضيًّا مر على شعب هذا البلد، بل خلف أثرًا دمويًّا تفوقه حدة وعمقا الترسبات الثقافية التي بقيت حتى الآن، تطبع طريقة عيش أجيال من أهل هذه الأرض
لست ربوت