قصر الباهية بمراكش : عن المرأة الرحمانية التي ملكت قلب رجل السلطان بقلم ذ. محمد القـنــور

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية قصر الباهية بمراكش : عن المرأة الرحمانية التي ملكت قلب رجل السلطان بقلم ذ. محمد القـنــور

قصر الباهية بمراكش : عن المرأة الرحمانية التي ملكت قلب رجل السلطان بقلم ذ. محمد القـنــور

حكاية عشق وأسطورة معمار وعنوان سلطة‏
ذ. محمد القـنــور
هي حكاية لتلك السيدة الرحمانية التي ملكت قلب “باحماد” الصدر الأعظم والوزير القوي في مغرب آواخر القرن 19 ‏وبداية القرن العشرين، فبنى قصر الباهية، تحفة معمارية لتخليد إسمها.‏
ولقد إرتبط قصر الباهية باسم زوجة الحاجب القوي في مغرب القرن التاسع عشرعلى عهد السلطان مولاي الحسن ‏الأول،(1873 – 1894) والوزير الأول على عهد إبنه السلطان العلوي مولاي عبد العزيز،(1894 – ‏‏1908) إنه أحمد بن موسى بن أحمد السملالي المتوفى سنة 1900 بمراكش،والشهير بــ “باحمـــاد” الذي ‏بنى قصر الباهية تمجيدا لذكرى زوجته، وعرفانا بمودتها وحبها، في سمفونية إمتزجت ضمنها الحكايات ‏بالهندسة، وتوحدت عبرها المشاعر بالزخارف فأعطت صورة واضحة مميزة عن عمق الحضارة المغربية ‏في بداية القرن العشرين.‏
هذا، وينتمي “باحمـــاد” أحمد بن موسى بن أحمد السملالي إلى أسرة مغربية عريقة، إشتهرت بخدماتها مع المخزن ‏المغربي على عهد الدولة العلوية، ويكاد يكون الشخصية الوحيدة من بين رجالات الدولة الغير المنتمين ‏للشرفاء العلويين، فقد قال عنه المؤرخ الأديب مولاي عبد الرحمان بن زيدان، في مصنفه التاريخي الشهير، ‏‏”….كان أحمد بن موسى، “باحمـــاد” شعلة ذكاء ونباهة، فقيها حازما، ضابطا عفيف الإزار، طاهر الذيل، أية ‏في الدهاء وحسن التدبير، ذا حزم وثبات ومجالسه لاتخلو من العلماء ومذكراتهم” في حين يؤكد الفقيه العلامة ‏المختار السوسي أن “باحمـــاد” كان أشبه الناس بالسلطان المولى الحسن الأول في تنظيمه وفي إشتغاله ‏بالجد، فلم يكن يعرف سوى الخدمة والعمل.‏
فمباشرة بعد وفاة الوزير “باحمـــاد” سنة 1900 ، تم ضم قصر الباهية إلى حظيرة القصور الملكية، وقد قام ‏بعدها الوزير الصدر الأعظم المدني الڭـلاوي، شقيق باشا مدينة مراكش، الحاج التهامي الڭـلاوي،بتشييد ‏طابق علوي به،كما أن المقيم العام الفرنسي الماريشال لويس إيبير ليوطي ، ( 1854 – 1934) إتخذ قصر ‏الباهية مقرا له، وأدخل عليه بعض الكماليات المنزلية الملائمة في بداية العصر للعقلية الفرنسية كالمدفئة، ‏ومروحات التهوية، والأسلاك التلغرافية والهاتف، كما وضع قصر الباهية بعد وفاة الماريشال ليوطي سنة ‏‏1934 كمقر للضيافة،حيث تم وضعه تحت تصرف الضباط العسكريين الفرنسيين، وفي سعيها لإنشاء ‏الدواليب الإدارية للحماية، قامت السلطات الفرنسية بتخصيص جناح منه، لما كان يعرف بمندوبية الشؤون ‏الحضرية.‏
ومع بزوغ فجر الإستقلال، نزل بقصر الباهية الملك المؤسس للمغرب الحديث، محمد الخامس طيب الله ثراه، ‏قبل أن يتخذ مقرا لمؤسسة التعاون الوطني، كما إتخذه سمو الأمير مولاي عبد الله رحمه الله، نزلا له، حيث ‏كان لقصر الباهية منذ بنائه، محافظا مخزنيا يقوم على تسييره، إلى أن عهد به جلالة المغفور له الحسن الثاني ‏لوزارة الثقافة .‏
وتجدر الإشارة، أن قصر الباهية ، كان قد صدر بشأنه ظهير شريف بتاريخ 21 يناير 1924، نشر بالجريدة ‏الرسمية عدد 592 صنفه ضمن المباني التاريخية والتحف الفنية التي يتعين حمايتها وفق مقتضيات الظهير ‏الصادر بتاريخ 4 يوليوز 1922 والخاص بالمحافظة على الآثار.‏
وفي سنة 1922 تم‎ ‎تصنيفه كمعلمة تاريخية يفد إليها الزوار والسياح الأجانب للتملي بفنون العمارة‎ ‎المغربية ‏خصوصا النقش على الخشب، وقد أشرف على بناء القصر المهندس محمد بن المكي‎ ‎المسيوي الذي تلقى ‏فنون صناعة الخشب بمكناس وتعلم النقوش الجبصية بفاس على يد‎ ‎الضابط الفرنسي “اركمان” رئيس البعثة ‏الفرنسية قبل الحماية، وتبلغ المساحة‎ ‎الإجمالية للقصر حوالي 22 ألف متر مربع إلا أنها تقلصت بعد تشييد ‏عدة مؤسسات ومرافق‎ ‎في الحديقة الكبرى التي تم فصلها عن القصر كما تغير مدخله الأصلي الذي يوجد ‏بحي‎ ‎رياض الزيتون الجديد إلى بوابة قرب حي الملاح، وفي نهاية حي عرصة المعاش‎.‎
ويجهل عند أغلب الدارسين والمؤرخين، تحديد تاريخ ولادة “للا الباهية الرحمانية” زوجة الوزير باحماد، ‏خلافا لما نسبه البعض لكونها من عائلة بنداوود ذات الأصول الموريسكية الأندلسية، فأغلب الظن أن زوجات ‏كثيرات كن لبا أحماد، كما لاتعرف نشأتها الأولى، وذلك لأسباب موضوعية، تتعلق بغياب التأريخ للنساء ‏الفاعلات في الحقل الإجتماعي أو الثقافي أو المخزني في مغرب القرن التاسع عشر، كما رأت الباحثة ‏المغربية المميزة فاطمة المرنيسي.‏
غير أن الرواة يتفقون أن “الباهية” التي يحمل إسمها أحد أهم القصور بمراكش، وفي المغرب وبالعالم ‏الإسلامي قاطبة تنحدر من قبيلة الرحامنة المتاخمة لمدينة مراكش، وأنها بدورها تربت في أسرة اشتهرت ‏بالعلم والمجد والقوة، وأنها دأبت على التحرك من قلعة والدها في الرحامنة إلى رياض العائلة في حي ‏القنارية بمراكش حيث رآها الوزير القوي وهو لايزال في ريعان شبابه، تحت رعاية والده الحاج موسى ‏الحاجب، فخطبها لتكون شريكة حياته وسيدة قصوره، وريحانة زوجاته وزعيمة جواريه وخدمه…وحشمه.‏
وتعود بدايات تأسيس قصر الباهية الذي يخلد إسم الزوجة المحبوبة لـ “باأحماد” إلى عهد والد هذا الأخير، ‏الوزير أحمد بن موسى‎ ‎على عهد السلطان عبد العزيز والذي كان يلقب بــ” البخاري” لكونه ينحدر من عبيد ‏البخاري جيوش السلطان العلوي الذائع الصيت مولاي إسماعيل، أولائك العساكر الذين أقسموا على الطاعة والولاء أمام كتاب صحيح البخاري، ثان أقدس كتاب عند المسلمين .‏
فقد جلب الوزير أحمد بن موسى‎ ‎‏ أمهر‎ ‎الصناع والحرفيين من مراكش وفاس وسلا وأزمور وصفرو ‏للإشتغال بالقصر لمدة سنوات متتالية إلا أن القدر المحتوم حل دون رؤيته للقصر حيث وافته المنية سنة ‏‏1890 والأشغال لم تنته بعد وكانت النواة الأولى‎ ‎لقصر الباهية على يد الحاجب الملكي موسى بن احمد ‏البخاري، والد الوزير القوي الذي سيتحكم في الرقاب لاحقا وسيتحول إلى أسطورة وهو الذي شيد الرياض ‏الكبير‎ ‎والساحة الشمالية تولى ابنـه‎ ‎المعروف بـــ”باحماد” استكمال بنــاء القصــر فجمـــع في البدايــة حوالي ‏‏60 للقصـر لتتوقف الأشغــــال بهـــذا الجــــزء سنة 1886 وبعد وفاته منزلا لتشكيل قصر‎ ‎كبير يعد رائعة ‏الفن المعماري المغربي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين‎.‎
ويضم قصر‎ ‎الباهية عدة أجنحة وقاعات وملحقات وأحواض وحدائق بالإضافة إلى المتنزه والحديقة التي‎ ‎يتوسطها صهريج معروف باسم “أڭدال باحماد”، حيث أن معظم أرجائه غير مفتوح في وجه العموم من ‏الزوار المغاربة والسياح الأجانب، ومن بين الأجنحة‎ ‎المفتوحة حاليا في وجه الزوار الرياض الصغير الذي ‏يعد من الأجنحة المتميزة داخل‎ ‎القصر ببنائه بهيئة المدارس العتيقة من حيث الأروقة التي تعلوها أفاريز ‏خشية مزدحمة‎ ‎بألوان زاهية بمواد طبيعية حيث كان يشكل ديوان “باأحماد‎”‎‏ من الساحة الشرقية تلج‎ ‎الرياض ‏الكبير بواسطة ردهة منقوشة ومزخرفة، كما أن الباهية كانت قد عرفت عدة تغييرات في عهد “باحماد” ‏إنصبت على القاعة الكبرى الشمالية التي تؤرخ أعوام بنائها أبياتا شعرية منقوشة على الجبص، ثم على ‏أجنحة أخرى تتفرع عن الصحن الشهير المغطى بالسقائف الخشبية، والمتضمن لقاعتين وبهوين‎ .‎ليتحول بعد ‏ذلك، قصر الباهية في عهد “باأحماد‎”‎‏ إلى تحفة معمارية من خلال زخرفة‎ ‎أبوابه ونوافذه المزينة “بالتوريق” ‏و”التشجير” لباقات الأزهار والنباتات، وتؤكد المؤرخة المغربية الأستاذة بهيجة سيمو: “أن الباهية تعد قصرا ‏من قصور مراكش ، أنشئت في القرن التاسع عشر من قبل الحاجب السلطاني با أحماد بن موسى، وهي وإن ‏كانت قطعة فنية بهية المنظر، وتحفة معمارية تفيض بتجلياتها الحضارية، فهي كذلك وثيقة تاريخية تطوي ‏في مضامينها تقاليد أهل مراكش وأنماط عيشهم، كما تسمح بإعادة تركيبة صورة المرأة المغربية آنذاك، ‏ودورها في شغل مجال من مجالات القصور”‏‎.‎
لقد كان الصدر الأعظم “باأحماد” شخصية كاريزمية لكونه كبير وزراء السلطان المولى الحسن الأول ‏وحاجب خلفه السلطان المولى عبد العزيز يلخص لب سياسة الشأن العام كما كانت تدبر من طرف أقوياء ‏المملكة الشريفة بدهائهم وذكائهم ، ودواليب تسييرهم للعباد والبلاد، لذلك لم يكن استثناء أن يبقى الصدر ‏الأعظم أحمد بن موسى “با احماد” في منصبه المحوري آمرا ناهيا،خصوصا في فترة عرفت سطوع نجم ‏بعض الخارجين عن سلطة الدولة، فكان “استبداده العادل” على حد تعبير السلفيين المتنورين كالأفغاني ‏ومحمد عبده وعلال الفاسي والمختار السوسي هو الذي قلم أظافر بعض الرجال الكبار المشرئبين للحكم في دولة ‏السلطان المولى عبد العزيز، حتى بات لا يذكر مع “باحماد” أحد، فكان وحده المبدئ المعيد، والمصدر المورد، لا ‏تكون كبيرة ولا صغيرة إلا بإذنه، في كل الإدارات، والأجهزة السلطانية، ولكنه وحسب معظم المصادر ‏التاريخية التي تناولت شخصه ، فقد كان “باأحماد” لا يظهر إلا بمظهر المنفذ للسياسات السلطانية، يرتبط في ‏الحل والعقد بلازمة يقولها دائما : “حتى نستشير سيدنا”، ولا يمكن أن يتخطى ذلك ولو عن طريق السهو أو ‏خطأ.‏
وذكر أن رجلا كان قد أفرط يوما في طلب شيئا من “با أحماد” فأجابه هذا الأخير باللازمة المعهودة، فقال له: ‏‏”بل أنت سيدنا”، فاستشاط “باأحماد” غضبا عليه، وعاقب صاحب القول عقابا، يستحقه لبلبلته وإعوجاجه كما ‏تؤكد المصادر التاريخية.‏
وتتفق كل المصادر التاريخية أن “باأحمـــاد” أحمد بن موسى بن أحمد السملالي كان شخصا صموتا لا يحب ‏الكلام حوله، لدرجة أن دار المخزن مهما كانت مكتظة إلى أرجائها، كان لا يسمع فيها صوت ولا ولا يحس ‏بها صخب أو لغو، فقط إشارات، وقليل من الهمسات، وكان”باأحمـــاد” يجلس دائما أمام مكتبته وهي منضدة ‏كتابته في بنيقة “مكتب” الوزير الكبرى، فكان بينما هو مكب على الكتابة أو على التوقيعات أو على قراءة ما ‏يقدم له، يجيل عينيه بين الفينة والأخرى ، كعيني الصقر في الفضاء فيرى الداخل والخارج، وقد أطل عليه ‏مرة إنسان غريب، فصاح به ألم ترني قط ، فقال له : أرى الذي وراءك، وإشتهر في الأوساط بكونه لا ينسى ‏أبدا، وأنه يذكر كل ما قيل له أو ما قاله.‏
وقدم مرة رجل من أعيان الدولة برسائل من المولى عبد الحفيظ وهو خليفة للسلطان على أحواز تادلة إلى ‏الوزير “با أحماد”، فذكره بعد أيام بها، فقال له “با أحماد” : “إنك لا تحتاج إلى تذكيري فأنا لا أنسى عملي” ‏، وأفاد المؤرخ الأديب محمد غريط في كتابه “فواصل الجمان” أن “با أحماد” كان شديدا بطاشا على العصاة ‏والمارقين والآفاقين واللصوص لا يهدأ إلا عند الفتك بهم أوسجنهم، حتى قيل عنه أن أمر مسجون أحب إليه ‏من تحصيل المال لخزينة الدولة.‏
هذا، وقد تمهد لــ “باحمـــاد” بذلك البطش ما أراد، وارتجفت منه أفئدة عتاة الجانحين عن طاعة الدولة، ‏والمغتنين من نهب أموال التجار،والفلاحين والصناع.. وكان في كل مساء يلاقي الواردين إلى أن يمضي ما ‏شاء الله من ساعات الليل المتأخرة ، وكان ممعنا في مراقبة أموال ولاة الأقاليم وخلفاء السلطان بكل ما أمكن ‏من تتبع ومراقبة علنية وسرية. ‏
أما خصوم “با أحماد” فيعيبون عليه قيامه بنقل كل ثروة البلاد التي كانت في دار المخزن على أيام السلطان ‏المولى الحسن الأول إلى قصر الباهيــة عقب تولي المولى عبد العزيز الحكم!..‏
والواقع، إن “با أحماد” لم يكن استثناء بأن يظل في منصبه الكبير حتى وفاته ، وأن تبقى الباهية تلك الجميلة ‏الرحمانية مثالا عن الجمال والأنوثة المغربية، ترسل أكثر من دلالة من مراكش إلى كل بقاع العالم حول مدى ‏تأثير الحب على المعمار، وإرتباطه بثنائية قوة العشق ودواليب السلطة.‏

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button