محمد المساوي
صباح يوم الأحد 27 ماي 2018 انتخب حكيم بنشماش أمينا عاما لحزب الاصالة والمعاصرة، خلفاً لالياس العماري الذي لم يكمل ولايته، فاز بنشماس برئاسة الحزب أمام منافسين غير معروفين، وبدا كما لو أنهم قدموا ترشيحهم لرئاسة الامانة العامة للحزب كأرانب سباق، ومن باب رشّ بعض التوابل والبهارات على “طبخة” صعود بنشماش الى زعامة الحزب خلفا لالياس العماري، حيث بدا لافتا للنظر احجام كل الاسماء المعروفة عن تقديم ترشيحها لهذا المنصب.
حكيم بنشماس الذي يترأس الغرفة الثانية للبرلمان، اكتشفه المواطن المغربي لأول مرة في هذه الغرفة حين تولى رئاسة فريق البام في هذا المجلس، لم يكن بنشماس اسما معروفا بما يكفي قبل ولوجه مجلس المستشارين، حتى المتتبعين وممارسي السياسة ربما سمعوا به أول مرة غداة تقديم شهادات جلسات الاستماع العمومية التي نظمتها هيئة الانصاف والمصالحة يوم الثلاثاء 3 ماي 2005، حينها كان من بين من قدموا شهاداتهم في الجلسة التي نظمت بقاعة ميرادور بالحسيمة، بعد أن تم تهريبها من جراء الاحتجاج التي عرفتها الجلسة المقرر في أحد فنادق من طرف نشطاء المدينة.
فكيف قيض لهذا الرجل أن ينجح في رسم مسار تصاعدي بشكل صاروخي، ابتدأ بترؤسه لجماعة يعقوب المنصور، ثم من بعد ذلك عضوا في مجلس المستشارين، ورئيساً لفريق حزبه في المجلس، الى ان تمكن يوم الثلاثاء 12 أكتوبر برئاسة المجلس، وبالتالي الفوز بالمنصب الرابع في بروتكول الدولة، بعد الملك ورئيس الحكومة ورئيس الغرفة الأولى، ثم أصبح أميناُ عاما للحزب يوم الاحد 27 ماي.
في هذا البورتريه سنحاول رسم ملامح شخصية بنشماش، ما خفي منها وما ظهر، اعتمدنا في صياغة البورتريه على عدة مصادر، وعلى شهادات أشخاص شاركوه مرحلة من مراحل دراسته وتجربته السياسية والجمعوية.
سنوات الدراسة من الابتدائي إلى المعهد الديني
ولد حكيم بنشماش ذات خريف من سنة 1963 بدوار “ازكيرن” التابعة لبلدة ايت بوعياش بإقليم الحسيمة، من والد بسيط كأغلب أهل الدوار، سبق له أن اعتقل لمدة خمس سنوات على خلفية انتفاضة 58/59 بالريف، حينها لم يكن حكيم قد ولد بعد، لكن حكايات الانتفاضة والبشاعة التي وجهت بها ساكنة المنطقة ظلت تطرق مسامعه منذ أن وعى الوجود.
دخل حكيم المدرسة كباقي اقرانه، لكنه لم يكن تغريه كثيرا كما يحكي مجايلوه، كان يقصد المدرسة خوفا من والده فقط، وهو الامر الذي جعله يفشل في الحصول على الشهادة الابتدائية، التي كانت حينئذ مقصلة التلاميذ، كثيرون وقتها توقف مسارهم الدراسي عندها. لكن حكيم لم يوقفه عدم حصوله على الشهادة واختار الانتقال إلى مدينة الحسيمة ليتابع دراسته في التعليم الأصيل، الذي كان يسمى في لغة أهل المنطقة ب”المعدني” الذي هو ادغام لكلمتي “المعهد الديني”.
الفشل الذي لازم بنشماش في التعليم الابتدائي، هاجره ابان مرحلة التعليم الأصيل، حينها بدا التلميذ بنشماش اكثر التزاما وأكثر شغفا بالقراءة والاطلاع، حينها كانت مدينة الحسيمة تغلي بجيل جديد حامل للفكر اليساري، وكانت محاكمات مناضلي اليسار السبعيني تنوء بثقلها على شباب المدينة، وبطبيعة الحال كان التلميذ بنشماش أحد هؤلاء الذين جلبهم بريق اليسار، فانخرط في قراءة كتب اساطين اليسار، بما كانت تجود به دار الطليعة ودار التقدم من كتب، وما تحويه المجلات القادمة من الشرق من مقالات كبار رموز اليسار الماركسي من لبنان والعراق وفلسطين واليمن، حينها بزغ نجم بنشماش بقدرته على استيعاب ما تتناوله تلك الكتب والمقالات.
كانت للتلميذ بنشماش قدرة كبيرة في التعاطي مع كتب الفكر الماركسي المعقدة، وتلك كانت نقطة قوته بين رفاقه وأقرانه، فهو لم يكن يمتلك كاريزما نضالية، ولم يكن ذا فعالية في الممارسة الميدانية، لكنه كان يعتدّ به في سعة الاطلاع والقدرة على قراءة الكتب المعقدة. يحكي أحد مجايليه في تلك الفترة، انه مرة كُلّف بنشماش باعداد ملخص لكتاب العروي “الايديولوجية العربية المعاصرة” لالقائه على مجموعة من التلاميذ في اطار الدورات التكوينية التي كانت تسهر عليها الحركة التلاميذية بالمدينة، واختير كمكان لالقاء العرض أحد كهوف جبل “سيدي عابد” هروبا من أعين السلطات التي كانت تتعقب التلاميذ وتحصي أنفاسهم، يحكي محدثنا أن بنشماش استطاع أن يلخص الكتابة بنباهة رغم ما كان يشوب لغة العروي من صعوبة، وألقى العرض بين التلاميذ في احدى ليالي الشتاء على ضوء الشموع، وكان صدى العرض قد لقي تجاوبا واستحسانا من نشطاء الحركة التلاميذية، من حينها صار بنشماش يأخذ صفة ذاك التلميذ الذي فهم العروي واستطاع ان ينجز عرضاً مهما عن احدى كتبه المُؤسّسَة.
الجامعة والاعتقال
بعد أن نجح بنشماش في نيل شهاد الباكالوريا من التعليم الأصيل، توجه إلى مدينة وجدة للتسجيل في كلية الحقوق، ليبدأ مرحلته الجامعية، بعد دخول بنشماش الجامعة ستعرف منطقة الريف خاصة، وشمال المغرب عامة انتفاضة عارمة، وهي انتفاضة 1984، حينها كان بنشماش الطالب الجامعي المجد، المنحدر من منطقة الريف، متهم كباقي رفاقه المنحدرين من المنطقة، فاعتقل خريف 1984 في بلدته بأيت بوعياش، ليسلم فيما بعد إلى السلطات الامنية بوجدة حيث كان يتابع دراسته الجامعية، وحوكم بسنتين سجنا نافذا، أمضاها في السجن المدني بوجدة، واطلق سراحه بعد ذلك نتيجة تدخل شخص من عائلته كانت له علاقة بشخصية نافذة في الدولة، بينما كان حظ باقي رفاقه تمديد مددهم السجنية في محكمة الاستئناف بسبب تعليمات من أعلى السلطات من أجل تشديد العقوبة السجنية في حق الطلبة المنحدرين من منطقة الريف، انسجاما مع وصف “الاوباش” الذي اطلقه الحسن الثاني على ساكنة مدن الشمال التي انتفضت بقوة سنة 1984.
بعد خروج بنشماش من السجن، طلّق السياسة والنضال، وانغمس في دراسته الجامعية بجد ومثابرة، منهياً كل علاقته بنضال الحركة الطلابية التي كانت شعلة متقدة حينذاك، بينما قطار نضال بنشماش توقف بعد سنتي السجن التي أمضاها. بعدها يحكي مجايلوه أنه أصيب بما يشبه فوبيا النضال، أصبح يبتعد ويتهرب من أي التزام نضالي زمن الالتزام النضالي بامتياز في تاريخ الحركة الطلابية، ولم يكن له حضور ميداني كبير في الحركة الطلابية، بل ربما تعدّ سنتي السجن التي أمضاها في سجن وجدة أقوى لحظات تاريخه النضالي الطلابي، عكس ما يتم الترويج له اعلامياً.
نال بنشماش الاجازة في الحقوق بتفوق، وانتقل للدراسة في جامعة محمد الخامس بالرباط لتهيء دبلوم الدراسات العليا، وهي الشهادة التي خولت له العمل كأستاذ مساعد في كلية الحقوق بمكناس.
بعد سنوات الطلاق النضالي، الياس العماري يعيد بنشماش للواجهة
بعد أن أصبح بنشماش استاذا مساعدا في الجامعة، أصبح بعيداً كل البعد عن رفاقه وعن الانخراط في العمل السياسي وبل حتى الحقوقي، اختار الرجل الانزواء والتفرغ لعائلته، يحكي احد مجايلوه أنه التقاه مرة اواخر التسعينيات، وتجاذب معه اطراف الحديث عن ذكريات النضال الجامعي والحركة التلاميذية، وخلال اللقاء اقترح عليه الانخراط في الجمعية المغربية لحقوق الانسان، للانخراط على الأقل في العمل الحقوقي والدفاع عن بعض المكتسبات القليلة، غير أن بنشماش رفض ذلك بلباقة، وأفهم محدّثه أنه يحبّ أن يبقى بعيدا عن أي نضال حقوقي او سياسي او جمعوي كيفما كان.
مرحلة طلاق بنشماش للعمل السياسي ستنتهي مع تشكيل هيئة الانصاف والمصالحة، حينها كان ابن بلدته واحد مجايليه في الحركة التلاميذية الياس العماري قد وطّد علاقاته بأجهزة الدولة، وقام بدور كبير في التعبئة لعمل هيئة الانصاف والمصالحة، ونزل بكل ثقله لاختيار من سيلقون شهاداتهم في جلسات الاستماع العامة، في الحقيقة الياس لم يكن ينتقي من سيلقون شهاداتهم فقط، بل كان ينتقي في نفس الوقت الاطر التي سيعتمد عليها في مشروعه السياسي الذي كانت أولى بوادره بدأت تتشكل مع عمل الهيئة، وكان حدس الياس قاده إلى استقدام ابن بلدته، والعودة به مجددا إلى العمل السياسي بعد ما يقارب 20 سنة من الطلاق.
نجح الياس العماري في اعادة بنشماش الى العمل السياسي، لكن هذه المرة عمل سياسي لا تحفه المخاطر التي جعلت بنشماش يهجره لمدة 20 سنة، عمل سياسي مريح، ونضال تدور حلقاته حول موائد النقاش، ووصياغة التقارير والبيانات والاعلانات، نضال ليس فيه سجن ولا جزمات البوليس. هذا النضال أعاد الحيوية لبنشماش، وبدأ التحرك بدعم من الياس للانخراط في مبادرات محلية، من أجل تجميع قدماء اليسار وزبناء الانصاف والمصالحة لتشكيل لجن وهيئات تعمل على الدفاع عن المصالحة مع الريف بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة، وما خلفه من دنامية جمعوية، فكان تشكيل “لجنة إعلان الريف” التي كان ناشطا فيها و لفّت حولها معظم نشطاء اليسار في منطقة الريف، من أجل الالتفاف حول مبادرات تروم انجاز المصالحة مع الريف.
لم تصمد لجنة اعلان الريف كثيرا، اذ سرعان ما سقطت نتيجة اختلافات شرسة بين اعضائها، بيد أن فشل هذه اللجنة لم يدفع حكيم للرجوع الى الوراء، بل ظلّ نشيطا يعبئ للمبادرات في هذا الاتجاه، وذلك دائما دعما من صديقه الياس العماري.
بعدها انخرط بنشماش في نقاش داخلي بين مجموعة من نشطاء اليسار في الشمال من أجل بلورة أرضية للجهوية، وعقدوا عدة لقاءات لذلك، وكان قد عُهد إليه من أجل صياغة مشروع الارضية لنقاشه والتداول فيه والمصادقة عليه، غير أن بنشماش انسحب في اخر لحظة من هذه المبادرة، التي كانت على وشك أن يتم اعلانها للعموم ونشر أرضيتها، العديد ممن شاركوا في هذه المبادرة يقولون أن انسحاب بنشماش في اخر لحظة كان بإيعاز من جهات ما، وطبعا يقصدون بذلك أن الانسحاب كان بإيعاز من جهات في الدولة عن طريق صديقه الياس العماري.
الطلاق الناجز لطلاق العمل السياسي والانخراط في مشروع البام
بُعَيد الانسحاب من المبادرة التي تحدثنا عنها أعلاه، سيتم تشكيل “حركة لكل الديموقراطيين” التي بادر إلى تأسيسيها رجل العهد الجديد القوي فؤاد عالي الهمة، وعُهد لليساري التائب حسن بنعدي ترؤسها، وكان بنشماش من بين الأوئل من قادة هذه الحركة، التي ستتحول فيما بعد إلى حزب الأصالة والمعاصرة الذي تشكل قادته من أعضاء هذه الحركة، وطبعا كان بنشماش احدهم.
بعد تشكيل اجهزة حزب الاصالة والمعاصرة قبل انسحاب الاحزاب المندمجة معه، تم اختيار بنشماش المنسق الاقليمي للحزب بمدينة الحسيمة، وهو القرار الذي لم يعجب أحد يساري المدينة الذي كان عضوا في حزب العهد والتحق بحزب الاصالة والمعاصرة في صفقة الاندماج، ذاك اليساري اعتبر نفسه الأحق بمنصب المنسق الاقليمي نظير تاريخه النضالي في المدينة، لكن قرار إلياس كان هو الأقوى، وتم دعم بنشماش بوصفه منسقا اقليميا للحزب الجديد، وربما تعتبر هذه الحادثة من بين الامور التي عجّلت بالطلاق بين حزب العهد وحزب الاصالة والمعاصرة، خاصة أن منافس بنشماش كان أحد أقرب المقربين إلى سعيد شعو القيادي في حزب العهد حينئذ.
خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2009 سيرشحه حزب الاصالة والمعاصرة بمدينة الرباط، بمقاطعة يعقوب المنصور، ونجح بنشماش في ترؤس المجلس الجماعي للمقاطعة، وهو المنصب الذي عبّد له الطريق للوصول إلى مجلس المستشارين مرشحا في فئة الجماعات الترابية.
خلال احداث الحراك الشعبي لحركة 20 فبراير بالمغرب سيعيش حزب الأصالة والمعاصرة أسوء أيامه، بعد أن نادت الشعارات برحيل قادته باعتبارهم حاضني الفساد وحاميه، فرفعت شعارات ضد فؤاد عالي الهمة والياس العماري ومستشاري الملك الاخرين، حينها توراى الياس العماري عن الأضواء، بينما قام الملك بسحب فؤاد عالي الهمة وإعادته إلى القصر بتعيينه مستشارا له، بعهدها تشكلت حكومة بنكيران وما رافقها من تقاطبات وتحالفات وتكالبات، وفشل حزب الاصالة والمعاصرة في تصدر الانتخابات كما كان يحلم بعد نشوة 2009، حينها بزغ نجم حكيم بنشماش في مجلس المستشارين، وأضحى الصوت الذي يزعج بنكيران ووزراء حكومته، واغتبط إلياس العماري لذلك كثيرا، حيث كان حدسه في محله حين أعاد بنشماش إلى العمل السياسي.
بعد ذلك جرت مياه كثيرة تحت جسر الممارسة السياسية في هذا البلد، وأجريت الانتخابات الجماعية والجهوية سنة 2015، ولم يستطع بنشماش العودة لترؤس مجلس مقاطعة يعقوب المنصور، بل مني حزبه في تلك المقاطعة التي سيّرها بهزيمة نكراء، لكن رغم ذلك استطاع بنشماش أن يضمن مقعده في مجلس المستشارين للمرة الثانية عن فئة الجماعات الترابية، وبعد ظهور نتائج انتخابات مجلس المستشارين، تم ترشيحه لرئاسة الغرفة خلفا لبيد الله الذي ترأس الغرفة باسم البام أيضا.
في جلسة انتخاب رئيس الغرفة الثانية استطاع بنشماش أن يفوز على منافسه عبد الصمد قيوح بفارق صوت واحد، في تصويت غريب، اذ سيصوت لبنشماش احزاب تنتمي الى الاغلبية الحكومية ونقابة الباطرونا ليضمن رئاسة المجلس امام منافسه، بينما صوت لمرشح الاستقلال مستشارو الاتحاد الاشتراكي المفترض انهم في المعارضة ومستشارو البيجيدي والتقدم والاشتراكية ونقابة الاتحاد المغربي للشغل. واعتبر حينها العديد من المتتبعين بنشماش مرشح الجهات النافذة من أجل ضمان عدم سيطرة الحكومة على غرفتي البرلمان، ومن أجل الحفاظ على التوازن المطلوب، بينما بعث الملك محمد السادس برقية تهنئة لبنشماش يشيد بتجربته البرلمانية وتجربته النضالية.
في انتخابات الامين العام للحزب، فاز بنشماس بفارق مريح عن أقرب منافسيه، اذ وصل الفرق بينهما إلى 400 صوت، وهو ما يؤكد عدم جدية الترشيحات التي قُدمت لمنافسة بنشماش على زعامة الحزب، ورغم هذه النتيجة الشكلية المريحة، إلا أن بنشماش في كلمته بعد انتخابه أمينا عاما للبام، لخّص الحكاية كلّها في جملة متخمة ب”سيكولوجية زلات اللسان” إذ تحدث الرجل قائلا: “عندما أتحسس عنقى أشعر بثقل وجسامة المسؤولية”، مما يعني أنه وهو مقبل على هذه المسؤولية لا ينتظر المحاسبة من الذين انتخبوه، بل يتحسس عنقه من شرّ مقصلة من وضعوه في هذا المنصب.
https://anwalpress.com
لست ربوت