الزعيم عبد الرحيم بوعبيد الذاكرة الموشومة بقلم حسن أوريد

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية الزعيم عبد الرحيم بوعبيد الذاكرة الموشومة بقلم حسن أوريد

الزعيم عبد الرحيم بوعبيد الذاكرة الموشومة بقلم حسن أوريد

تنبني الأمم على ذاكرة وتقوى بحلم مشترك. كل جيل يعيد صياغة الحلم من خلال استعادة الذاكرة، يحتاج في هذه العلمية إلى رموز من أحداث وشخصيات، العملية شبيهة بعملية نسج على سَدى. النَّسْج على غير سَدى، لا يقوم إلا كما يقوم بيت العنكبوت، يتهدده الانحلال دوما. وعبد الرحيم بوعبيد، الزعيم الاشتراكي المغربي واحد من هذه الرموز اللامعة التي تجاوز إشعاعها حيز المغرب، من خلال انخراطه في القضايا العربية والحلم الاشتراكي، ومكانته المرموقة في رحاب الأممية الاشتراكية، وصداقاته مع رموزها.
لكن عبد الرحيم الذي حلت الذكرى السابعة والعشرين على رحيله قبل أسبوع، يكاد أن يكون غير معروف لجيل جديد في المغرب وفي العالم العربي، ولذلك يكتسي الاحتفال بذكراه هذه السنة طابعا خاصا، بإيعاز من رفيقه في النضال عبد الرحمن اليوسفي، الذي أخذ على نفسه الوفاء لرفاق الدرب، من المهدي بن بركة، ومحمد باهي، وعبد الحميد مهري، وأحمد بن بله، وحافظ إبراهيم (مناضل مغاربي من تونس) ولقضايا اعتورت حياته، ومنها الأخوة المغربية الجزائرية، والقضية الفلسطينية.
تنظيم عبد الرحمن اليوسفي لهذا الاحتفال بفاس، حيث اشتغل عبد الرحيم في أول وظيفة له كمعلم، له رمزية بالنظر لما يعرفه المغرب من أسئلة وجودية، يعيد عقارب الساعة للأسئلة التي وضعها جيل الماهدين، وهل كان الاستقلال تحررا، وبالنظر إلى ما يعرفه العالم العربي، من غبش، وعبد الرحيم بوعبيد من نذر حياته لقضاياه المصيرية في آخر خطاب له بتاريخ 11 يناير،كانون الثاني 1991 بمسرح محمد الخامس بالرباط، أتيح لي أن أحضره، وطبول الحرب تُقرع على العراق، لم يتورع من انتقاد سياسة أمريكا القائمة على الكيل بمكيالين، والتلويح بالقانون للتستر على المصالح من أجل وضع اليد على الموارد البترولية للمنطقة، مثلما حذر من دخول المنطقة، جراء هذه السياسة الاختزالية، في نفق مظلم، ومن ذا يقدر الآن على تفنيد ما حذر منه؟
من الصعب اختزال شخصية عبد الرحيم بوعبيد في هذا الحيز، ولكن يمكن استخلاص عصارتها، وأنه كان على موعد مع التاريخ، وخلّف مسارا حافلا ما يزال يطفح بالحياة. كان على موعد معه حين قارع الاستعمار، وتعرض منذ شبابه إلى الاعتقال، إثر تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، في يناير 1944 تم اعتقاله وانتفض ضابط فرنسي في وجهه وهو مكبل، قائلا إنه سيُقذف باثنتي عشرة رصاصة جزاء كنوده، فرد عليه بوعبيد برباطة جأش: رصاصتان تكفيان. واجه المستعمر بقوة الدبلوماسية حين قبل المستعمر التحاور. قال قولته المدوية في حوار مع من كان وليا للعهد حينها، ومن سيصبح الملك الحسن الثاني، في رحاب قصر سان جيرمان أو لاي، وقد قبلت فرنسا عودة الملك محمد الخامس من المنفى، حينما أراه مولاي الحسن مشروع بلاغ يذاع على إثر استقبال رئيس الحكومة أنتوان بيني للملك محمد الخامس، إن الأساس غير متضمن في المشروع، والأساس هو إلغاء عقد الحماية. لم يكن الشعب المغربي بمعزل عن حرب التحرير التي كان يخوضها الإخوة في الجزائر، كانت سياسة فرنسا عزل الجزائر، فيما أسر به رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك إدكار فور في مذكراته من مخاوف استفحال رقعة المواجهة «أفضل التفاوض اليوم مع بورجوازي فاس، من أن اضطُر إذن على التفاوض مع برولتيري الدار البيضاء.» كانت فرنسا تريد أن توجه طعنة للثورة الجزائرية من خلال طرح قضية الحدود. دعت إثرها جبهة التحرير الجزائرية لعقد اجتماع بطنجة سنة 1958 من أجل إرجاء الموضوع، لأن هناك هدفا أسمى، وهو الوحدة المغاربية. تفاعل كل من الزعيمين المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد مع مطلب جبهة التحرير، وبارك التوجه ذاته الملك الشهم محمد الخامس. تلكأت القيادة التونسية، وكذا العناصر اليمينية من حزب الاستقلال قبل أن تقبل بالحضور. مرة أخرى كان عبد الرحيم بوعبيد مع موعد مع التاريخ، بإيمانه بالوحدة المغاربية.
الشعوب تبلغ الديمقراطية من خلال مزاولتها إياها، كما يتعلم الإنسان السباحة، من خلال الانغمار في اللجة
تقلد منصب وزير المالية والاقتصاد في حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959، وكان واعيا بأن الاستقلال السياسي قد يُفرغ من محتواه إن لم يواكبه استقلال اقتصادي. أرسى نواة اقتصاد وطني من خلال مؤسسات قائمة إلى الآن، وخيارات مستمرة، ولان توجهات تلك الحكومة كانت مزعجة لفلول المستعمر، مهددة لمصالحها، غير متطابقة لتوجهاتها حيال القضية الجزائرية. تم وضع حد لحكومة عبد الله إبراهيم في ما يشبه انقلابا. عرض ولي العهد حينها ومن سيصبح الملك الحسن الثاني، على عبد الرحيم أن يتولى حقيبة الخارجية في الحكومة المقبلة. رفض العرض، مثلما كتب في مذكراته. استقبل بوعبيد عهد الملك الحسن الثاني بآمال، ولكنه ما لبث أن أصيب بخيبة، فيما رآه انزياحا نحو السلطة المطلقة أو الحكم الفردي، حسب المصطلح المستعمل حينها.
في أبريل 1963، عبّر مع المهدي بن بركة عن قطيعة في حوار شهير لهما بمجلة «جون إفريك». عقب اختطاف الزعيم المهدي بن بركة سنة 1965، غلب في صفوف قواعد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الخيار الثوري. اختار عبد الرحيم بوعبيد رغم التجاذبات التي طبعت الحزب، خاصة مع سلسلة من القلاقل والمحاولات الانقلابية والتمرد المسلح، الخيار الديمقراطي. كان من مهندسي إنشاء حزب الاتحاد الاشتراكي مع رعيل جديد، ليقطع مع مرحلة، وليرسي توجهات جديدة، من أجل الديمقراطية. ناضل بلا كلل في سبيل الديمقراطية وسيادة الشعب والتحديث، من خلال الانخراط الفعلي، أسعفته في ذلك شرعيته، وثقافته الواسعة، رغم وعيه بحدود ذلك بسبب هيمنة البني التقليدية والثقافة المحافظة، بمباركة البنية التكنوقراطية، ما يشكل مجتمِعا، ما يُعرف بالمخزن. كان يردد أن الشعوب تبلغ الديمقراطية من خلال مزاولتها إياها، كما يتعلم الإنسان السباحة، من خلال الانغمار في اللجة، مثلما كان يعي محدودية التمثيل البرلماني ويردد «المقاعد لا تهمنا». كانت معركة شبيهة بسباق دونكيشوتي، ولكنه الخيار الذي ضمن للمغرب حياة سياسية، ونخبة متمرسة، وأطرا سياسية منخرطة في التدبير ودواليب الإدارة، رغم سياط القمع والتحجير والتسفيه.
الزعيم الذي واجه فرنسا من أجل الشرعية ورمزها محمد الخامس، وارتحل إلى حيث كان السلطان في المنفى في مدغشر، هو من تعرض إلى الاعتقال من لدن زبانية الملك الحسن الثاني، في صورة بشعة، وإلى المحاكمة فالسجن سنة 1981، لأنه مرة أخرى دافع عن السيادة الشعبية بالتذكير بأن القضايا المصيرية لشعب تعود للشعب، وليس لشخص أن يبت فيها مهما كانت درجة مسؤوليته. قال قولته مستوحيا القرآن الكريم، «السجن أحب إلي مما يدعونني إليه». كان ما يطبع خياراته هو رفضه للمساومات، لأن القبول بها، في سياق الخيارات الاستراتيجية، ينسف الشرعية. من سخرية الأقدار بل من ألطافها، أن اعتقال عبد الرحيم هو ما مكّنه من كتابة مذكراته، ظل يأمل ساخرا، أن يطول اعتقاله كي ينهي مذكراته. تظل حياته ذاكرة موشومة في أذهان من يؤمن بالتحرر والتحديث بداخل المغرب، والوحدة المغاربية، ورفعة العالم العربي.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button