"التغيير آت أحب من أحب وكره من كره، السؤال الوحيد الذي يجب أن نفكر فيه هو ثمن هذا التغيير، فكل تأخير سندفع عنه الثمن" بهذه العبارة تنبأ بأحداث الربيع العربي التي بدأت حكايتها من قرية بتونس بطلها شاب يريد فقط أن يعيش بعِزة وكرامة، لتعم بعد ذلك باقي البلدان العربية الأخرى.
رجل لم يكن ينطق الكلام على عواهنه وما قاله لم يكن ضربا من الكهانة أو رجما بالغيب، بل قوام كلامه معطيات كمية، وإحصاءات رقمية، لقراءة الماضي والحاضر، من أجل استشراف المستقبل إنه المهدي المنجرة رجل سابق لزمانه.
رجل سابق لعصره
لم يعش ثمانين عاما فقط، بل عاش أكثر من ذلك، فهو الذي تنبأ بما سيحدث بعد 30 سنة، فقد تنبأ بالأزمات الاقتصادية والمالية في أوروبا، منذ سنة 2008، من خلال أطروحته الثالثة "الميغا إمبريالية"، التي تحدث فيها عن جشع الاقتصاديات الحديثة، كما تشهد بذلك دراساته المعتمدة لدى الكثير من المنظمات والمعاهد الدولية.
ولد عالم المستقبليات المنجرة سنة 1933، غداة الاستعمار الفرنسي، ولأن المغرب لم يكن يملك آنذاك حاضره ولا مستقبله، فقد كان جيل الاستعمار يتطلع للمستقبل المنشود، مستقبل الحرية والاستقلال ومن هنا، تربى المهدي المنجرة، وهو ابن مدينة الرباط على قيم الأمل ومعانقة واستشراف المستقبل.
مسيرة حافلة
تابع المهدي دراسته بالولايات المتحدة ثم التحق بجامعة كورنيل بنيويورك بين 1950 و1954 حيث حصل على الإجازة في العلوم السياسية، وانتقل إلى مدرسة لندن للاقتصاديات والعلوم السياسية التابعة لجامعة لندن بين 1954 و1957، ومنها حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية والعلاقات الدولية قبل أن يلتحق بجامعة محمد الخامس كأول أستاذ محاضر مغربي بكلية الحقوق.
تدرج عالم المستقبليات المهدي المنجرة بعدة مناصب علمية دولية، فكان مستشارا أولا في الوفد الدائم للمغرب بهيئة الأمم المتحدة خلال الفترة (1958-1959)، وأستاذا محاضرا وباحثا بمركز الدراسات التابع لجامعة لندن (1970)، وشغل باليونسكو مناصب قيادية عديدة من سنة (1961-1979)، كما شغل إلى جانب ذلك منصب منسق لمؤتمر التعاون التقني بين الدول الإفريقية (1979-1980)، وخبيرا خاص للأمم المتحدة للسنة الدولية للمعاقين (1980-1981)، ومستشارا لمدير مكتب العلاقات بين الحكومات للمعلومات بروما (1981-1985)، ومستشارا للأمين العام للأمم المتحدة لمحاربة استهلاك المخدرات.
وترأس المفكر الراحل الفدرالية العالمية للدراسات المستقبلية (1976-1981) ثم شغل عضوية لجنتها التنفيذية، وترأس الجمعية الدولية للمستقبليات (فوتوريبل)، وشغل عضوية الجمعية المغربية للمستقبليات، والمجلس التنفيذي للجمعية العالمية للتنمية (1985-1988)، وأكاديمية المملكة المغربية، والأكاديمية العالمية للفنون والعلوم، والأكاديمية الإفريقية للعلوم، والأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون والآداب، والجمعية العالمية للمستقبل، والاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين، ومنتدى العالم الثالث، ونائب رئيس جمعية الصداقة بين المغرب واليابان.
وحاز المفكر الراحل عددا من الجوائز والأوسمة، ويتعلق الأمر بجائزة الأدب الفرنسي في جامعة كورنيل (1953)، ووسام الاستقلال بالأردن (1960)، ووسام ضابط للفنون والآداب بفرنسا (1976)، والجائزة الفضية الكبرى للأكاديمية المعمارية بباريس (1984)، ووسام الشمس المشرقة باليابان (1986)، وجائزة السلام لسنة 1990 من معهد ألبرت آنشتاين الدولي.
لا كرامة لنبي في قومه
"لا كرامة لنبي في قومه" مثل يسري فحواه على المهدي المنجرة الذي لم يحصل على الاعتراف والتقدير الذي يستحقه في وطنه، لكنه في مقابل ذلك حصل على اعتراف عالمي وعلمي غير مسبوق، ويكفي أن واحدا من أكبر المفكرين وعلماء السياسة في القرن العشرين، وهو صامويل هنتنغتون، قد اعترف به، وأعلن في مقدمة نظريته وكتابه "صدام الحضارات" الصادر سنة 1993 أن المغربي المنجرة هو أول من سبقه إلى أطروحة "صدام الحضارات" وهو أكبر من جلس على الكراسي العلمية لجامعة هارفرد.
وكتب هنتنغتون في مقدمة كتابه يقول "إنه المهدي المنجرة، ذلك العالم المستقبلي الذي اكتشف بأن تاريخ العالم ليس سيرورة، ولكنه صراع مستمر بين الحضارات".
رفض المناصب من أجل الفكر والثقافة
سنة 1957، غداة استقلال المغرب، سوف يعود الشاب العامل المهدي المنجرة إلى وطنه، ليساهم في بناء الحلم، ليلقى الترحيب من قبل عاهل البلاد آنذاك الملك محمد الخامس، فكان ضمن الرعيل الأول من أساتذة الشعبة الاقتصادية في جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن يعينه الملك الراحل مديرا عاما للإذاعة والتلفزة المغربية. كما عرض عليه الملك محمد الخامس مناصب حكومية رفضها بحجة التفرغ للفكر والثقافة.
مؤلفاته
هكذا إذن استطاع الدكتور المنجرة في كتاباته : "الحرب الحضارية الأول" و "القدس العربي رمز وذاكرة" و"حوار التواصل"، و"عولمة العولمة"، و"انتفاضات في زمن الذلقراطية" ، و"الإهانة في عهد الميغا إمبريالية"،و "قيمة القيم"رصد جملة من المشكلات البنيوية التي تعتري الواقع العربي من قبيل التخلف والتبعية، والتي بدون مواجهتها فلا يمكن تحقيق تنمية منشودة، بل إن الأمر قد يفضي إلى ما أسماها المفكر بـ "تنمية التخلف".
قالوا عنه
قال عنه عبد الحق المريني مؤرخ المملكة المغربية، "ترك الدكتور المهدي المنجرة فراغا في الساحة الثقافية المغربية، ترك الدكتور المهدي المنجرة، باعتباره عالما موسوعيا ومفكرا كبيرا، صوتا يرن في الجامعات الآسيوية والأوروبية والأفريقية والمغاربية.
كما ترك الدكتور المهدي المنجرة فراغا في الساحة الثقافية المغربية، والطبيعة تكره الفراغ ولكن لا مرد لقضاء الله وقدره. وإنا لله وإنا إليه راجعون".
كما ترك الدكتور المهدي المنجرة فراغا في الساحة الثقافية المغربية، والطبيعة تكره الفراغ ولكن لا مرد لقضاء الله وقدره. وإنا لله وإنا إليه راجعون".
محمد بريش خبير في الدراسات المستقبلية، اعتبر أن الدكتور المنجرة "علم بذاته وعالم فريد من نوعه، يؤمن بأفكاره إيمانا قويا، ويدافع من أجلها دفاعا مستميتا، أفكار نيرة شديدة الارتباط بالقيم، القيم المثلى للإنسانية، وعلى رأسها العدل والحرية والكرامة".
وتابع "فمنذ صباه وهو يقاوم الاستبداد والظلم الاجتماعي وأشكال الهيمنة بكافة أنواعها، وكل من لازمه أحس بأنه يتعامل مع شخصية علمية بارزة في تألق علمها ورقي مستوى فكرها، شخصية إنسانية تتميز بصفات نظرتها وصدق إنسانيتها، مناضل لا يتردد في الجهر بالتنديد الفوري لما يلمسه أو يراه من ظلم وجهل وفساد".
وتابع "فمنذ صباه وهو يقاوم الاستبداد والظلم الاجتماعي وأشكال الهيمنة بكافة أنواعها، وكل من لازمه أحس بأنه يتعامل مع شخصية علمية بارزة في تألق علمها ورقي مستوى فكرها، شخصية إنسانية تتميز بصفات نظرتها وصدق إنسانيتها، مناضل لا يتردد في الجهر بالتنديد الفوري لما يلمسه أو يراه من ظلم وجهل وفساد".
ومن جانبه، أبرز حسن أوريد سياسي وكاتب مغربي، أن "تقييم أو تقدير الحاضر أو المؤسسات الرسمية ليس مهما، المهم هو تقييم أو تقدير المجتمع والمكانة التي يمكن أن يحظى بها الشخص في التاريخ وأعتقد أن للمهدي المنجرة مكانة في تاريخ المغرب وتاريخ الإنسانية".
وقال "هو من إحدى المنارات المهمة المضيئة والمشعة، من المثقفين الذين كانوا واعين مثلا بمخلفات الاستعمار، وكان منخرطا في الصراع من أجل الاستقلال، سقراط لم يأخذ حقه لما كان في حكم أثينا ولكن أخذ حقه في تاريخ الإنسانية".
وقال "هو من إحدى المنارات المهمة المضيئة والمشعة، من المثقفين الذين كانوا واعين مثلا بمخلفات الاستعمار، وكان منخرطا في الصراع من أجل الاستقلال، سقراط لم يأخذ حقه لما كان في حكم أثينا ولكن أخذ حقه في تاريخ الإنسانية".
محمد الجوادي، مفكر ومؤرخ مصري من جانبه، اعتبر أن المهدي المنجرة "بمثابة الضلع الثاني في المثلث الذي رسم الأمل المنشود في مستقبل حقيقي لحضارة الإسلام في العالم الجديد، وقد بنى على ما سبقه إليه الرائد الذي تولى تأسيس الضلع الأول في هذا المثلث بعناية فائقة بالتفاصيل، بيد أن المنجرة تجاوز التفكير في بناء الذات إلى التفكير في طبيعة المواجهة المحتملة".
المصدر www.pjd.ma