الجمع بين السرعة والدقة ليس سهلاً، خاصةً لو كان المطلوب انجازه عملا على قدر من الصعوبة والتعقيد. صحيح أن السرعة مطلوبة في كثير من المواقف لكن ليس أبداً على حساب الدقة. فالسرعة هامة لأنها تقيس قدرتنا على السبق وتجاوز الآخرين. لكن الدقة تزيد عنها أهمية لأنها تعكس ما نتمتع به من أمانة وصدق في الأداء. ولا يعني هذا أن الجمع بين السرعة والدقة، أو بين السبق والصدق أمر مستحيل، وانما أنه صعب في معظم الأحيان. فالدقة تتطلب أن يتصرف الواحد منا بتأن وليس بسرعة، لأنه لو أسرع وحاول السبق لوقع في مشكلات قد تفضي الى الندامة. فالقيادة مثلاً بسرعة أو المذاكرة بسرعة أو الكلام بسرعة أو الأكل بسرعة أو تخفيف وزن الجسم بسرعة أو التنمية بسرعة أمثلة لتصرفات تحاول أن تستبق وتختصر الزمن. لكن لكل منها عواقب جسيمة تؤكد أن السبق والتسرع عادةً ما ينحرف بالعمل عن الدقة المفترض أن يتم بها. فحوادث الطرق كثيراً ما تقع بسبب السبق وزيادة السرعة عن الحد المسموح. كما أن سوء الفهم بين الناس كثيراً ما ينتج عن سرعتهم في الحديث الى بعضهم بشكل يجعل الألفاظ غير واضحة ناهيك عن ما ورائها من دلالات ومعان. وبمنطق شبيه فقد تحدث أزمة صحية عارضة، بل وحالات وفاة أحياناً، خلال تناول الطعام بسرعة بسبب قذفه بسرعة من الفم الى المعدة. كما أن السبق لانقاص الوزن بسرعة تزيد على الحد المقرر غالباً ما يقترن بمضاعفات خطيرة على صحة الجسم. أما التنمية بأسلوب حرق المراحل وان ادّعت أنها تختصر الوقت وتعوض الزمن الا أنها تنتج ضغوطاً اجتماعية عنيفة تخرج بالهدف المرغوب عن مساره الدقيق وتؤكد أن الناس لا تكتمل سعادتهم بالتنمية الاقتصادية ما لم تكن متأنية ومناسبة وصادقة في فهمها للواقع الاجتماعي.
والعلاقة بين السبق والصدق أو بين السرعة والدقة في عالم الصحافة مثال آخر يؤكد صعوبة الجمع بين الاثنين. فالسرعة في مهنة الصحافة مطلوبة. لكن الدقة فيها مطلوبة أكثر. السبق الصحفي مطمح مشروع لكل من التحق بمهنة المتاعب. لكن في مقابله يقف الصدق الصحفي كالسيف المسلط على رقبة الصحفي، ان لم يتوخاه لتحولت طموحاته الى وبال عليه. فكل صحفي يحلم - وهذا من حقه - في سبق مهني يشق به طريقه. ومن أجل هذا الحلم يحفر وينقب هنا وهناك لعله يفجر قضية رأي عام قبل غيره أو يكشف أمراً خفياً قبل أن يسبقه آخرون. ولما لا يفعل، فقد يكون السبق الصحفي خبطة العمر التي ترفع الأسهم وتُعلي المكانة.
لكن السبق في الصحافة له أصول وقواعد. فليس أي خبر يأتي به محرر قبل غيره يعتبر سبقا، كما لا يعد أي حوار ينشر في صحيفة قبل أخرى استباقاً. لكن في ظل خلط المفاهيم بات «السبق الصحفي» تعبيراً مطاطاً كثيراً ما يتعرض لسوء الاستعمال. بتنا نقرأ أو نسمع عن «سبق صحفي» خطير على ألسنة هواة ومبتدئين في الصحافة الرياضية أو الفنية أو الاقتصادية أو السياسية سواء على صفحات الجرائد أو على شاشة الفضائيات. يسمون الانفراد بتغطية حدث «سبقاً». ويعتبرون البث الحصري «سبقاً». ويدعون أن تجميع الأخبار من وراء الكواليس «سبق». وهذا كله دليل على سوء الاستعمال، لأن «السبق الصحفي» أرقى وأدق من هذا بكثير. فهو أمر لا يتكرر كل يوم. كما أن موضوعه لا يدور حول تفاصيل صغيرة أو مسائل فرعية وانما يتعلق بالكشف عن مسائل حيوية لم تكن معروفة من قبل للناس يترتب على الكشف عنها اعادة نظر في أمور وأحوال بأكملها. ولهذا السبب فان ما نراه على الشاشات أو نقرأه في الصحف عن مقابلة حصرية أو تغطية منفردة أو لقاء خاص على أنه سبق ليس بسبق وانما اجتهاد.
وبالاضافة الى الكشف عن شيء قيم، لا يكون السبق الصحفي كذلك الا اذا راعى أصول المهنة، وأولها وأهمها الصدق. فالسبق الصحفي هو الصدق الصحفي في أعلى مراتبه. لا يمكن أن يكون السبق مفبركاً أو مزيفاً أو ملفقاً أو يعرض لأنصاف الحقائق. فكما أنه سريع عليه أن يكون دقيقاً. مصادر الخبر فيه واضحة. بياناته وتفصيلاته مؤكدة لا لبس فيها ولا تهويم. معلوماته لا تقبل الطعن لأنها مدعمة بالوثائق.
لكن الجمع بين السبق و الصدق لم يعد سهلاً في عالم الصحافة برغم التطور التكنولوجي الهائل الذي توفر للعمل الاعلامي في السنوات الماضية. والسبب في ذلك أن التكنولوجيا أضرت بأخلاقيات الصحافة بما يعادل ان لم يفق ما أتاحته لها من فرص ومزايا. فقد استفاد العمل الصحفي بلا حدود من سرعة تداول المعلومات، كما سهلت التكنولوجيا للصحفيين الوصول الى قطاعات أوسع من القراء بوسائل مغرية لم تكن متاحة من قبل. لكن التعدد في الأدوات والزيادة في المعلومات حمل معه عيوباً قاتلة. فقد بات من السهل دس السم في العسل والافتراء بحرفية والتشويه بمكر واختلاق أحداث لم تقع أو المبالغة في أمور وقعت وتقديمها للناس بشطارة على أنها سبق. ولم لا؟ فمن يستطيع الآن بالله من عامة بل وأحياناً من خاصة القراء أن يتحرى الدقة وسط هذه الزحمة الاعلامية؟. لقد بات ممكناً وسط هذا الزحام الاعلامي والضجيج الالكتروني أن يزعم بعض الصحفيين أن ما يتناولونه سبقاً لم يصل اليه غيرهم. وليس هذا بعجيب بعد أن دخل عالم الصحافة عناصر غير مدربة لم تحصل على ما يكفيها من الثقافة الصحفية والاعداد السليم لممارسة عمل خطير الكلمة فيه اما أن تكب صاحبها في جهنم أو تصعد به مع الصديقين الى أعلى درجات الفردوس. ومثل هؤلاء من أنصاف أو أشباه الصحفيين هم الأكثر غراماً بالسبق. يضخمون ويبالغون وأحياناً يلفقون لأن الصدق الصحفي لم يرسخ كما يجب في ضمائرهم. يعمدون الى الفرقعة والاثارة ويسمونها بجرأة يحسدون عليها «سبقاً». لا تهمهم مسألة الدقة طالما أن الفرقعة ستلفت اليهم الأنظار وتجعل أسماءهم متداولة حتى ولو كانت الحقيقة هي الضحية.
لكن بجانب تأثير من تسلل الى العمل الصحفي من أشباه الصحفيين، تساعد حالة الجمهور أيضاً على دفع السبق الصحفي ليتقدم أحياناً على الصدق الصحفي. فما يزال للكلمة المطبوعة على الورق أو المذاعة على الشاشات أثر السحر في نفوس الناس. يصدقونها لذاتها حتى وان لم يقم عليها ما يكفي من دليل. يعتبرون أن النشر دليل في حد ذاته على صحة الخبر. يضعون ثقتهم في الكلمة المطبوعة والمذاعة لأنهم يفترضون أن فوقها جهات رقابية وسلطات تحريرية لا يمكن أن يتسرب من تحت يدها خبر الا بعد التأكد من دقته. لا يفترضون وهم يقرأون أن ما يقدم لهم على أنه «سبق» قد يكون وراءه خلفيات أخرى لا علاقة لها بمهمة الصحافة في خدمة القراء واظهار الحقيقة. لا يتصورون أن بعض حالات «السبق الصحفي» قد تكون مدفوعة سياسياً أو وراءها رغبات شخصية في تصفية حسابات ضيقة لا علاقة لها بالمصلحة العامة.
والناس لديها بلا شك ذكاء توظفه وهي تقرأ. لكن لديها أيضاً فطرة تجعلها تسلم بأن العناوين الكبيرة صحيحة وأن الكلام المطبوع أدق من الكلام المتناقل شفاهةً وأن السبق الصحفي المدعم بصور وعناوين هو الصدق الصحفي بعينه. ثم ان الناس في بلادنا العربية بشكل خاص يميلون الى التفكير الجمعي بعقلية المؤامرة التي يعوضون بها نقص ما لديهم من معلومات وبخاصة حول المسائل التي لا يسمح فيها بالنشر بحرية. ولهذا يسهل عليهم أن يصدقوا ما يقدم لهم عن الخبايا والمسائل الغامضة على أنه «سبق».
كثير منهم على استعداد لتصديق «السبق» لأنهم ينتظرون بشغف أي شيء يشبع فضولهم أو يساعدهم على التطفل على التفاصيل التي ما كانوا سيهتمون بها لو أن هامش الحرية الذي يتمتعون به أكبر من الهامش الضيق الذي يعيشون عليه.
وسواء كان «السبق الصحفي» الزائد عن حده يعود الى سلوكيات أشباه الصحفيين أو الى الطبيعة الغالبة على أكثرية القراء، فان الضحية الأولى «للسبق الصحفي» الزائف هو الصدق الصحفي نفسه. وليس أدل على تراجع الصدق الصحفي بسبب حالات السبق الصحفي الملفقة من كثرة ما يتعرض له الصحفيون من مشكلات أوصلت عدداً ليس قليلا منهم الى المثول أمام العدالة في ساحات المحاكم. ومرجع هذا أن أشباه أو أنصاف الصحفيين لا يفرقون بين الرأي والمعلومة. يقفزون من معلومات ناقصة ومجتزأة الى استنتاجات خطيرة، ويخلطون بين الخبر والرأي وكأن الاثنين واحد. وكم سبب هذا الخلط في أضرار لحقت بأبرياء اتهموا في أعراضهم أو ذممهم المالية أو وطنيتهم أو دينهم، لا لشيء الا أن صحافة «السبق» أو بالأحرى «السلق» مستعدة لقول ما يثير الناس حتى ولو كان ماساً بالشرف ومخلاً بالحقيقة. وليس ما نسمعه عن مواثيق الشرف الصحفية الا دليلا آخر على الخلل الجسيم الذي لحق بأخلاقيات المهنة التي تعتبر سلطة رابعة عليها أن تراقب وتحاسب وتكشف.
لكن في عالمنا العربي ومثلما ترد ملاحظات على السلطات الثلاث ترد بالمثل ملاحظات على السلطة الرابعة، من بينها سوء استعمال المفردات من قبيل «سبق» و«انفراد» و«حصري» و«خاص». ولا ينفي كل هذا أن هناك نماذج محترمة لسبق صحفي حقيقي يتحلى بالصدق ويجمع بين السرعة والدقة أو بين الهمة والأمانة. لكن هذا ليس دائماً هو القاعدة خاصةً بعد أن صار عدد الصحفيين أكبر في بعض الأحيان من عدد القراء أنفسهم.
والتضحية بالصدق الصحفي أمر مؤلم لأهل المهنة المحترمين لا يقدمون عليه أبداً. ومؤلم أيضاً لكل من يستطيع أن يميز من القراء بين الحقيقي والملفق. ولأن البحث عن حل جماعي لتلك المشكلة يتطلب وقتاً طويلاً فان اللجوء الى الحلول الفردية يبقى هو المتاح. والانتقائية هي أفضل الحلول. وهو ما انتهيت اليه من حصيلة نقاش مع عدد كبير من الزملاء حول أفضل سبل للتعامل مع هذا السيل الفياض من الصحف والمواقع الالكترونية التي تتحدث كثيراً عن سبقها وقدراتها وتميزها وصدقها وموضوعيتها وأشياء أخرى قد لا تتوافر فيها. والانتقائية هي أن يصنع كل منا صحيفته بنفسه. فالأمر لم يعد كما كان من قبل. في الماضي كنا نقرأ صحيفة أو بالكاد اثنتين. كنا ننتظرها أحياناً بلهفة لو كنا نسكن في مناطق بعيدة عن العاصمة.
كنا نشعر أن بعض ما تنقله ليس صادقاً وليس سباقاً لكن لم يكن باليد حيلة. أما اليوم فبكبسة زر نستطيع أن نقرأ عشرات الجرائد والمجلات، ناهيك عن المدونات والمواقع الالكترونية التي أنشأها أفراد أو أطلقتها مراكز بحوث ومحطات فضائية. وكثير منها بات يتغنى في الزحام بأنه الأكثر توزيعاً أو مشاهدةً وأنه الأصدق والأدق والأسبق والأكثر موضوعية. وأمام هذا التنافس المحموم لم يعد من سبيل لمن يبحث عن الصدق الصحفي الا أن يبني الانسان صحيفته بنفسه، وأن يجمعها كل يوم من هنا ومن هناك الى أن يصل الى ما يعتقد أنه المصدر الأكثر صدقاً الذي قد لا يكون بالضرورة هو الأكثر سبقاً.
نقلا عن موقع الاتحاد العربي للصحافة الالكترونية
والعلاقة بين السبق والصدق أو بين السرعة والدقة في عالم الصحافة مثال آخر يؤكد صعوبة الجمع بين الاثنين. فالسرعة في مهنة الصحافة مطلوبة. لكن الدقة فيها مطلوبة أكثر. السبق الصحفي مطمح مشروع لكل من التحق بمهنة المتاعب. لكن في مقابله يقف الصدق الصحفي كالسيف المسلط على رقبة الصحفي، ان لم يتوخاه لتحولت طموحاته الى وبال عليه. فكل صحفي يحلم - وهذا من حقه - في سبق مهني يشق به طريقه. ومن أجل هذا الحلم يحفر وينقب هنا وهناك لعله يفجر قضية رأي عام قبل غيره أو يكشف أمراً خفياً قبل أن يسبقه آخرون. ولما لا يفعل، فقد يكون السبق الصحفي خبطة العمر التي ترفع الأسهم وتُعلي المكانة.
لكن السبق في الصحافة له أصول وقواعد. فليس أي خبر يأتي به محرر قبل غيره يعتبر سبقا، كما لا يعد أي حوار ينشر في صحيفة قبل أخرى استباقاً. لكن في ظل خلط المفاهيم بات «السبق الصحفي» تعبيراً مطاطاً كثيراً ما يتعرض لسوء الاستعمال. بتنا نقرأ أو نسمع عن «سبق صحفي» خطير على ألسنة هواة ومبتدئين في الصحافة الرياضية أو الفنية أو الاقتصادية أو السياسية سواء على صفحات الجرائد أو على شاشة الفضائيات. يسمون الانفراد بتغطية حدث «سبقاً». ويعتبرون البث الحصري «سبقاً». ويدعون أن تجميع الأخبار من وراء الكواليس «سبق». وهذا كله دليل على سوء الاستعمال، لأن «السبق الصحفي» أرقى وأدق من هذا بكثير. فهو أمر لا يتكرر كل يوم. كما أن موضوعه لا يدور حول تفاصيل صغيرة أو مسائل فرعية وانما يتعلق بالكشف عن مسائل حيوية لم تكن معروفة من قبل للناس يترتب على الكشف عنها اعادة نظر في أمور وأحوال بأكملها. ولهذا السبب فان ما نراه على الشاشات أو نقرأه في الصحف عن مقابلة حصرية أو تغطية منفردة أو لقاء خاص على أنه سبق ليس بسبق وانما اجتهاد.
وبالاضافة الى الكشف عن شيء قيم، لا يكون السبق الصحفي كذلك الا اذا راعى أصول المهنة، وأولها وأهمها الصدق. فالسبق الصحفي هو الصدق الصحفي في أعلى مراتبه. لا يمكن أن يكون السبق مفبركاً أو مزيفاً أو ملفقاً أو يعرض لأنصاف الحقائق. فكما أنه سريع عليه أن يكون دقيقاً. مصادر الخبر فيه واضحة. بياناته وتفصيلاته مؤكدة لا لبس فيها ولا تهويم. معلوماته لا تقبل الطعن لأنها مدعمة بالوثائق.
لكن الجمع بين السبق و الصدق لم يعد سهلاً في عالم الصحافة برغم التطور التكنولوجي الهائل الذي توفر للعمل الاعلامي في السنوات الماضية. والسبب في ذلك أن التكنولوجيا أضرت بأخلاقيات الصحافة بما يعادل ان لم يفق ما أتاحته لها من فرص ومزايا. فقد استفاد العمل الصحفي بلا حدود من سرعة تداول المعلومات، كما سهلت التكنولوجيا للصحفيين الوصول الى قطاعات أوسع من القراء بوسائل مغرية لم تكن متاحة من قبل. لكن التعدد في الأدوات والزيادة في المعلومات حمل معه عيوباً قاتلة. فقد بات من السهل دس السم في العسل والافتراء بحرفية والتشويه بمكر واختلاق أحداث لم تقع أو المبالغة في أمور وقعت وتقديمها للناس بشطارة على أنها سبق. ولم لا؟ فمن يستطيع الآن بالله من عامة بل وأحياناً من خاصة القراء أن يتحرى الدقة وسط هذه الزحمة الاعلامية؟. لقد بات ممكناً وسط هذا الزحام الاعلامي والضجيج الالكتروني أن يزعم بعض الصحفيين أن ما يتناولونه سبقاً لم يصل اليه غيرهم. وليس هذا بعجيب بعد أن دخل عالم الصحافة عناصر غير مدربة لم تحصل على ما يكفيها من الثقافة الصحفية والاعداد السليم لممارسة عمل خطير الكلمة فيه اما أن تكب صاحبها في جهنم أو تصعد به مع الصديقين الى أعلى درجات الفردوس. ومثل هؤلاء من أنصاف أو أشباه الصحفيين هم الأكثر غراماً بالسبق. يضخمون ويبالغون وأحياناً يلفقون لأن الصدق الصحفي لم يرسخ كما يجب في ضمائرهم. يعمدون الى الفرقعة والاثارة ويسمونها بجرأة يحسدون عليها «سبقاً». لا تهمهم مسألة الدقة طالما أن الفرقعة ستلفت اليهم الأنظار وتجعل أسماءهم متداولة حتى ولو كانت الحقيقة هي الضحية.
لكن بجانب تأثير من تسلل الى العمل الصحفي من أشباه الصحفيين، تساعد حالة الجمهور أيضاً على دفع السبق الصحفي ليتقدم أحياناً على الصدق الصحفي. فما يزال للكلمة المطبوعة على الورق أو المذاعة على الشاشات أثر السحر في نفوس الناس. يصدقونها لذاتها حتى وان لم يقم عليها ما يكفي من دليل. يعتبرون أن النشر دليل في حد ذاته على صحة الخبر. يضعون ثقتهم في الكلمة المطبوعة والمذاعة لأنهم يفترضون أن فوقها جهات رقابية وسلطات تحريرية لا يمكن أن يتسرب من تحت يدها خبر الا بعد التأكد من دقته. لا يفترضون وهم يقرأون أن ما يقدم لهم على أنه «سبق» قد يكون وراءه خلفيات أخرى لا علاقة لها بمهمة الصحافة في خدمة القراء واظهار الحقيقة. لا يتصورون أن بعض حالات «السبق الصحفي» قد تكون مدفوعة سياسياً أو وراءها رغبات شخصية في تصفية حسابات ضيقة لا علاقة لها بالمصلحة العامة.
والناس لديها بلا شك ذكاء توظفه وهي تقرأ. لكن لديها أيضاً فطرة تجعلها تسلم بأن العناوين الكبيرة صحيحة وأن الكلام المطبوع أدق من الكلام المتناقل شفاهةً وأن السبق الصحفي المدعم بصور وعناوين هو الصدق الصحفي بعينه. ثم ان الناس في بلادنا العربية بشكل خاص يميلون الى التفكير الجمعي بعقلية المؤامرة التي يعوضون بها نقص ما لديهم من معلومات وبخاصة حول المسائل التي لا يسمح فيها بالنشر بحرية. ولهذا يسهل عليهم أن يصدقوا ما يقدم لهم عن الخبايا والمسائل الغامضة على أنه «سبق».
كثير منهم على استعداد لتصديق «السبق» لأنهم ينتظرون بشغف أي شيء يشبع فضولهم أو يساعدهم على التطفل على التفاصيل التي ما كانوا سيهتمون بها لو أن هامش الحرية الذي يتمتعون به أكبر من الهامش الضيق الذي يعيشون عليه.
وسواء كان «السبق الصحفي» الزائد عن حده يعود الى سلوكيات أشباه الصحفيين أو الى الطبيعة الغالبة على أكثرية القراء، فان الضحية الأولى «للسبق الصحفي» الزائف هو الصدق الصحفي نفسه. وليس أدل على تراجع الصدق الصحفي بسبب حالات السبق الصحفي الملفقة من كثرة ما يتعرض له الصحفيون من مشكلات أوصلت عدداً ليس قليلا منهم الى المثول أمام العدالة في ساحات المحاكم. ومرجع هذا أن أشباه أو أنصاف الصحفيين لا يفرقون بين الرأي والمعلومة. يقفزون من معلومات ناقصة ومجتزأة الى استنتاجات خطيرة، ويخلطون بين الخبر والرأي وكأن الاثنين واحد. وكم سبب هذا الخلط في أضرار لحقت بأبرياء اتهموا في أعراضهم أو ذممهم المالية أو وطنيتهم أو دينهم، لا لشيء الا أن صحافة «السبق» أو بالأحرى «السلق» مستعدة لقول ما يثير الناس حتى ولو كان ماساً بالشرف ومخلاً بالحقيقة. وليس ما نسمعه عن مواثيق الشرف الصحفية الا دليلا آخر على الخلل الجسيم الذي لحق بأخلاقيات المهنة التي تعتبر سلطة رابعة عليها أن تراقب وتحاسب وتكشف.
لكن في عالمنا العربي ومثلما ترد ملاحظات على السلطات الثلاث ترد بالمثل ملاحظات على السلطة الرابعة، من بينها سوء استعمال المفردات من قبيل «سبق» و«انفراد» و«حصري» و«خاص». ولا ينفي كل هذا أن هناك نماذج محترمة لسبق صحفي حقيقي يتحلى بالصدق ويجمع بين السرعة والدقة أو بين الهمة والأمانة. لكن هذا ليس دائماً هو القاعدة خاصةً بعد أن صار عدد الصحفيين أكبر في بعض الأحيان من عدد القراء أنفسهم.
والتضحية بالصدق الصحفي أمر مؤلم لأهل المهنة المحترمين لا يقدمون عليه أبداً. ومؤلم أيضاً لكل من يستطيع أن يميز من القراء بين الحقيقي والملفق. ولأن البحث عن حل جماعي لتلك المشكلة يتطلب وقتاً طويلاً فان اللجوء الى الحلول الفردية يبقى هو المتاح. والانتقائية هي أفضل الحلول. وهو ما انتهيت اليه من حصيلة نقاش مع عدد كبير من الزملاء حول أفضل سبل للتعامل مع هذا السيل الفياض من الصحف والمواقع الالكترونية التي تتحدث كثيراً عن سبقها وقدراتها وتميزها وصدقها وموضوعيتها وأشياء أخرى قد لا تتوافر فيها. والانتقائية هي أن يصنع كل منا صحيفته بنفسه. فالأمر لم يعد كما كان من قبل. في الماضي كنا نقرأ صحيفة أو بالكاد اثنتين. كنا ننتظرها أحياناً بلهفة لو كنا نسكن في مناطق بعيدة عن العاصمة.
كنا نشعر أن بعض ما تنقله ليس صادقاً وليس سباقاً لكن لم يكن باليد حيلة. أما اليوم فبكبسة زر نستطيع أن نقرأ عشرات الجرائد والمجلات، ناهيك عن المدونات والمواقع الالكترونية التي أنشأها أفراد أو أطلقتها مراكز بحوث ومحطات فضائية. وكثير منها بات يتغنى في الزحام بأنه الأكثر توزيعاً أو مشاهدةً وأنه الأصدق والأدق والأسبق والأكثر موضوعية. وأمام هذا التنافس المحموم لم يعد من سبيل لمن يبحث عن الصدق الصحفي الا أن يبني الانسان صحيفته بنفسه، وأن يجمعها كل يوم من هنا ومن هناك الى أن يصل الى ما يعتقد أنه المصدر الأكثر صدقاً الذي قد لا يكون بالضرورة هو الأكثر سبقاً.
نقلا عن موقع الاتحاد العربي للصحافة الالكترونية