الرمز
مقطع الانطلاق
يقول يوسف الخال في قصيدته ” البئر المهجورة ”:
1 ـ عرفتُ إبراهيم، جاري العزيز، من
2 ـ زمان عرفته بئرا يفيض ماؤها
3 ـ وسائر البشر
4 ـ تمر لا تشرب منها، لا ولا
5 ـ ترمي بها حجر
6 ـ ” لو كان لي أن أنشر الجبين
7 ـ في سارية الضياء من جديد ”
8 ـ يقول إبراهيم في وُريْقة مخضوبة
9 ـ بدمه الطليل
+++++++++++
10 ـ لكن إبراهيم ظل سائرا
11 ـ كأنه لم يسمع الصدى،
12 ـ وقيل إنه الجنون
13 ـ لعله الجنون.
2 ـ زمان عرفته بئرا يفيض ماؤها
3 ـ وسائر البشر
4 ـ تمر لا تشرب منها، لا ولا
5 ـ ترمي بها حجر
6 ـ ” لو كان لي أن أنشر الجبين
7 ـ في سارية الضياء من جديد ”
8 ـ يقول إبراهيم في وُريْقة مخضوبة
9 ـ بدمه الطليل
+++++++++++
10 ـ لكن إبراهيم ظل سائرا
11 ـ كأنه لم يسمع الصدى،
12 ـ وقيل إنه الجنون
13 ـ لعله الجنون.
تحليل المقطع
إبراهيم رمز للتضحية، يضحي بنفسه لدفع الظلم عن غيره، ويتحدى الأعداء والرصاص، ويتمنى أن يُصلب على سارية الضياء من جديد ليطهر البشرية ويحقق العدل والخلاص . بهذا المعنى يكون الشاعر قد شحن اسم “إبراهيم” بدلالات رمزية مُستقاة من التراث الديني ممثلا في نبي الله “إبراهيم” المتحدي للنار والمضحي بولده، ونبي الله “المسيح” المصلوب، ومُخلص البشرية حسب العقيدة المسيحية.
أنواع الرمز
الرمز الديني
يقول السياب في قصيدته ”لأني غريب”:
1 ـ لأني غريب
2 ـ لأن العراق الحبيب
3 ـ بعيد، وأني هنا في اشتياق
4 ـ إليه، إليها …أُنادي : عراق
5 ـ فيرجع لي من ندائي نحيب
6 ـ تفجر عنه الصدى
7 ـ أحس بأني عبرت المدى
8 ـ إلى عالم من ردى لا يجيب
9 ـ ندائي
10 ـ وإما هززْت الغصون
11 ـ فما يتساقط غير الردى
12 ـ حجار … حجار وما من ثمار.
2 ـ لأن العراق الحبيب
3 ـ بعيد، وأني هنا في اشتياق
4 ـ إليه، إليها …أُنادي : عراق
5 ـ فيرجع لي من ندائي نحيب
6 ـ تفجر عنه الصدى
7 ـ أحس بأني عبرت المدى
8 ـ إلى عالم من ردى لا يجيب
9 ـ ندائي
10 ـ وإما هززْت الغصون
11 ـ فما يتساقط غير الردى
12 ـ حجار … حجار وما من ثمار.
يعبر السياب في قصيدته “لأني غريب” عن تجربة المرض وحالة اليأس من العلاج، فيستحضر صورة مريم العذراء في إحساسها بالاغتراب. ويُبرز هذا الاغتراب أوجه التشابه بينهما في الغربة والبحث عن الخلاص وتمني الموت. أما أوجه الاختلاف ففي (الخوف مريم من العار ≠ خوف السياب من الموت)؛ (سقوط الرُّطب ≠ سقوط حجارة القبر) ؛ ( المصالحة مع الأهل بعد تكلم الصبي النبي ≠ ازدياد القلق وتفاقم الألم ).
فالسياب، إذن، اتخذ الرمز الديني قناعا للتعبير عن تجربة المرض، غير أنه لم يحافظ على صورة مريم كما هي، بل قد انزاح عن الرمز حينما وظفه توظيفا مأساويا، يتوافق مع خيبته وطبيعة معاناته .
الرمز التاريخي
يقول أدونيس في قصيدته ” مرثية عمر بن الخطاب”:
1 ـ صوت بلا وعد ولا تعلة
2 ـ يصرخ، والشمس له مظلهْ،
3 ـ متى، متى تُضرب يا جِبِلهْ؟
4 ـ و يا صديق اليأس والرجاءْ
5 ـ الحجر الأخضر فوق النارْ
6 ـ ونحن في انتظارْ
7 ـ موعدك الآتي من السماءْ
2 ـ يصرخ، والشمس له مظلهْ،
3 ـ متى، متى تُضرب يا جِبِلهْ؟
4 ـ و يا صديق اليأس والرجاءْ
5 ـ الحجر الأخضر فوق النارْ
6 ـ ونحن في انتظارْ
7 ـ موعدك الآتي من السماءْ
يرثي أدونيس عمر بن الخطاب انطلاقا من رؤيته الخاصة التي تتجسد من خلال أوصاف كالاقتصاص للمظلومين: (حادث آخر ملوك الغساسنة جبلة بن الأيهم الذي داس رجل رداءه في طواف فلكمه جبلة، فشكاه الرجل لعمر، فقال عمر: اُلطمه بدلها، فغضب جبلة وارتحل عن ديار الإسلام)، والعدل الاجتماعي: (حال الأرملة الفقيرة التي كانت تُحرك القدر المملوء بالحصى فوق النار لتُوهم صغارها بإعداد الطعام حتى يناموا، فاطلع عمر على حالها في جولته الليلية، وحمل لها الطعام وأعده لهم بنفسه حتى نضج فأكلوا، وجعل لها نفقة من بيت مال المسلمين).
فالشاعر يستدعي شخصية تاريخية تميزت بالعدل والقصاص الحق ليعبر عن صفتين اُفتُقدتا في زمنه، وهو يتوق إلى ظهورهما من جديد ، فيكون عمر رمزا لكل إنسان يسعى إلى تحقيق العدل.
الرمز الطبيعي
يقول أحمد المجاطي في قصيدته ” الدار البيضاء”:
1. ها أنا أُمسك الريح
2. أنسُج من صدإ القيد رايهْ
3. من صدإ القــيــــــــــــدِ
4. مقبرة للحـــــــــروفِ
5. ومِحْبرة للســـــيــوفِ
6. وقيثارة للشجــــــــــنْ
2. أنسُج من صدإ القيد رايهْ
3. من صدإ القــيــــــــــــدِ
4. مقبرة للحـــــــــروفِ
5. ومِحْبرة للســـــيــوفِ
6. وقيثارة للشجــــــــــنْ
نظر الشاعر إلى الريح كقوة تختزن معاني الثورة والتحرر من أدران القيود وأحزان الواقع، فنقل الريح من مجالها الطبيعي إلى المجال الرمزي للتعبير عن رغبته الجامحة في تحرير الإنسان من آلامه، وإصراره على المقاومة.
الرمز الأدبي
يقول أدونيس في قصيدته مرثية ” أبي نواس”:
1. على وجهك الزمنْ
2. عارف أنني وراءك في موكب الحجرْ
3. خلف تاريخنا المواتْ
4. أنا والشعر والمطرْ
5. خَـلِّنا يا أبا نواسْ
6. الليالي تلُفُّنا بالعباأت والدِّمنْ
7. خلِّنا للعذابِ الجميل وللريح والشررْ
8. تقتل البعث والرجاءْ
9. ونُغني ونستجير ونحيا مع الحجرْ
10 . ونحن والشعر والمطرْ
2. عارف أنني وراءك في موكب الحجرْ
3. خلف تاريخنا المواتْ
4. أنا والشعر والمطرْ
5. خَـلِّنا يا أبا نواسْ
6. الليالي تلُفُّنا بالعباأت والدِّمنْ
7. خلِّنا للعذابِ الجميل وللريح والشررْ
8. تقتل البعث والرجاءْ
9. ونُغني ونستجير ونحيا مع الحجرْ
10 . ونحن والشعر والمطرْ
يريد أدونيس التعبير عن تجربته الشعرية القائمة على التجديد والثورة على السكونية والتقليد، وما يجده من لذة في خرق قيم القديم وتجاوزها. فربط تجربته الذاتية هذه بالتجربة الجماعية من خلال تقمصه لشخصية شعرية قديمة عُرفت بنفس سمات أدونيس الثورية التجديدية، ألا وهي شخصية أبي نواس، الذي لبس قناعه باعتباره رمزا أدبيا دالا على التجديد والتحرر .
الرمز الشخصي
يقول السياب في قصيدته ” جيكور وأشجار المدينة ”:
1. والليل في جيكورَ
2. تهمس فيه النجوم
3. أنغامها تولدُ فيه الزهور
4. وتخفق الأجنحة
5. في أعين الأطفال، في عالم للنوم، مرت غيوم
6. بالدرب مُبْيَضا بنور القمر
2. تهمس فيه النجوم
3. أنغامها تولدُ فيه الزهور
4. وتخفق الأجنحة
5. في أعين الأطفال، في عالم للنوم، مرت غيوم
6. بالدرب مُبْيَضا بنور القمر
ابتكر الشاعر هنا رمزه الخاص، حيث تغنى بجمال قريته “جيكور”، ووصفها في الليل وقد صفت سماؤها، وتهامست نجومها، وأشرق قمرها، ونام أطفالها في دفء الطمأنينة والسلام. فأصبحتْ جيكور رمزا للصفاء والنقاء. وسيجعل منها الشاعر في سياقات أخرى رمزا لوطنه أو للإنسانية.
خلاصة واستنتاج
اقتضى تطور مفهوم الشعر ورؤية الشاعر الحداثية تجديد أدواته الفنية قصد تحديث المعنى، لأجل ذلك نُظر إلى الرمز باعتباره خلقا لحالة شعرية، تهدف إلى الإيحاء بدلالات تعبيرية جديدة، تبتغي تعرُّف وفهمَ علاقة الإنسان بتاريخ ذاته ووجوده .
يستفيد الشاعر من الرمز للتعبير عن تجربة معاصرة في صورة رمزية، ولتجسيد رؤية كونية وإنسانية للحياة. إن اللجوء إلى الرمز هو بحث عن ذات الشاعر الحضارية في المستقبل الجديد، وذلك في اقتصاد لغوي يكتنز الدلالة ويكثف المعنى، بعيدا عن قيد المباشرة والغنائية الخالصة والتقريرية، مما يُسهم في خلق فضاء مُتخيل واسع الأبعاد زمانيا ومكانيا. ويرتبط الرمز بالسياق، والسياق هو الذي يتحكم في الرمز ويُخضعه له، لا العكس. ويتنوع الرمز بحسب المصادر التي يستقيه منها الشاعر، فيكون دينيا، أو تاريخيا، أو طبيعيا، أو أدبيا، أو شخصيا .. وعلى القارئ أن يرتفع إلى المستوى الثقافي في تجربة شعر تكسير البنية وتجديد الرؤيا، ويطلع على الكثير من الرموز وجمالياتها وكيف وُظفت في قصائد الشعراء، والارتقاء بوعيه الجمالي حتى يستطيع مشاركة الشاعر تجربته الإبداعية المعاصرة.
ويستلزم الرمز مستويين:
- مستوى الأشياء الحية، أو الصور الحسية التي تُؤخذُ قالبا للرمز.
- مستوى الحالات المعنوية المرموز إليها.
وحين يندمج المستويان في حالة إبداع نحصل على الرمز الذي يشكل إيحاءً مكثفا نوعا وكما واختزالا لرؤيا تدَّعي تعميم ظاهرة ما على المستوى التاريخي/ الزماني، والاجتماعي / المكاني، ويشكل بذلك جدلية خصبة في كونه المجال الذي يتم عبره اختصار الواقع وإطلاقه في آن معا.
لا بد من وجود علاقة بين هذين المستويين تُعطي للرمز قوة التمثيل الباطنية فيه، أي علاقة المشابهة التي لا يُقصد بها التماثل في الملامح الحسية، بل يُقصد بتلك العلاقات الداخلية بين الرمز والمرموز إليه من مثل النظام والانسجام والتناسب .. وما إلى ذلك من سمات أساسها تشابه الوقع النفسي في كليهما.
من هنا فالرمز لا يقرر ولا يصف الأشياء، بل يومئ ويوحي بها بوصفه تعبيرا غير مباشر عن النواحي النفسية، وباعتباره صلة بين الذات والأشياء، تتولد فيها المشاعر عن طريق الإشارة النفسية، لا عن طريق التسمية والتصريح.
الأسطورة
تـقديــم
إلى جانب الصورة الشعرية والرمز، تشكل الأسطورة أحد المكونات الأساسيه في البناء الفني والفكري ونمطا من أنماط التعبير الجمالي للقصيدة الحديثة، ورغم تعددها وصعوبة ضبطها، فإن هناك اتفاقا على كون الأسطورة حكايات تحكي قصص الآلهة، وتمثل طفولة العقل البشري، إذ تعمد إلى تفسير الظواهر الطبيعية كالطوفان والرعد بتصورات خيالية، توارثتها الأجيال وكأنها حقائق علمية. وقد اختلط فيها الواقع بالقوى الغيبية التي ألهها الإنسان البدائي. تتميز الأسطورة باللازمنية، لأنها غير معروفة المنشأ والتاريخ والأصل، اتخذها الشاعر المعاصر شكلا رمزيا، أو نمطا فنيا يصوغ من خلاله تجاربه الشعرية والحياتية ومشاعره ومواقفه وأفكاره ورؤاه الفنية، وجعلها وسيلة للتواصل، لا عن طريق مخاطبة الفكر، كما تفعل الفلسفة والمنطق، بل عن طريق التغلغل إلى اللاشعور، حيث تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة.
لقد استلهم الشاعر الحديث مجموعة رموز أسطورية من الوثنية البابلية واليونانية والفينيقية والعربية، ومن المعتقدات المسيحية ومن التراث العربي ومن الفكر الإنساني عامة. من تلك الرموز والأساطير: تموز وعشتار، وأورفيوس، وطائر الفنيق، وصقر قريش، والخضر، ونادر، ومهيار، والعنقاء، والسندباد، وعمر الخيام وحبيبته عائشة والحلاج ولعازر والناصري … وهي أساطير تجسد غالبا صراع الخير والشر.
مقطعا الانطلاق
1) يقول السياب في قصيدته ”سربروس في بابل“:
1 ـ ليعو سربروس في الدروبْ
2 ـ وينبش التراب عن إلهنا الدفين
3 ـ تموزنا الطعين
4 ـ يأكله: يمص عينيه إلى القرار
5 ـ عُشتار ربة الشمال والجنوبْ
6 ـ تسير في السهول والوهاد
7 ـ تسير في الدروب
8 ـ تلقُطُ منها لحم تموز إذا انتشرْ
2 ـ وينبش التراب عن إلهنا الدفين
3 ـ تموزنا الطعين
4 ـ يأكله: يمص عينيه إلى القرار
5 ـ عُشتار ربة الشمال والجنوبْ
6 ـ تسير في السهول والوهاد
7 ـ تسير في الدروب
8 ـ تلقُطُ منها لحم تموز إذا انتشرْ
2) يقول أدونيس:
1 ـ لم يزل شهريار
2 ـ حاملا سيفه للحصاد
3 ـ حاضنا جرة الرياح وقارورة الرمادْ
4 ـ نَسيتْ شهرزادْ
5 ـ أن تُضيء الدروب الخفيهْ
6 ـ في مدار العروقْ
7 ـ نسيت أن تُضيء الشقوقْ
8 ـ بين وجه الضحيهْ
9 وخُطى شهريارْ
2 ـ حاملا سيفه للحصاد
3 ـ حاضنا جرة الرياح وقارورة الرمادْ
4 ـ نَسيتْ شهرزادْ
5 ـ أن تُضيء الدروب الخفيهْ
6 ـ في مدار العروقْ
7 ـ نسيت أن تُضيء الشقوقْ
8 ـ بين وجه الضحيهْ
9 وخُطى شهريارْ
التحليــل
دور الأسطورة في بناء المعنى
مقطع السياب:
يصور السياب في هذه القصيدة حالة الجفاف والبؤس والظلم والشقاء التي تعيشها بابل / بغداد آملا انبعاث جديد يعيد الحياة إلى الأرض والكائنات. ولم يقدم الشاعر تجربته بأسلوب مباشر، وإنما عن طريق أسطورة قديمة سعى من خلالها إلى إدماج التجربة الذاتية والاجتماعية في تجربة إنسانية، تتخطى حدود الزمان والمكان؛ فاستخدم السياب أسطورة سربروس، وهو كلب بثلاثة رؤوس مفتوحة الأفواه باستمرار وينفث السم من أحشائه، وله ذيل تنين، وتكسو ظهره وشعر رأسه ثعابين مرعبة، يحرس مملكة الموت أو العالم السفلي. ويواجه في النص تموز، ابن المياه العميقة، رمز الخصب، يموت كل عام، وينتقل إلى العالم السفلي المظلم، فترحل خليلته عشتار (فينوس / إلهة الحب والخصب) للبحث عنه، وتموت عاطفة الحب أثناء غيابها، وتصبح الحياة مهددة بالفناء، فيبعث ” أيا ” (الإله الأسطوري) رسولا لإنقاذها، فتسمح ” الآتو ” (إلهة الجحيم) لعشتروت أن تغتسل بماء الحياة، وتعود إلى الأرض مع حبيبها تموز حتى تُبعث الطبيعة بعودتهما. وتأتي إلهة الحب والخصب (عشتار) لتجمع أشلاء تموز. غير أن شراسة ” سربروس تنال منها، فتنزف دما يخصب الأرض، ومن رحم موتها تنبثق حياة الإله الأسطوري ” تموز”. وهكذا يجد الشاعر أن عالمه يحتاج إلى تغيير، وهذا التغيير لا يتحقق إلا بدماء ” عُشتار “. فهذه الأسطورة إذن، تنبني على الصراع بين الموت (سربروس) والحياة (تموز)، اتخذها الشاعر أداة فنية معاصرة لتحليل مجتمعه، وتقديم رؤيا فنية إزاء قضاياه ومشكلاته.
مقطع أدونيس:
وظف أدونيس أسطورة شهريار بعد أن تصرف في مضامينها واحتفظ بشخوصها، فشهريار ما زال مستمرا في القتل بدعوى أن شهرزاد لم تعدل سلوكه كما تنص على ذلك الأسطورة الأصلية، والتي منحها الشاعر بعدا واقعيا وإنسانيا وحضاريا من خلال تحيينها وربطها بالحياة المعاصرة. وبذلك فتح القصيدة على الإيحاء بوضع المرأة المزري في عالمنا، أو بحاجة الإنسان عموما إلى المعرفة العميقة بالأشياء، وهي المهمة الموكلة إلى شهرزاد.
الانزياح عن الأسطورة (الأصلية)
لقد صور السياب حالة الجفاف والظلم والشقاء في العراق، ولم يحصر المشكلة في المجال الطبيعي، بل أدخلها في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فتداخل في القصيدة المحلي بالكوني، الذاتي بالجماعي، وأصبحت بؤرة أبعاد وشبكة علاقات وحقل أسئلة تستثير خيال القارئ بقوة الإيحاء واحتمالات التأويل. وفي هذا السياق مزج بين مجموعة من الأساطير، وجعل “سربروس” ينبش التراب عن تموز لا عن”برسفون”، كما في أصل الأسطورة. كما أنه وظف أسطورة “إيزيس وأوزيريس” بذكر صفاتهما ضمنيا بدل اسميهما. أما عشتار (إلهة الحصاد) فلم تسر في السهول والوهاد والدروب، وإنما التي سارت هي “إيزيس” بحثا عن “أوزيريس”، وليس عن تموز. والذي كان يدور خلفها ليبعثر ما جمعته من لحم ” أوزيريس ” هو أخوها ملك مصر، وليس “سربروس”. كما أن التي تمتعت بصفة ” ربة الشمال والجنوب ّ هي “إيزيريس”.
لقد قام الشاعر أولا باستيعاب مغزى الأسطورة الأصلية، ثم عمد، ثانيا إلى تغيير الأدوار والأفعال والأحداث، بل والتوليف بين عدة أساطير، ليعرض الموقف المعاصر، فيصهره في معادله الأسطوري، وخلق بذلك أسطورة جديدة تتمحور حول تيمة الانبعاث والتجدد. وحين حول الأسطورة وعدلها وفق رؤيته استطاع أن يُغني معارفه وتجاربه ويكشف عن هموم الإنسان المعاصر، وفتح آفاق تخييلية لإدراك الواقع. وبذلك تلعب الأسطورة دورها في تحسيسنا برؤيا الشاعر المتمثلة في جعل الموت انتصارا للحياة.
خلاصة واستنتاج
الأسطورة تعبير رمزي ومكون فني وفكري للقصيدة المعاصرة، تحفل بضروب من الخوارق والمعجزات، وتفسر الظواهر الطبيعية بتصورات خيالية، ويختلط فيها الواقع بالقوى الغيبية التي ألهها الإنسان الأول. ولهذا اتخذها الشاعر المعاصر شكلا رمزيا، ونمطا فنيا، ومجالا أرحب للخيال، ومادة خصبة للتعبير، ووعاء لاستيعاب أعمق المشاعر والمواقف والأفكار، يصوغ من خلاله تجربته الشعرية، ويعبر عن مقصديته.
إن الهدف من استخدامها هو استثارة المخزون العاطفي والنفسي لها في وجدان القارئ، ليدفع به إلى الانفعال بعالم القصيدة، فهي تمثل طفولة العقل البشري. وقد وظفها الشاعر الحديث لتحقيق ذاتيته المكبوتة والتصريح بتذمره من أخطر القضايا وتقديم البديل لعالم اليوم المتناقض ورفض قوانين القهر والصراع والكشف عن خبايا نفسه من انكسارات حضارية راهنة مستعينا في ذلك كله بالرموز الفنية التي تجعل التجربة الشعرية حية تؤثر في المتلقي فتخرجه من قهر قناعه إلى تأمل جديد يحاول معه الشاعر إعادة تشكيل العالم بصورة أفضل .
تمد الأسطورة الشاعر بطاقة هائلة من الإيحاأت والانزياحات والدلالات التي تخدم موقفه وأحداث عصره، فيرسم بها من الحالات والوضعيات التي يشكلها، عالما خاصا، يتميز بالدرامية والمأساوية، يتجاوز الاتجاه الأُحادي للمعنى. فهي تجعل الصورة عميقة درامية وكلية، وتخلق لحظات التوتر في وعي القارئ، نتيجة علاقته البسيطة باللغة العادية، وتمكنه من التأويل لتوليد دلالة النص وتحقيق انسجامه، وتكثيف بنية اللغة الشعرية، وتعميق دلالتها الفنية.
يعدل الشاعر الأسطورة وفق رؤيته ليُغني معارفه، ويخلقها ضمن تجربة جديدة، فشعرية الأسطورة أو الرمز، تكمن في القدرة على خلقهما في إطار رؤيا جديدة، وليس في تكرارهما.
قد تستدعي تجربة الشاعر الفنية والمتشعبة أكثر من أسطورة في القصيدة الواحدة، فيعمل على التوليف بينها على أساس أن تكون إحداها أسطورة مركزية، أما الأساطير الأخرى فتكون أساطير فرعية تكمل الأسطورة المركزية وتوسعها وتكثف دلالتها.
يخضع الرمز الأسطوري في النص الشعري لتقنيتين بارزتين:
- الرمز الأسطوري كمعادل موضوعي للشاعر: وهنا يحتفظ كل طرف بصوته وبحضوره، إلا أنهما يتداخلان ويتحدان في التجربة.
- الرمز الأسطوري كقناع للشاعر: وهنا يذوب الشاعر في صوت الأسطورة، ويختفي وجهه وراء قناعها، فلا يبقى إلا صوتها، فيتوارى خلفها ليعبر عن الواقع الحاضر بعد أن حررت الزمن من قيده التاريخي، وفسحت المجال أمام انكشاف رؤيا الشاعر، الذي يخرق بذلك أنماط التعبير المألوفة. ويغدو القناع وسيلة درامية للتخفيف من حدة الغنائية والمباشرة في التعبير، وأداة إخفاء فنية، مما يجعل النص الجديد وليد نصوص قديمة قد يحمل بعض سماتها، ولكنه منفصل عنها بفعل تشذيب الشاعر له حتى يتناسب مع تجربته. وبما أن القناع يمس القصيدة كلها، فإنه يضمن لها التماسك والوحدة العضوية.
المعين الذي يصدر عنه الشاعر لم يعد محليا، بل صار عالميا، يمتح من أساطير الأمم والشعوب والحكايات الشعبية، مما أوجب قارئا مؤهلا، واسع الاطلاع ليفك رموز الأسطورة.