أسباب النهضة الأدبية في العصر الحديث
كلمة انبعاث أو نهضة تذكرنا بالحدث التاريخي العظيم الذي عاشته أوروبا الغربية ابتداء من القرن السادس عشر والذي يتمثل في خروجها من ظلمات القرون الوسطى إلى عهد من التحرر الفكري والتوسع في ميادين المعرفة والحضارة .
وقد عرف العرب في تاريخهم نفس التطور ، إذ بعد نهضتهم الكبرى التي انطلقت مع الإسلام واستمرت مع الدولة الأموية والعباسية إلى القرن الثالث عشر الميلادي ، دخلوا في طور من الانحلال والاستسلام وفقدوا استقلالهم السياسي وفقدوا مع ذلك قابليتهم للابتكار والتقدم والتجديد ، مما دفع المؤرخين إلى تسمية هذه الحقبة بعصر الانحطاط .
وقد عاش العرب في هذه الوضعية المتردية طيلة قرون ولم يشرعوا في الخروج منها إلا مع بداية القرن التاسع عشر ، ولذلك فقد عرف هذا الطور الأخير بعصر النهضة .
مراحل النهضة الأدبية في العصر الحديث
لقد اجتازت هذه النهضة أطوارا ومراحل حتى وصلت لدرجة البزوغ الكامل . ففي عصر الانحطاط ، كان العرب يعيشون جنبا إلى جنب مع أوروبا الناهضة دون أن يشعروا بتزايد هوة التباين بينهم وبينها ودون أن يدركوا أنهم في حالة من النقص والتخلف ستجعلهم لقمة سائغة في يوم ما لحركة التوسع الاستعماري الأوروبي .
ولم يدخلوا في حالة الوعي بذلك إلا عندما تسلط الغزو الأوروبي على بلادهم في القرن التاسع عشر ، وبدأ يكتسحها واحدة تلو الأخرى . فسقطت مصر تحت أيدي الاحتلال الفرنسي والإنجليزي ، وسقطت تونس والجزائر والمغرب تحت الاحتلال الفرنسي .
وبدأت البلدان العربية تسقط واحدة تلو الأخرى تحت غزو استعماري شامل ، فزاد من تدهورها لأنه ( أي الاستعمار ) أضاف إلى مظاهر الانحطاط مظاهر العبودية والخضوع التي ترافق بالضرورة كل نظام استعماري ، لكنه في نفس الوقت كان عامل إيقاظ ونهضة بما خلقه من رد فعل وطني داخل الشعوب العربية على اختلافها .
ومن هنا ، فإن هذه النهضة العامة التي شملت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تمخضت في ميادين الأدب والفكر عن نهضة عميقة أعادت للغة العربية شبابا جديدا وفسحت المجال لأجيال من الكتاب الذين تحرروا من الجمود ومن عقلية التواكل والاستسلام وأرادوا أن يعيشوا في عصرهم وبروح عصرهم .
عوامل النهضة الأدبية في العصر الحديث ومظاهرها
سنتستعرض لكم فيما يلي أهم عوامل النهضة الأدبية في العصر الحديثومظاهرها في جميع البلاد العربية ، وما خلفته من نتائج طيبة ومثمرة .
1 – المدارس
كان للمدارس الفضل الكبير في الرقي بالبلدان العربية ونشر العلم فيها ، ففي لبنان عرفت المدارس انتشارا كبيرا جدا ، وأنشأت وزارة المعارف المدارس الرسمية إلى جانب المدارس الخاصة ، فضجت البلاد بالعلم ، وكان لبنان من أرقى بلاد العالم ثقافة .
أما في مصر فقد قام محمد علي بنهضة علمية تجديدية ، فأضيف إلى الأزهر طائفة من العلوم الحديثة ، وقومت مناهجه تقويما يجاري الحركة التقدمية ، وجُعل التعليم فيه ثلاث درجات : ابتدائي وثانوي وعالي .
وكان فضل الأزهر على اللغة العربية كبيرا ، إذ كان معقلها الحصين في عصور الانحطاط ، وقد اعتمد محمد علي عليه في انتخاب رجال النهضة التي رمى إليها ، كما اعتمد على أبنائه في نقل بعض كتب العلم وصياغتها في قالب عربي متين ، ومن الأزهر أخذ طلبة البعوث التي أرسلها إلى أوروبا .
أما في سائر البلاد العربية فقد بقية سوريا بلا جامعة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى بتتويج فيصل ملكا عليها ، فأسست في عهده الجامعة السورية . ثم انتشرت المدارس الابتدائية والثانوية في جميع البلاد العربية وتعهدتها الحكومات بالعناية الخاصة فآتت ثمارها .
2 – الطباعة
الطباعة من أكبر الوسائل لنشر المعارف بين جميع طبقات الأمة . وقد اخترعت في القرن الخامس عشر الميلادي . ولم تظهر الحروف العربية مطبوعة إلا سنة 1514 في بلدة فانو الإيطالية .
وفي منتصف القرن السادس عشر عرفة الآستانة الطباعة . وأول مطبعة دخلت البلاد العربية هي المطبعة التي أنشئت سنة 1610 في دير قزحيا بلبنان ، وكانت سوريا أسبق البلاد العربية إلى الطبع بالحروف العربية . فقد ظهرت الطباعة في حلب نحو سنة 1702 ، ومنذ ذلك الحين أخذت المطابع تنتشر في لبنان وتشمل بعدها الشرق كله .
3 – الصحافة
كان لتأسيس الطباعة وتقدمها فضل في ظهور الصحافة وتقدمها . وكانت مصر المهد الأول للصحافة العربية ، فقد أنشئت جريدة ” الوقائع المصرية ” الرسمية في عهد محمد علي سنة 1828 ، والتي كانت تنشر أخبار الحكومة بالتركية والعربية .
وفي سنة 1855 أنشأ رزق الله حسون الحلبي في القسطنطينية جريدة أسبوعية سياسية سماها ” مرآة الأحوال ” وذكر فيها وقائع حرب ” القرم ” بين الروس والأتراك ، وأخبار سوريا ولبنان ، لتعرف الصحافة العربية بعدها انتشارا واسعا في شتى البلاد العربية .
أما أثر الصحافة فكان واسعا ، فقد أيقضت روح الوطنية والقومية ومحاربة الاستبداد وطلب الحرية ، ونقلت إلى الشرق حضارة الغرب ونظمه الاجتماعية والسياسية ، واختراعاته العلمية ، وانفتحت على ثقافاته الأدبية والفكرية .
4 – الجمعيات العلمية والأدبية
تعددت كذلك الجمعيات العلمية والأدبية في البلاد العربية وكانت من عوامل تقدم العلوم والثقافة لأنها كانت تحمل الأدباء والعلماء على التكتل وتبادل الآراء ، وكانت تسهل لهم سبل الدرس والبحث ، وتيسر لهم طرق النجاح في مهامهم .
ومن أشهر هذه الجمعيات ، ” المجمع العلمي العربي ” والذي أسس بدمشق سنة 1919 ، وكان يهدف إلى إحياء الآداب العربية وتلقين أصول البحث للدارسين وفق الطرق الحديثة في الدرس والتأليف .
وتم إنشاء ” المجمع الملكي للغة العربية ” سنة 1932 ، والذي كان يهدف إلى الحفاظ على سلامة اللغة العربية وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها ، وأن يوضع معجم تاريخي للغة العربية ، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها .
5 – المكتبات
كان من ثمار الاحتكاك بالثقافة الغربية ، إنشاء المكتبات العامة والخاصة ، وتنظيمها تنظيما حديثا ونشر الفهارس المختلفة ، مما يسهل المطالعة وورود معين العلم .
ومن أشهر المكتبات ” المكتبة الظاهرية ” بدمشق ، وقد أنشئت سنة 1878 وضمت عددا كبيرا من المخطوطات النفيسة ؛ والمكتبة الخديوية بمصر ، وقد أنشئت في عهد محمد علي ؛ والمكتبة الأزهرية ، وقد أسست سنة 1879 .
6 – التمثيل
وعمل كذلك التمثيل على نشر الثقافة والفنون وعلى تهذيب العقل والذوق ، وكان المسرح أهم قبلة يستعرض فيها الكتّاب والأدباء والشعراء قصصهم وملحماتهم الحية على خشبته وأمام جمهور يتفاعل عقله وفكره أمام حبكة وسير الأحداث . ولقد خصصنا موضوعا بأكمله حول نشأة هذا الفن ، يمكنكم الاطلاع عليه في الموضوع الآتي :
7 – الاستشراق
من أكبر العوامل في إحياء الآداب العربية اشتراك الأجانب أنفسهم في دراستها ونشر كتبها . وقد بدأ الأوروبيون ينصرفون إلى دراسة اللغة العربية وآدابها منذ القرن العاشر للميلاد . واشتدت تلك الحركة في القرون الوسطى لانصراف الكثيرين إلى دراسة اللغات السامية ، وفتحت مدارس تعلم لغات الشرق ولا سيما العربية والسريانية والعبرانية .
ولما كان القرن التاسع عشر اشتدت حركة الاستشراق اشتدادا عظيما لقيام الحكومات الغربية بتأسيس مدارس تعلم لغاة الشرق ليسهل عليها حكم مستعمراتها .
ولقد مهدوا السبيل أمام الباحثين بنشرهم المخطوطات الثمينة في طبعات أنيقة مصححة ، مزودة بتعليقات نفيسة ، وبفهارس تيسر الاطلاع وتجمع الأشخاص والأماكن والموضوعات .
ومن أشهر المستشرقين الفرنسيين سلفستر دي ساسي ، ولويس مسينيون ؛ ومن الألمان بروكلمن ، وفرايتاغ ؛ ومن الهولنديين دوزي ، ودي غويه ؛ ومن الإنجليز مرغليوث ، ونكلسون ؛ ومن الإيطاليين غويدي .
خاتمة
تلك كانت أهم عوامل النهضة الأدبية في العصر الحديث . ومن هذه النظرة الإجمالية يتجلى لنا كيف أنها قامت على أساس متين وكيف أنها شملت جميع فروع المعرفة والفن ، وكيف كان من شأنها أن تنشئ أدبا ينبض حياة ويساير آداب العالم المتمدن .
مصادر :
– تاريخ الأدب العربي ( حنا الفاخوري ) .