موضوعنا اليوم سأتناول فيه شخصية أعشق تاريخها ، أدبها ، تميزها ، بيانها …عبقري في صنعة الأدب واللغة ، بديع في عصره وزمانه حقا ، جاء بفن سحر الألباب ، وجعلني – شخصيا – أذوب في عشق لغة الضاد بسببه ، إنه صاحب المقاماتبديع الزمان الهمذاني .
تعريف بديع الزمان الهمذاني
هو أبو الفضل أحمد بن الحسين ولد في مدينة همذان ، وهي مدينة جبلية في إيران سنة 969 م ، لكنه من أصول عربية وذلك مثبت في رسائله . لُقّلب ببديع الزمان لنبوغه في الأدب واللغة العربية ، إضافة إلى أنه كان سريع البديهة ومتّقد الذكاء ، وكانت له مقدرة عالية جدا في الحفظ .
وقد وصفه من عاصره من الأدباء بقوله : ‘ كان الهمذاني مقبول الصورة ، خفيف الروح حسن العشرة ، عظيم الخلق شريف النفس . وكان طموحا تواقا إلى المجد مغترا بعبقريته ، ولكنه كان شخصية فذة في أدبنا العربي لدرجة أن لقّبه معاصروه ببديع الزمان ‘ .
وقال عنه أبو الحسن البيهقي : ‘ كان بديع الزمان يحفظ خمسين بيتا بسماع واحد ، ويؤديها من أولها إلى آخرها ، وينظر في كتاب نظرا خفيفا ويحفظ أوراقا ويؤديها من أولها إلى آخرها ‘ .
تعهد أبوه بتعليمه وتربيته ، فتلقى العلم من كبار علماء بلدته ، فانعكف على الدراسة ونشد سبل النجاح والتميز ، فأحب الأدب ، وعشق لغة الضاد ، فوهبته أسرارها ، ومنحته سحر مكنوناتها ، وتذكرني همة بديع الزمان بالأديب الكبيرالجاحظ الذي عاش ومات وسط الكتب .
طموح بديع الزمان الهمذاني
كغيره من أصحاب العُلا ، وطالبي المجد ، قرر بديع الزمان أن يسافر إلى البلدان والأمصار ، ليكتسب مزيدا من العلم ، وينشر بالمقابل اسمه ، ويثبت مكانته أمام أدباء جيله وعباقرتهم .
فكان يقصد الولاة وأصحاب السلطان ممن يكرمون الأدباء ويحفظون قدرهم ، وأثناء ذلك كان يتعرض إلى نهب اللصوص وقطاع الطرق ، إلى أن وصل إلى نيسابور وهناك التقى بكبير أدباء عصره ، أبا بكر الخوارزمي ، فناظره في مناظرة مشهورة برع فيها بديع الزمان أيما براعة ، وبذل فيها كل مهارة وتفنن في أساليب الحجج والإقناع ، وذلك بدهاء وذكاء شديد .
ومن هنا كانت النقلة الكبيرة لبديع الزمان ، والتحول الكبير في حياته ، حيث بلغت شهرته الآفاق ، وأصبح حديث عامة الناس وخاصتهم ، عندها ألّف ذلك السحر الأدبي العجيب ، والتي ارتبطت باسمه وكان له الفضل في شهرتها : المقامات .
تعريف المقامة لغة واصطلاحا
المقامة لغة تعني المجلس أو ما يكون فيه من الناس ، فتقدم موعظة أو قصة أو محاضرة .
أما اصطلاحا فهي فن أدبي أشبه بالقصة القصيرة ، ظهر على يد بديع الزمان الهمذاني ، فأرسى دعائمه ، ورسّخ قواعده ، إذ بالرغم من اختلاف المؤرخين في أصل فن المقامة والذي كان مبهما وضئيل الصورة ، إلا أنهم يتفقون على أن بديع الزمان هو مبدعها .
وفي ذلك يقول العالم المؤرخ القلقشندي : ‘ إن أول من فتح باب عمل المقامات علّامة الدهر ، وإمام الأدب البديع الهمذاني ‘ .
خصائص المقامة
تمتاز المقامة وتعرف بخصائص شكلية نوردها كالتالي :
– المقامة حديث قصير مسجع الأسلوب يلقي به أديب شحاذ متجول ، يخاطب به الجماهير المتحلقة حوله ، موضوع هذا الحديث يتنوع بين النقد الأدبي ، أو الموعظة الأخلاقية ، يتخذه صاحبه وسيلة للكدية ( التسول ) ، واستجداء جيوب مستمعيه ، ويبرع هذا الرجل في شتى أساليب الحيل والخداع للوصول إلى مبتغاه .
– للمقامة بطل وهمي يدعى أبو الفتح الإسكندري ، وراوية وهمي أيضا يدعىعيسى بن هشام .
والسبب الحقيقي في تأليف بديع الزمان لهذه الكنوز هو تلقين تلامذته لفنون اللغة العربية وآدابها ، فأراد أن يبتكر لهم أسلوبا غريبا بديعا يتخذ موضوعات وقصص مشوقة ، تحبب لهم الدراسة ، وتجعلهم يعيشون حلاوة وسحر البيان ، وبالمقابل وجد فيها بديع الزمان متعة ومتنفسا يفجّر فيه إبداعه وعبقريته اللغوية ، فكان من زعماء حركة البديع والتصنع بامتياز .
وفي ذلك يقول الدكتور شوقي ضيف : ‘ ….فكل الذي قصده أن يضع تحت أعين تلاميذه مجاميع من أساليب اللغة العربية المنمقة ، كي يقتدروا على صناعتها ، وحتى يتيح لهم أن يتفوقوا في كتاباتهم الأدبية .
ووضع ذلك في صور قصصية ، يكون فيها حوار محدود ، ويكون فيها ما يشوق ويجذب الناشئة للاطلاع على ما يؤلفه ويصوغه . واختار البطل أديبا شحاذا ليتم له التشويق ‘ .
مقامات بديع الزمان الهمذاني : عددها – موضوعاتها
بلغ عدد مقامات بديع الزمان الهمذاني 51 مقامة طبعت في الآستانة ( اسطنبول ) ، ثم بيروت ، وعنى بشرحها الشيخ العلّامة محمد عبده .
موضوعاتها
كما أشرنا سابقا فقد كان هدف بديع الزمان من ابتكار مقاماته تعليميا وفنيا خالصا ، لذا فإن القارئ والمطلع على هذه المقامات ، سينبهر ويعجب من كثرة الألفاظ الغريبة ، والمحسنات البديعية ، وذلك في خط سير يتميز بسلاسة في السجع ، وتناغم في حركات الجمل ، فتتراقص الكلمات على إيقاع البديع ، وتتغنى الألفاظ بعذب الأشعار .
من هو عيسى بن هشام ؟
هو راوية مقامات الهمذاني ، ويظهر كرجل تجارة واسع الحيلة ، كثير السفر والترحال ، وقد اكتسب من ذلك تجارب عدة .
من هو أبو الفتح الاسكندري ؟
هو بطل مقامات الهمذاني وهو رجل داهية يمتلك علما وثقافة واسعة ، اتخذ من التسول والاستجداء حرفة له ، والذي حمله على هذا هو قسوة الدهر عليه ، وبأن أدبه وعلمه لم يكسبه مالا ، فاحتال له بكل ذكاء ومهارة ليجعل منه وسيلة كسب وعيش .
ونجد أبا الفتح في مقاماته يلعب ويجسد عدة أدوار ، فتارة هو إمام كبير ، ومرة هو قاض وأمير ، ومرة هو مشعوذ ينصب على الناس مستغلا سذاجتهم وجهلهم ، متخذا من مذهب ميكافيلي ‘ الغاية تبرر الوسيلة ‘ طريقا له ، وفي ذلك يقول :
ويحك هذا الزمان زور فلا يغرّنك الغرور
لا تلتزم حالة ولكن در بالليالي كما تدور
من مقامات بديع الزمان الهمذاني
كما أشرنا سابقا ، فالمقامة تجسد قصة – بالأحرى حدوثة – تنتهي إلى غرض مادي وهو الكدية واستجداء الناس ، لكنه استجداء بارع في الدهاء وسعة الحيلة ، فبطل المقامة أبو الفتح الإسكندري اتخذ من حرفة الأدب وعلومه ، وسيلة لإبهار الناس ، والدجل عليهم .
– في المقامة الخمرية يلعب أبو الفتح دور الإمام والناسك ، فيصلي بالناس ويدعوهم إلى اجتناب أم الكبائر ( الخمر ) .
– في المقامة القزوينية يتنكر في زي الغزاة المجاهدين ، فيخطب في الناس ويحثهم على الروم .
– في المقامة القردية يلعب دور قرّاد برقص قرده ويضحك الناس .
– في المقامة الموصلية يلعب دور دجّال يدّعي إحياء الموتى وكشف الضر والبلاء .
– في المقامة القريضية يتخذ دور الأديب البارع الذي يحكم في الشعر وأصحابه .
– في المقامة المضيرية يبرع في وصف وليمة انتهت بما لم يحمد عقباه .
– أما في المقامة الدينارية – الأفضل عندي – فستضحك وتنبهر للكم الهائل من ألفاظ السخرية والهجاء .
مؤلفات بديع الزمان الهمذاني
خلّف بديع الزمان ديوانا ومجموعة من الرسائل المتفرقة ، لكن أهم ما تركه هو مقاماته الثمينة ، التي زيّنت جدائل بنت عدنان ، بورود جميلة من الكلمات البديعة ، الغارقة في السجع والبيان .
وفاة بديع الزمان الهمذاني
كانت هراة ( بلدة بأفغانستان ) آخر بلد يستقر فيه بديع الزمان ، حيث التقى هناك بأحد كبار أشرافها ويدعى الحسين بن محمد الخشنامي ، فصاهره ، وقدم له العون فاقتنى ضياعا وأراضي مكّنته من عيش رغيد وحياة هنيئة ، إلى أن انتقل إلى جوار ربه وهو في سن الأربعين سنة 1007 م .
سبحان الله فالجاحظ عاش تقريبا ضعف عمر بديع الزمان ، عاش الأول زمنا طويلا فكثرت عليه الأمراض فمات وسط كتبه ، وعاش الثاني في يسر وصفاء ، لكن شاءت يد المنون أن تأخذه وهو في عز شبابه وعطائه .
تلك إذن كانت حكاية أسطورة من أساطير الأدب العربي ، رجل حين تقرأ عنه تفتخر أنك من أمة تمتلك لغة من أعظم اللغات مكانة وعراقة ، وعلماء – بل كواكب ونجوم – زيّنت سماء العلم والأدب فبلغنا أعالي المجد ، ولعل الزمان قد رمانا اليوم إلى حضيض الجهل والتخلف ، لكن لن نركن إلى الحائط نبكي ماضينا المجيد ، بل سنجتهد ما استطعنا لنكتسب هِممهم ، وحسبكم مني أنا خادمكم صاحب موقع أنا البحر أني أطمح لكي أكون بارعا في الأدب وعلومه كقدوتي بديع الزمان ، وكذلك الجاحظ .
مراجع :
– تاريخ الأدب العربي ( حنا الفاخوري ) .
– المقامة ( شوقي ضيف ) .