عيسى جابلي
ولد الدكتور طيب تيزيني في مدينة حمص السورية سنة 1934، وفيها قضى طفولته وتعلم دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية. ثم انتقل إلى تركيا ليبدأ رحلته مع دراسة الفلسفة. وغادرها إلى بريطانيا ثم إلى ألمانيا، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1967 عن أطروحة بعنوان “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة”، وهو بحث نشر بالألمانية عام 1972، كما حصل على الدكتوراه في العلوم الفلسفية سنة 1973.
بني الفكر الفلسفي عند طيب تيزيني على فكرة مركزية انبثق منها مشروعه الفكري مفادها أن الفكر العربي، بما في ذلك فكر ما قبل الإسلام، هو مرحلة تندرج في سيرورة الفكر الإنساني الأشمل، وذلك يقتضي نتيجتين بالأساس: أولاهما أنه فكر يمكن إخضاعه إلى المنهج الجدلي المادي كسائر الفكر البشري، والثانية هي الرفض القاطع لفكرة المركزية الأوروبية التي جردت الفكر العربي من كل سماته الخصوصية المميزة له، واعتبرته مجرد فكر ناقل للفكر اليوناني القديم. وهذا ظاهر في تحقيب الدكتور تيزيني للفكر البشري عامة إلى ثلاثة أدوار/عصور: قديم ووسيط وحديث، ونزل الفكر العربي والإسلامي ضمن المرحلة الوسطى. وهذه الفكرة تؤسس ضمناً إلى إمكانية استئناف الفكر العربي بوصفه مواصلة لتطور الفكر الإنساني الحديث.
يدعو الدكتور تيزيني إلى إعادة قراءة الفكر العربي منزلاً في إطار الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجته اعتماداً على المنهج المادي الجدلي، لإثبات تاريخية هذا الفكر والعدول عن اعتباره فكراً جامداً محنطاً، كما يذهب إلى ذلك الفكر البنيوي القائم على الثبات الذي يصدر أحكاماً غير تاريخية على العقل العربي ويدفع، عن وعي أو عن غير وعي إلى التخلي عن فكرة النهضة بوصفها لحظة قائمة ضمن مسار تاريخي متحول. وينسحب هذا على قراءة النص القرآني نفسه لحل إشكالية العلاقة بين فكر النهضة القائم على العقل وفكر الذات القائم على النقل. يقول: “إن الفكر العربي، بأنساقه المستنيرة، مدعو إلى خوض اختبار عميق ومركب ومعقد يتمثل باكتشاف الطريقة الحقيقية للمزاوجة بين الواقع العربي المشخص وأكثر المناهج المعاصرة نجاعة في بعديها المعرفي والأيديولوجي، وذلك بعيداً عن هوس الإنجاز المتسرع واللاهث وراء نتائج قطعية وتامة. ونحن نرى أن مثل هذا الطموح لا يستطيع – في كل الأحوال – أن يتجاوز اللحظة الجوهرية في منهج التجاوز والتخطي ذاك المنهج المادي الجدلي التاريخي”. ويضيف موضحاً منهجه: “إن المنهجية الجدلية المادية التاريخية، بعناصرها البنيوية والوظيفية، تمتلك – في رأينا – الاحتمالات الأكثر رحابة باتجاه اكتشاف الحقيقة في وحدتها الجدلية الإبستيمولوجية والأيديولوجية. ولكن التحقق من ذلك مرتهن بالفعل العلمي وبما يخترقه من أبعاد وسمات اجتماعية وسياسية وثقافية”.
ويوضح الدكتور تيزيني أهمية المنهج التاريخي للفكر العربي، مقارنة بالنظريات اللاتاريخية مثل البنيوية والوظيفية، في مقدمة “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي”: “إن تشكيل وتطوير نظريات وفرضيات ومقولات ومفاهيم علمية لا يمكن أن يستجيب لمستلزمات الدقة العلمية، انطلاقاً من البناء المنطقي لهذه النظريات والفرضيات والمقولات والمفاهيم فقط. إن عملية التشكيل والتطوير تلك ينبغي، استجابة لذلك المبدأ العلمي، أن تردف وتعمق من خلال بحث تلك الركائز العلمية في تاريخيتها. بكلمة أخرى، إن المنطق ينبغي أن يرى ويمارس في تاريخه، والتاريخ في منطقه، وذلك بشكل عضوي وثيق. فاللحظة المنطقية الجدلية في مفهوم ما يمكن استنطاقها واستخراجها بشكل أدق وأكثر شمولية، حين تبحث في وحدتها العميقة مع تاريخها؛ أي مع تاريخ المفهوم نفسه”. ويتابع: “إن الأهمية الكبيرة لهذه المسألة تظهر بشكل خاص في الوقت الراهن بالنسبة إلى قضايا جديدة في العلوم الطبيعية والتكنولوجية والاجتماعية. فليس من النادر أن نلقى آراء ونظريات تعالج بعض المفاهيم، مثل “البنية” أو “الشكل” أو “النظام” أو “التقدم”، وذلك انطلاقاً من اعتبارات تتعلق بمستوى تطور هذه المفاهيم الراهن فقط، ولكن من خلال ذلك يهمل جانب أساسي مهم من جوانب تلك المفاهيم. أن التاريخ والمنطق يكملان بعضها في وحدة جدلية، وهذا يعني أن أحدهما لا ينفي أو يستنفد الآخر. فبغض النظر عن الأولوية الوجودية (الأنطولوجية) للتاريخ، فإن كليهما جوهري من أجل وضع وتطوير مفاهيم علمية فلسفية ما. ولكن هذه المساواة في الجوهرية والأهمية لا تعني، بطبيعة الحال، إغماض العين تلقاء الحالة العيانية الخاصة التي يمكن أن تعرض لنا، بما فيها من تعقيدات وبما لها من جوانب جوهرية وأخرى ثانوية. (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، ص. 6)
وفي هذا الإطار المنهجي التاريخي، وبخصوص علاقة الفكر العربي بالفكر اليوناني، يجب قراءة الفكر العربي الإسلامي، باعتباره جزءاً من تاريخ الفكر الإنساني له سماته الخاصة، وبالتالي لا يجب تصوره كامتداد للفكر اليوناني، كما يفعل الكثير من المفكرين، ويعبر عن ذلك كما يلي: “ونحن حين نحاول هنا دراسة الفكر الفلسفي المادي لدى الفلاسفة العرب الإسلاميين في العصر الوسيط في علاقاته الوثيقة قليلاً أو كثيراً بالفكر الفلسفي اليوناني، فإننا لا نعمل على إقحام ذلك الفكر العربي الإسلامي ضمن إطار تلك المنهجية إقحاماً ولا على تطويعه لها بشكل تعسفي، ذلك أن مثل هذا الأمر لا يعدو أن يكون عملية هجينة غريبة عن العلم التاريخي والفلسفي. على عكس ذلك، نحن نطمح هنا إلى أن نبحث تاريخ الفكر ذاك من خلال منظار جديد يؤكد في الخط الأول على وحدة التاريخ الإنساني وعلى عملية النمو الذاتي لهذا التاريخ، وبالتالي على كون المنهجية العلمية المعاصرة قادرة على تمثل التاريخ ذاك واستيعابه بشكل أعمق وأكثر غنى ودقة مما فعلته المنهجيات السابقة التي تكونت ضمن هذا التاريخ. (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، ص. 7)
أما عن فكرة المركزية الأوروبية، فيقول في نقدها ودحضها: “والآن، إذا أردنا أن نستوعب الخطوط الأساسية لتاريخ الإنسانية الفكري الثقافي، فإن دراسة وتقصي المكتسبات العربية -الإسلامية الوسيطة في هذا الحقل الفكري تشكل شيئاً جوهرياً. هذه الحقيقة التاريخية تتناقض على نحو واضح مع الآراء ووجهات النظر اللاعلمية حول تاريخ الفكر الإنساني.
في طليعة هذه الآراء تحتل نظرية “المركزية الأوروبية” مكاناً مرموقاً، أما ممثلو هذه النظرية فهم كثير ولكنهم جميعا يلتقون في نقطة مركزية: إنهم يفهمون التاريخ الإنساني الفكري (والحضاري عموماً) على أنه تاريخ للفكر “الأوروبي” بدءاً بالعهد اليوناني القديم، ومروراً بعصر النهضة والتنوير، ومنتهياً بالعصر الحديث والمعاصر. إن هذه الرؤية لمسيرة الفكر الإنساني التاريخية يمكن تحديدها بكونها: عنصرية رجعية، ولا علمية مناهضة للنتائج التاريخية العيانية التي تحققت في هذا الحقل”. (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، ص. 405).
غير أن التطورات التاريخية إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم وحدها، جعلت الدكتور تيزيني يقوم بمراجعة جذرية لمشروعه. ويفسر ذلك في أحد حواراته قائلاً: “هل ما زال هذا العنوان (عنوان كتابه “من التراث إلى الثورة” 1976) صالحاً بعدما تفككت أفكار كثيرة وتفكك الاتحاد السوفييتي، والأفكار التي كانت مهيمنة في ذلك الحين على فكر تقدمي مهيمن في الساحة العربية؟ بعد رصد ما حدث والتطورات المتلاحقة وضعت يدي على مسألة أظن الآن أنها كانت، بالنسبة إليّ، مدخلاً لاكتشاف ما عليّ أن أنجزه مجدداً: فكلمة «الثورة» الواردة في العنوان لم تعد ذات وجود، بصرف النظر عن التسويغات التي يمكن أن تقدم. لغة العصر لم تعد تتسع لهذه الكلمة”. ويتابع: “حامل المشروع الجديد، النهضوي، لا يمكن الآن إلا أن يكون تحالفاً طبقياً أو سياسياً يضم كل فئات المجتمع. العالم اختلف كثيراً، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وبروز عالم جديد تقوده الولايات المتحدة وحدها. وتبين لي من موقع علم الاجتماع السياسي أن الحامل الحقيقي الاجتماعي لمشروع نهضوي ما يتمثل في الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها. وبتحديد أيديولوجي أكثر، وجدت أن الحامل الاجتماعي لأي مشروع مستقبلي يتمثل في مروحة تنطلق من أقصى اليمين القومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني. أخذت ألاحق هذه المسألة السوسيولوجية الثقافية والسياسية ليتبين لي أن حديثنا عن «المشروع الثوري»، ليس مضللاً فقط، بل هو خطير أيضاً، وهكذا انتقلت إلى الموقف الجديد، وفكرت في أن أعيد النظر في مشروعي النظري القديم… وأصيغه حتى في عنوان جديد، معيداً بناء ما يتعين عليَّ بناءه… ثم تركته جانباً، لأصيغ بدلاً منه مشروعاً آخر تماماً، عنوانه «من التراث إلى النهضة»”.
للدكتور طيب تيزيني مؤلفات كثيرة بث فيها مشروعه النهضوي ومن أهمها:
– مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق – دمشق 1971، خمس طبعات.
– حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث، الوطن العربي نموذجاً، دار دمشق، دمشق 1971، ثلاث طبعات.
– من التراث إلى الثورة – حول نظرية مقترحة في التراث العربي، دار ابن خلدون، بيروت، 1976، ثلاث طبعات.
– روجيه غارودي بعد الصمت، دار ابن خلدون، بيروت، 1973
– في ما بين الفلسفة والتراث، المؤلف نفسه، 1980
– تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطة، بالاشتراك مع غسان فينانس، جامعة دمشق، 1981
– التفكير الاجتماعي والسياسي: أبحاث في الفكر العربي الحديث والمعاصر، جامعة دمشق، 1981
– مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة، 12 جزءاً، دار دمشق، 1982
– الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، مشروع رؤية جديدة للفكر، الجزء الثاني – دار دمشق، دمشق 1982
– من يهوه إلى الله ( في مجلدين)، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الثالث، دار دمشق، دمشق 1985
– دراسات في الفكر الفلسفي في الشرق القديم، جامعة دمشق، 1988
– ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح انطون / تأليف فرح أنطون؛ تقديم طيب تيزيني، دار الفارابي، بيروت، 1988
– في السجال الفكري الراهن: حول بعض قضايا التراث العربي، منهج وتطبيق، دار الفكر الجديد، بيروت، 1989
– على طريق الوضوح المنهجي – كتابات في الفلسفة والفكر العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989
– فصول في الفكر السياسي العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989، طبعتين.
– مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأةً وتأسيساً، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الرابع، دار دمشق، دمشق 1994
– من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية، دار الذاكرة، حمص 1996.
– النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الخامس – دار الينابيع، دمشق 1997
– من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، دمشق، 2001
– من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 2005
– من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، 2002
– بيان في النهضة والتنوير العربي، دار الفارابي، 2005