مجزوءة الأخلاق: المفاهيم و المواقف الفلسفية
المفهوم الأول: الواجب
مفهوم الواجب : يتحدد الفعل الإنساني بأنه فعل أخلاقي قاصد ومُسَدَّد، من حيث إنه مبني على نوع من "الوعي" الذي يجعل الإنسان يأتي أفعاله ليس من منطلق الدافع الغريزي أو الرغبة العفوية، وإنما بناء على التمييز بين الوسائل والغايات بالنسبة إلى نوع من المقاصد الصالحة التي تُوجِب عليه أن يسلكـ بكيفية معينة دون غيرها. من هنا يُطرح موضوع "الواجب" كمجال يتعلق بالفعل الإنساني في تميزه عن الفعل الحيواني والآلي وفي ارتباطه بمختلف حاجات الحياة الإنسانية ؛ وذلكـ في المدى الذي يُعَدُّ "الواجب" قائما على نوع من الإكراه أو الإلزام الذي ينبغي تحديد طبيعته وأسبابه وآثاره.
الوضعية-المشكلة : كثيرا ما يقوم الإنسان بأفعاله من منطلق أنه لا يفعل شيئا آخر سوى أنه يقوم بما يجب عليه فعله. وهذا ما يُسمى "الواجب" الذي قد يكون أخلاقيا أو قانونيا أو وطنيا أو مِهْنيا. فكيف يتحدد "الواجب" في طبيعته الخاصة التي تجعله يقود الشخص إلى إنجاز أفعاله؟ ما علاقته بـ"الإرادة" و"الوعي"؟ هل الإكراه الموجود في الواجب قائم على التزام داخلي/ذاتي أم أنه يرجع إلى سلطة خارجية هي التي تُلزِم الإرادة بالفعل؟ كيف يتحدد الوعي الأخلاقي في علاقته بـ"الضمير" و"المجتمع"؟ هل يدل "الواجب" على نداء الضمير الإنساني في تميزه وسُمُوِّه أم أنه ليس سوى انعكاس محدد وخاص لضرورة الوجود الاجتماعي بكل شروطه وإكراهاته؟
1- الواجب والإكراه
الإشكالية: هل يصدر "الواجب" عن إرادة فاعلة وحرة أم أنه فِعلٌ تحكمه الضرورة والإكراه؟
المواقف
+ دافيد هيوم:يرى أن الواجبات الأخلاقية تنقسم إلى نوعين: نوع أول يُمثِّل كل الواجبات التي تدفع إليها الغريزة الطبيعية أو الميل المباشر، وهو نوع لا يبدو فيه أي شعور بالإلزام أو أي اعتبار لمنفعة عامة أو خاصة (مثلا: حب الأطفال، شكر المُحسنين، العطف على المُعوِزين) ؛ ونوع ثانٍ يصدر فيه الواجب عن إلزام يرتبط بضرورات المجتمع البشري، حيث إن التخلي عنه تترتب عنه استحالة استمرار الحياة الاجتماعية للإنسان (مثلا: العدالة كاحترام لملكية الآخرين، والإخلاص كاحترام للوعود). وهكذا، فالإكراه الموجود في "الواجب" يرجع إما إلى ضرورة طبيعية وإما إلى ضرورة اجتماعية (عقلية).
+ كانط : يؤكد أن أساس "الواجب" يتمثل في "الإرادة الخيرة" (أو "الإرادة الطيبة") التي تتميز بنوع من "الاستقلال الذاتي" الذي يجعلها قدرة على التشريع لنفسها بعيدا عن كل الإكراهات الخارجية. فالإنسان ذات واعية وعاقلة على نحو يُمَكِّنه من أن يأتي أفعاله على أساس "الإرادة"، كإرادة مستقلة وحرة لها القدرة على وضع وإصدار الأوامر التي تدفع إلى الفعل. وهذا ما يُسميه كانط "الأمر المطلق" باعتباره أمرا تُلْقِي به الذات إلى نفسها كأمر غير مقيد وغير مشروط بأي رغبة أو غرض، حيث إن الذات تتلقاه من نفسها فتنهض للقيام بالواجب بدافع الفضيلة في تجردها وتنزهها عن كل الغايات، اللهم إلا الفضيلة كغاية في ذاتها.
+ إميل دوركايم: يذهب إلى أن "الواجب الأخلاقي" يتسم بصفتين أساسيتين: فهو ذو طابع إلزامي ، كما أنه يُعتبر في الوقت نفسه مرغوبا فيه كشيء خَيِّر أو طَيِّب. فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بعمل ما فقط لأنه مطلوب منه فعلُه أو مأمور به، بل إنه «من المستحيل نفسيا أن نسعى نحو تحقيق هدف نجد في نفوسنا فُتُورًا تجاهه، بحيث لا يبدو لنا خَيِّرا أو طَيِّبا، أو لا يُحركـ فينا أي إحساس». لذا فإن "الواجب الأخلاقي" ليس فقط شيئا مُلْزِما، وإنما هو أيضا شيء مرغوب فيه. وكلتا الصفتين ترجعان إلى كون "الواجب" يستند إلى المجتمع كسلطة أخلاقية تتعالى على إرادات الأفراد، حيث إن القيم الأخلاقية تُعَدُّ قيما حضارية وثقافية، وكل من الحضارة والثقافة يُشكِّل نظاما اجتماعيا وتاريخيا يتجاوز الإرادة الفردية. ومن حيث إن الأفراد يجدون أنفسهم قد خضعوا لـ"التنشئة الاجتماعية"، كعملية تسهر على نقل القيم الحضارية والثقافية القائمة في المجتمع الذي يكونون أعضاء فيه، فإنهم يجدون أنفسهم وقد تلقوا داخلهم تلكـ القيم على شكل معايير أخلاقية تُحدِّد ما هو خير وما هو واجب، على نحو يجعلهم يقومون بـ"الواجب" بدافع من الإلزام الذي تمثله سلطة المجتمع وبدافع من "المرغوبية" التي تُميِّز القيم الأخلاقية كقيم تُكوِّن هوية الأفراد كأعضاء تَتِمُّ تربيتُهم ضمن ثقافة معينة. وهكذا، فإن دوركايم يرى أن الأمر الأخلاقي عند كنط في قطعيته وإطلاقيته ليس سوى مظهر من مظاهر الواقع الأخلاقي الذي يتصف في آن واحد بـ"الإلزامية" و"المرغوبية" بفعل كونه خاضعا للمجتمع كسلطة أخلاقية تفرض نفسها على ذوات الأفراد.
2- الوعي الأخلاقي
الإشكالية: ما علاقة "الواجب" بـ"الوعي الأخلاقي"؟ هل يقوم "الواجب" على "الوعي الأخلاقي" كضمير أو حس ذاتي وداخلي أم أنه يقوم على مُحدِّدات خارجية وموضوعية متصلة بالواقع الاجتماعي؟
المواقف
+ مِسكويه: يرى أن "الخُلُق" حَالٌ للنفس تدعوها إلى القيام بأفعالها من دون تأمل أو تفكر، مما يؤكد صلة الأخلاق بالممارسة العملية. والخُلُق، كحالة نفسية، نوعان: "طبع" أو "مزاج" يُعَدُّ ميلا أو نزوعا طبيعيا إلى الفعل ؛ و"عادة" تقوم على التأديب والتدريب حتى تصير مَلَكَة راسخة في النفس فتكون "طبيعة ثانية". ومن المؤكد أن الأخلاق ليست طبيعية بإطلاق وليست غير طبيعية (أو اجتماعية) بإطلاق. فالإنسان نفس ناطقة/عاقلة وقابلة للتأديب والتربية، مما يجعل أفعاله موضوعا للاكتمال والتهذيب من خلال السياسة والتربية. ومن هنا، يأتي تفاوت مراتب الناس في الأخلاق، ليس فقط بفعل اختلاف طِبَاعهم، وإنما أيضا بحسب اختلاف عاداتهم من جهة مدى خضوعهم للتأديب والتقويم الذي ينقلهم من حال الهمج المُهملين إلى حال أُناس تم ترويضهم حتى صاروا فضلاء وأخيارا.
+ فرانز برونتانو: يذهب إلى أن الإنسان، بما هو كائن حي يعيش ضمن مجتمع، يتلقى التربية من خلال مرافقته للآخرين، على نحو يجعله يُواجِه دائما أوامر تَحُثُّه على القيام بأفعال معينة، مما يُؤدي إلى نشوء علاقة وثيقة بين نمط معين من الفعل وفكرة الالتزام كما تتجسد في "الواجب الأخلاقي". وهكذا فإن "الوعي الأخلاقي" ليس سوى تَمَثُّل أو استيعاب للقوة التي تتحكم في المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد والذي يتجاوزهم بما هم أفراد بحيث يكون قوة مُلْزِمة لهم على مستوى أفعالهم التي تصبح صادرة عن قواعد يُمليها عليهم "الوعي الأخلاقي" كسلطة تفرض نفسها بنفس القوة أو الضرورة التي تُميز الأشياء الطبيعية أو الاستنتاجات المنطقية.
+ سيغموند فرويد: يرى أن "الوعي الأخلاقي"، بما هو قوة دافعة أو سلطة آمرة وناهية، يُعتبر وظيفة من وظائف الجهاز النفسي للإنسان في ارتباطه وتفاعله، على نحو متوتر ومتناقض، مع الواقع الخارجي (الطبيعي والاجتماعي معا). فـ"الأنا الأعلى" هيئةٌ نفسيةٌ تُمَارس الرقابة على أفعال ومقاصد "الأنا"، من حيث إنه يمثل مجموع القيم والمعايير المتعلقة بثقافة معينة ضمن مجتمع معين، وذلكـ في المدى الذي تنتقل إلى الأفراد عبر التنشئة والتربية فيتمثلونها داخل أنفسهم على نحو يجعلها معايير أخلاقية (غير خاضعة للوعي في غالب الأحيان) تتحكم في سلوكهم وتُعَبِّر عن "ضمير أخلاقي" يتجلى في الوظيفة النفسية لـ"الأنا الأعلى" كهيئة مُكَوِّنة للبنية النفسية إلى جانب "الهو" و"الأنا".
+ هانز كيتشتاينر: يؤكد أن "الوعي الأخلاقي"، في ارتباطه بالواقع الاجتماعي، يُعَدُّ وعيا تاريخيا يتعلق بالطريقة التي يُؤَطِّر بها مجتمع ما أفراده تربويا، وهي طريقة خاضعة للإصلاح والتطوير. لذا فإن "الوعي الأخلاقي" له تاريخ يكشف عن تَكوُّنه وتطوره، خصوصا في العصر الحديث. فأخلاق الواجب، كما بناها كنط (أوامر قطعية ومطلقة)، لا يمكن فهمها إلا من خلال تاريخ الإصلاح الديني في نهاية عصر النهضة وقيام الطبقة البورجوازية بأوروبا، حيث تم الانتقال من تبرير الأفعال أمام السلطة الخارجية والمتعالية (الإلاهية أو الأبوية) إلى المسؤولية الشخصية عن الأفعال كمسؤولية تتحدد اجتماعيا وتاريخيا، مما يُؤكِّد أن "الوعي الأخلاقي" جزء لا يتجزأ من بنية وعي اجتماعي وتاريخي يتسم بالانفتاح والتطور، ومن ثم التغير والنسبية.
3- الواجب والمجتمع
الإشكالية: ما علاقة "الواجب" بالمجتمع؟ هل "الواجب" قائم على الضمير الفردي في وحدته واستقلاله أم أنه مرتبط بالمجتمع في خضوعه للتعدد والتغير؟
المواقف
+ هنري برغسون: يرى أن "الواجب" كسلطة إلزامية يرتبط بِتَعوُّد الاستماع للآباء والمعلمين الذين لا يصدرون في أوامرهم عن أنفسهم وإنما عن سلطة المجتمع التي ينوبون عنها والتي تُعطي لوضعيتهم قوة الإلزام. وأهمية المجتمع الأخلاقية شبيهةٌ بالجهاز العضوي الذي ترتبط خلاياه على نحو ضروري وتراتبي يُمَكِّن من استمرار الكائن الحي. فالمجتمع في قيامه على إرادات منتظمة بواسطة الواجب الأخلاقي تلعب فيه العادة دور الضرورة التي تخضع لها الكائنات الطبيعية، وذلكـ بشكل يجعل الحياة الاجتماعية تبدو كنسق من العادات الراسخة التي تستجيب بالضرورة لحاجات الجماعة، مما يجعل الأخلاق وثيقة الصلة بعادات الناس في مجتمعاتهم الخاصة.
+ إنغلز: يرى أن ارتباط القيم الأخلاقية بالتطور الاقتصادي والاجتماعي، يؤدي إلى النظر إلى "الواجب الأخلاقي" ليس كقانون كلي وخالد يعلو على التاريخ والمجتمع، وإنما إلى اعتباره تجسيدا لنظام أخلاقي مرتبط بالصراع الطبقي في المجتمع وعبر التاريخ، حيث إن الأخلاق ليست سوى تبرير لمصالح الطبقة المسيطرة، كما أنها قد تكون أخلاق طبقة مضطهدة صاعدة تعلن ثورتها ضد الطبقة المهيمنة.
+ "ماكس ﭭـيبر" : يذهب إلى أن كل فعل موجه أخلاقيا يقوم على مبدإ أساسي، يكون إما مبدأ اقتناع وإما مبدأ مسؤولية، وهما مبدآن مُتباينان ومتعارضان. ومن هنا فإن موقف من يتصرف وفق المبدإ الأول يكون خاضعا لـ"أخلاق الاقتناع" كأخلاق تقوم على التوكل والقَدَرِيّة وتأكيد أهمية الإخلاص، وتقود من ثم إلى ربط النتائج بظروف العالم المحيط أو بمشيئة اللـه. وأما موقف من يتصرف تبعا للمبدإ الآخر، فإنه يتميز بتحديد المسؤولية بناء على النقائص البشرية والاستعداد لتحمل النتائج بصورة شخصية وبالخضوع للمحاسبة العمومية في المجتمع. ورغم هذا، فإن قيام الأخلاق على هذين المبدأين لا يؤدي إلى نفي المسؤولية عن "أخلاق الاقتناع"، ولا إلى نفي الاقتناع عن "أخلاق المسؤولية"، وإنما إلى تأكيد الاختلاف في كيفية التصرف وتَحَمُّل المسؤولية عن نتائج الفعل في كل منهما.
+ "جون راولز": يربط الواجب بالمجتمع من جهة أن هناكـ واجبا للتضامن بين الأجيال. إذ يبدو أن الأجيال اللاحقة تستفيد من عمل الأجيال السابقة دون أن تؤدي الثمن المناسب. ولهذا، فإنه إذا كان على الأجيال اللاحقة أن تستفيد من أعمال الأجيال السابقة، فإنها تصير مُلزَمة بواجب المساهمة في التوفير الذي يضمن نوعا من التراكم يُمَكِّن من حفظ حقوق الأجيال القادمة. وبالتالي فإن المجتمع مُطالَب بترسيخ مؤسسات عادلة تَكْفُل التمتع بالحريات الأساسية وتسمح بقيام المواطنين بواجبهم في التضامن مع الأجيال القادمة من خلال التوفير الذي يُتيحه نظامُ المجتمع كنظام للتعاون المُنصِف بين كل أعضائه.
المفهوم الثاني: السعادة
مفهوم السعادة : تُعتَبر "السعادة" مطلبا لكل الناس، فهي الغاية التي يعملون من أجل بلوغها. لكن سعي الناس نحو "السعادة" تَعُوقه عبقات شتى ليس أقلها تعدد تمثلاتهم حولها. إذ يربط معظمُ الناس "السعادة" بتحصيل اللذات المادية أو الحسية (المال، الوفرة، الصحة، القوة، السلطة، إلخ.)، في حين يرى بعضهم أن "السعادة" قائمة على تحقيق اللذة مطلقا كنوع من الإشباع أو الرضى المعنوي (طمأنينة النفس، الارتياح والسكينة، الابتهاج والسرور)، ثم هناكـ فئة تَعُدُّ "السعادة" مرتبطة بـ"الكمال" أو "الفضيلة" كغاية قُصوى للوجود الإنساني (الحقيقة، الخُلود، الجنة). ومن البَيِّن أن كل امرئ يُحدِّد "السعادة" من خلال ما ينقصه أو يفتقده في شخصه أو حياته، بحيث يظن أن تحقيق مطلبه هو وحده الذي سَيُمَكِّنُه من بلوغها. وعموما، فإن موضوع "السعادة" يرتبط بطرح مشكلة تحديد غايات معقولة للفعل الإنساني في هذا العالم، من حيث إن تحديد هذه الغايات يتعلق بإعطاء معنى لوجود الإنسان ضمن هذا العالم بشروطه المُحدِّدة، ومن ثم إعطاء معنى للعمل الإنساني نفسه من الناحية العقلية والأخلاقية.
الوضعية-المشكلة : تُعَدُّ "السعادة" مطلبا عاما لكل الناس أو لمعظمهم. لكن كيف يمكن تحديد معنى "السعادة"؟ هل هي مبدأ مُحَدِّدٌ لوجود الإنسان أم أنها غاية مُوَجِّهة لِأفعاله؟ هل تقوم على طلب اللذات المادية والحسية بالعمل على إشباع حاجات البدن أم أنها تتمثل في الوصول إلى إرضاء مطالب العقل أو الوجدان؟ كيف يمكن تحقيق "السعادة" عمليا؟ ما هي أنجع السبل للبحث عن السعادة؟ هل تحصل بالتأمل والاجتهاد أم أنها مسألة حظ وصدفة؟ هل هي مسألة شخصية وفردية أم أنها مسألة جماعية مرتبطة بتدبير شؤون المجتمع على نحو يُؤدي إلى نوع من التعاون والتضامن بين الناس؟ ما علاقة "السعادة" بـ"الواجب"؟ إلى أي حَدٍّ تُعَدُّ "السعادة" واجبا؟ وأي نوع من الواجب هي؟ هل هي واجب نظري مجرد أم أنها واجب عملي وأخلاقي؟ وهل هي واجب فردي وشخصي أم أنها واجب مدني وجماعي؟
1- تمثلات السعادة
الإشكالية: ما هو معنى "السعادة"؟ كيف يتمثل الناس "السعادة"؟ وما هو مدلولها عند الفلاسفة؟
المواقف
+ أفلاطون : يرى أن "السعادة" تتعلق بتدبير شؤون "المدينة" على نحو يجعل كل واحد ينصرف إلى أداء ما يجب عليه القيام به وفق مؤهلاته الطبيعية، مما يؤدي إلى انسجام فئات المجتمع، وهو الانسجام الذي على أساسه يتأتى انسجام أو اعتدال قُوَى النفس بحسب ما تقتضيه الفضيلة. ومن هنا فإن السعادة غاية تسعى إليها "المدينة" كمجتمع من الفئات والقُوى التي يُمكِن تحقيق التكامل والتضامن فيما بينها.
+ أرسطو: يذهب إلى أن "السعادة" غاية في ذاتها، فلا نطلبها كوسيلة تُمكِّنُنا من بلوغ شيء آخر، بل كل ما نبحث عنه لا نبتغيه في ذاته وإنما باعتباره خادما لغاية قُصوى هي "السعادة" التي تكتفي بذاتها فتجعل الحياة مكتملة ومرغوبا فيها. إن السعادة كخير أسمى تُشكِّل غاية لأفعالنا المتعلقة بممارسة التأمل العقلي وفق ما هو خير وجميل، أي وفق ما تقتضيه الفضيلة الخاصة بكل فعل. فما يُمَيِّز الإنسان عن الحيوان إنما هو كونه عاقلا على نحو يجعل فعله يتفق مع الفضيلة. وما دامت هناكـ فضائل عديدة، فإن فعل الإنسان لا يكون كاملا حتى يتفق مع أكمل فضيلة بحيث تتم الحياة وتكتمل في بلوغها أقصى غاية التي هي "السعادة".
+ مسكويه: يرى أن معظم الفلاسفة يُجْمِعُون على أن "السعادة" ترتبط بتحقيق الفضيلة على مستوى قُوى النفس، وهي فضائل أربع: الحكمة للقوة العقلية، العِفَّة للقوة الشهوية، العدالة للقوة العملية، والشجاعة للقوة الغضبية، بحيث لا يُحتاج بعدها إلى أي فضيلة من داخل البدن أو من خارجه، بل إن الإنسان إذا حَصَّل هذه الفضائل، فإنه لا يَضُرُّه أي نقص في بدنه أو في حاله سواء كان مرضا أو فقرا. لكن هناكـ بعض الفلاسفة (مثل الرواقيين وبعض الطبيعيين) الذين يجعلون البدن مُشاركا في تحصيل السعادة، حيث إن النفس لا تكتمل سعادتها إلا إذا شملت البدن وما يتعلق به. غير أن المُحقِّقِين من الفلاسفة يُؤكدون أن السعادة شيء ثابت غير زائل، وأنها أشرف الأمور وأكرمها، مما يجعلها مرتبطة بالنفس (العقل والفضيلة) ومنفصلة عن الحظ والبخت.
2- البحث عن السعادة
الإشكالية: هل "السعادة" ممكنة؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ هل هي مسألة حظ واتفاق أم أنها مرتبطة بالتدبير والاجتهاد؟ وهل يتم تحصيلها بشكل فردي أم بشكل جماعي؟ وإلى أي حدٍّ يمكن أن تتحقق سعادة البعض في غياب سعادة الآخرين؟
المواقف
+ أرسطو: يرى أن كون "السعادة" متعلقة بالكمال والفضيلة القُصوى يجعلها لا تُنال في يوم واحد أو في زمن قصير، تماما كما أن الخُطَّاف الوحيد لا يُنبِئُ عن قُدُوم فصل الربيع. ومن هنا فإن السعادة بحثٌ عن بلوغ الكمال بتحقيق كل الفضائل الممكنة، مما يجعلها تستغرق حياة الإنسان بكاملها.
+ سينيكا : يُلاحِظ أنه إذا كان كل الناس يبحثون عن "السعادة"، فإن الأمور مختلطة بخصوص كيفية السعي إليها. لذا لا بد من مُرشِد ومُعلِّم يُحدِّد كيفية السلوكـ إلى السعادة. إذ بدونه يستسلم المرء لاختلاط الأصوات واضطراب الآراء، مما يُؤدي إلى شدة التيه والضلال. فلا شيء أهم من عدم السلوكـ باتباع القطيع مُسايرةً لما يفعله معظمُ الناس، بل لا شيء أكثر تعاسة من الحياة بالتقليد والمُحاكاة. من هنا يجب العمل على الاستقلال عن عامة الناس باتباع العقل وحده.
+أبيقور: يذهب إلى أن اللذة تُمثِّل مبدأ الحياة السعيدة وغايتها، إنها الخير الأول والطبيعي الذي يُمكِّننا من إيجاد مبدإ أي اختيار أو رفض، ومن ثم الحكم على ما هو خير. لكن يجب ألا نختار أي لذة كيفما اتفق، بل لا بد من عدم الالتفات إلى اللذات التي يترتب عنها ألم أكبر أو غَـمٌّ، وبالتالي فإننا نُفضِّل كثيرا من الآلام التي يترتب عليها الإحساس باللذة بعد عذاب طويل. إن اللذة التي هي أساس السعادة ليست هي نفس اللذة عند عامة الناس الذين يطلبون إشباع شهواتهم ورغباتهم بكل الطرق، وإنما هي اللذة التي تجعل الجسد لا يتألم وتُمَكِّن من تجنب القلق والاضطراب على نحو يُؤدِّي إلى سكينة النفس وطمأنينتها (أتراكسيا ataraxia,). لذا فإن السعادة لا تتحقق إلا بناء على التفكير العقلي الذي يبحث عن دواعي أي اختيار أو رفض والذي يَنْبِذ الآراء التي تتسبب في الاضطراب والانزعاج على الدوام.
+ أرثور شوﭙـنهاور:يذهب إلى أن الواقع يُثبِت أن اللذة والإشباع لا نستطيع أن نعرفهما بطريق مباشر، إنهما سرعان ما ينقضيان ويتفلتان، مما يجعل السعادة سلبية ترتبط بالعذاب والألم والحرمان، حيث إن كل إشباع أو استمتاع ليس دائما، بل إنه ليس سوى انقطاع للألم والحرمان. ومن هنا فإن السعادة تقوم في خوض تجربة الألم المأساوي المرتبط بالحياة في هذا العالم باعتباره حقيقة كل نشاط إنساني (خصوصا في الفن والشعر).
3- السعادة والواجب
الإشكالية: ما علاقة السعادة بالواجب؟ هل السعادة واجب فردي أم جماعي؟ وهل هي واجب عملي وأخلاقي أم أنها واجب نظري مجرد؟
المواقف
+ إﭙـكتيت: يرى أن الأشياء التي نتحكم فيها وتتعلق بقدرتنا هي آراؤنا وحركاتنا ورغباتنا. وما يَجْلُب للناس الاضطراب والقلق ليس هو الأشياء في حد ذاتها، بل إنه آراؤهم عنها. فمثلا ليس الموت في ذاته شرا أو شيئا مُؤلما، وإنما الأمر في تصورنا عن الموت. لذا، فحينما نكون قَلِقين ومُضطربين، يجب علينا ألَّا نَتَّهِم أحدا غير أنفسنا، أي ينبغي أن نُراجع آراءنا، فهي مَكْمَن دائنا. وهكذا يؤكد إﭙـكتيت: «لا تطلب أبدا أن تَحْدُث الأشياء كما ترغب فيها، بل لِتَرْغَبْ في الأشياء كما تَحدُث فعلا، فبهذا ستكون سعيدا دائما.»
+ الموقف الصوفي: يذهب إلى أن "السعادة" تتمثل في القيام بـ"الواجب"، حيث إن طالب السعادة لا طريق أفضل أمامه سوى أن يسلكـ طريق الفضيلة الذي يُؤدي إلى تخلية النفس من الرذائل بواسطة الدخول في تجربة روحية عميقة تقوم على كثرة العبادات والمُجاهدات التي يتمكن بها السالكـ من الترقي في مراتب الكمال إلى أن تتحلى نفسه بصفات الأخلاق الحميدة، مما يجعله يَحْصُل على نوع من الرضى الذي لا يصحبه حُزن ولا ألم ولا غَمٌّ، بل هو السعادة بعينها.
+ إيمانويل كنط: يرى أن السعادة ليست شيئا آخر سوى القيام بالواجب كما يتمثل في الإرادة الخَيِّرة التي تعمل بمقتضى قانون أخلاقي كُلِّي يجعل الإنسان يسلكـ في تصرفاته وفق ما يُوجبه الالتزام بالفضيلة. ومن هنا فإن مجرد كون الإنسان جديرا بالسعادة كذات أخلاقية يُعَدُّ شيئا نافعا في ذاته، حتى لو لم يشتركـ بالفعل في السعادة، لأن التوجه الخالص إلى القيام بالواجب يُعتَبر، في صدوره عن الإرادة الخيرة، خيرا محضا لا قِوَام للسعادة بدونه.
المفهوم الثالث: الحرية
مفهوم الحرية : يُعتبَر الإنسان ذاتا واعية وفاعلة تتمتع بالإرادة والقدرة على الاختيار. إن قدرة الإنسان على الفعل هي التي تجعل إرادته حرة ومستقلة. من هنا تُطرح مشكلة "الحرية" في المجال الإنساني، ليس فقط كخاصية للإرادة بما هي قدرة على الاختيار من بين ممكنات متعددة، وإنما أيضا كشرط للفاعلية البشرية بشكل عام، حيث إن الإنسان يتحدد في تميزه عن الكائنات الأخرى بأنه ذات أخلاقية ومسؤولة، مما يقتضي أن يكون بالأساس ذاتا حرة ومستقلة عن كل الشروط والإكراهات التي يُمكن أن تَحُدَّ من إرادته فتجعله خاضعا أو تابعا. لكن التفكير في مسألة "الحرية" يقود إلى تَبَيُّن أن الأمر يتعلق بموضوع إشكالي من حيث إن الإنسان واقع بالضرورة تحت عدة إكراهات طبيعية ونفسية واجتماعية وتاريخية. من هنا يأتي طرح مفهوم "الحرية" بما هي "إرادة" و"اختيار" و"تلقائية" في مقابل "الحتمية" و"الضرورة" و"التبعية".
الوضعية-المشكلة: عموما يُنظَر إلى الإنسان كذات فاعلة وحرة بحيث يُعَدُّ مسؤولا عن أفعاله أخلاقيا وقانونيا. لكن الإنسان في الواقع لا يصير فاعلا إلا بعد مسار طويل من التكوُّن الفردي والنوعي ضمن عدد من الشروط التي تجعل فاعليته مُمكنةً. فكيف تتحدد "الحرية" بالنسبة إلى الإنسان؟ هل هي قدرةٌ على الفعل خارج كل إكراه وبعيدا عن كل ضرورة؟ هل الإنسان ذات حرة تأتي أفعالها بكل تلقائية وبقدرة كاملة على الاختيار أم أن الشروط الطبيعية والاجتماعية المُحدِّدة لِتكوُّن ووجود الإنسان تجعله فاعلية مشروطة ومحتومة؟ ما علاقة الحرية بالضرورة والحتمية؟ وكيف تتحدد "الإرادة"؟ هل هي قدرة مطلقة على الاختيار والفعل أم أنها إعادة إنتاج للظروف والحتميات؟ ما علاقة الحرية بالمجتمع والقانون؟ هل القانون تنظيم للفعل الجماعي على نحو يُؤدي إلى تحقيق عملي للحرية أم أنه تقييد وتقليص لفاعلية الإنسان؟
1- الحرية والحتمية
الإشكالية: هل تتحدد "الحرية" كـ"عفوية" و"تلقائية" تطبع الفعل الإنساني في تعارضه مع حركة الأشياء والكائنات الطبيعية التي تُعَدُّ خاضعة لنوع من "الضرورة" و"الحتمية" أم أنها تتحدد كوعي بـ"الحتمية" على أساسه يُمكن تحققُ الفعل الإنساني في توافقه مع الشروط الضرورية التي تحكمه وتُحدِّدُه؟
المواقف
+ إسـﭙـينوزا : يرى أن الناس يتوهمون أنهم أحرار لأنهم يُدركون أفعالهم ورغباتهم في صُدورها عن ذواتهم. لكنهم في الواقع لا يَدَّعُون "الحرية" إلا في المدى الذين يجهلون الأسباب التي تتحكم في أفعالهم ورغباتهم. فالإنسان يُوجَد ضمن نظام الطبيعة الذي هو تَجَلٍّ للإرادة والقدرة الإلاهيتين في إحاطتهما المطلقة بالعالم، حيث إن كل شيء يُوجَد ويتصرف بمقتضى ضرورة طبيعية. ومن هنا، فإن الإنسان ما دام خاضعا لرغباته وشهواته يُعَدُّ فاقدا لكل حرية، بل إنه يكون واقعا تحت سلطان حتميةٍ حرة ومطلقة هي الحتمية الطبيعية. وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يتحرر إلا في المدى الذي يَتَّبِعُ ما يُمليه عليه "العقل"، فـ«الإنسان الذي يقوده العقل يكون أكثر حرية في الدولة حيث يعيش في ظل القانون العام، منه لو بقي منعزلا لا يخضع إلا لهواه ».
+ إيمانويل كانط: يذهب إلى أن "الحرية" تُمثِّل مسلمةً لإمكان الوجود الإنساني كعقل أخلاقي وعملي. فالإنسان ذاتٌ حرة ومستقلة لها القدرة المطلقة على التشريع لنفسها على نحو يجعلها لا تخضع إلا لنداء الواجب في استجابته لما تقتضيه الفضيلة. وعلى هذا الأساس، فإن الإنسان يتميز عن الكائنات الطبيعية الخاضعة لقوانين تتسم بالضرورة والحتمية.
+ كارل ﭙـوﭙـر: يؤكد أن الحرية خاضعة لثلاثة محددات أساسية: إكراهات العالم الطبيعي ؛ مُحدِّدات عالم الوجدان والأحاسيس ؛ قوانين الفكر والعقل. فـ«حريتنا، وخصوصا حرية الإبداع، خاضعة لتلكـ المُحدِّدات. لكن المُبدِع مثله مثل المستكشف في جبال الهملايا، إنه حر في أن يختار طريقا من بين عدة طرق ممكنة». ذلكـ بأن العالم، وضمنه الإنسان، لا يتحدد بشكل نهائي وحتمي، وإنما هو لانهائية من المُمكِنات التي تتحقق شيئا فشيئا. فالعالم حتمي في ظاهره، لكنه في العمق قائم على نوع من اللاحتمية التي تجعل الحرية الإنسانية ممكنةً وقابلة للتحقيق على أساس المعرفة العلمية نفسها.
+ عبد اللـه العروي: يرى أن "الحرية" مرتبطةٌ بالإمكان المادي، أي القدرة على القيام بما تتعلق به الرغبة، مما يجعلها تتحدد من الناحية القانونية بأنها مجموعُ الحقوق المعترف بها للفرد ومجموعُ القدرات التي يتمتع بها. فالحقوق تتحدد من خلال ما تسمح به الأعراف والقوانين الاجتماعية، وترتبط القدرات بالوسائل المتاحة في المجتمع والعصر. ومن هنا، فإن الحرية، بما هي جملةٌ من الحقوق والقدرات، ترتبط بالتطور الاجتماعي وبالتقدم العلمي والتقني. وبالتالي، ليست "الحرية" حالة قارَّةً ودائمة، وإنما هي عمليةُ تحريرٍ مُستمرةٌ محددةٌ اجتماعيا وتاريخيا.
2- حرية الإرادة
الإشكالية: كيف تتحدد "الحرية" في علاقتها بـ"الإرادة"؟ هل أفعالنا نِتاجٌ لإرادتنا الحرة والمستقلة أم أننا خاضعون في أفعالنا لنوع من الإلزام أو الإكراه الذي يرتبط بشروط محددة؟
المواقف
+ ديكارت: يرى أن "الإرادة" هي حريةُ الاختيار التي يَخْبُرها كل إنسان في نفسه فيُدرِكـ أنها واسعةٌ وقويةٌ، مما يجعله يتأكد أنه مخلوق على صورةٍ تُوافِق المشيئة الإلاهية. وإذا كانت الإرادة الإلاهية أعظم وأشمل بحكم أن علم اللـه وقدرته لا يَحُدُّهما شيء، فإن كون إرادتي الخاصة على صورة الإرادة الإلاهية يجعلها كبيرة أيضا. وتتمثل الإرادة في القدرة على فعل الشيء أو تركه، أي القدرة على التصرف بناء على الاختيار خارج كل ضغط. وترتبط حرية الإرادة هذه بالمعرفة، حيث إن اللـه بَثَّ في النفوس الميل إلى الأشياء وزَوَّدَها بالقدرة على التفكير التي هي قدرةٌ على التدبير، حيث إن الفضل الإلاهي والمعرفة الطبيعية لا ينتقصان من حريتي شيئا، بل إنهما يُوَسِّعَانها ويُقَوِّيَانها.
+ جون-ﭙـول سارتر: يذهب إلى أن ديكارت في تصوره للإرادة المطلقة كإرادة إلاهية كان يبني إرادة الإنسان في حقيقتها الكاملة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجودُه ماهيتَه، فلا شيء يُحدِّدُ ابتداءً حقيقةَ الإنسان غير الحرية الأصلية التي هي أساس الإرادة كقدرة على الاختيار. ومن هنا فإن الإنسان يُسْقِط نفسه دائما إلى الأمام كأفق مُقبِل أو كمشروع مستقبلي لا يُحدِّدُه شيء في الماضي أو في الحاضر. وهكذا فإن الإنسان هو الذي يختار ما يفعل بنفسه، وفي اختياره هذا لا يختار فقط نفسه وإنما يختار الإنسانية جمعاء، مما يجعله مسؤولا عما يفعل بنفسه ومسؤولا بالتالي عن الإنسانية بكاملها، من حيث إن اختياره لَازِمٌ عن حقيقته الإنسانية في قيامها على الحرية كرغبة تلقائية وعفوية تتجلى في الاختيار كلَانهائيةٍ من المُمكنات الموضوعة بين يدي الإرادة.
3- الحرية والقانون
الإشكالية: ما علاقة الحرية بالقانون؟ هل تتعارض الحرية مع القانون الذي هو تقييد لها أم أن الحرية ليست ممكنةً إلا على أساس التنظيم القانوني للمجتمع بما مجال للتفاعل والصراع؟
المواقف
+ توماس هوبز: يذهب إلى أن كل فرد يتمتع، خارج المجتمع، بحرية كاملة يُخَوِّلُها له "الحق الطبيعي". لكن مثل هذه الحرية لا تُفيدُ في شيء، لأنها بقدر ما تُعطِي للمرء الحق المطلق في أن يفعل كل ما يرغب فيه، فإنها تُعطِي أيضا للآخرين الحق نفسه لإيذائه كما يُريدون. من هنا يجب التخلص من ذلكـ "الحق الطبيعي" الذي بتهديده للحياة يُهدِّد الحرية ذاتها، وذلكـ عن طريق تفويضه إلى شخص واحد تصير له السلطة المطلقة فيتمكن الناس من حفظ السلم والأمن في كَنَف الدولة بحيث لا يتمتع كل شخص بالحرية إلا بالقدر الذي يكفيه. وهكذا فإن قيام الدولة كنظام سياسي يجعل العقل يُمارس سلطته من خلال القانون فيَسْتَتِبُّ السلمُ ويصير تعاون المواطنين ممكنا كأشخاص أحرار.
+مونتسكيو: يرى أن الحرية لا تتمثل في أن يفعل المرء كل ما يرغب فيه، وإنما الحرية في إطار الدولة هي القدرة على فعل ما يجب أو عدم الإكراه على فعل ما لا يُرَاد. إنها الحق في فعل كل ما تُبِيحه القوانين، بحيث لو فعل أحدُ الناس ما تُحَرِّمه القوانين فإنه يفقد حريته، لأن الآخرين يمكنهم أن يقوموا بمثل ما فعل. لذا فإن الحرية تحتاج إلى حدود بواسطة القوانين، مما يجعلها لا تتحقق إلا في إطار الدولة التي تكون معتدلة.
+ جون-جاكـ روسو يقول: «لا وجود قطعًا لحرية من دون قوانين، ولا يوجد شخص فوق القوانين. إذ حتى في حالة الطبيعة لا يكون الإنسان حرا إلا عندما يخضع للقانون الطبيعي الذي يُسَيِّرُ كل شيء. وهكذا، فالشعب الحُرُّ يكون خاضعا، لكنه لا يكون خادما لغيره. يكون له رؤساء، لكن لا يكون له أسياد. إنه يخضع للقوانين، ولا يخضع إلا لها وحدها، وبفضلها لا يخضع للبشر.».
+ بنيامين كونستان: يرى أن الحرية، بالنسبة للمُحدَثِين، هي الحق في ألَّا يخضع الفرد إلا للقوانين، حق يجعله لا يتعرض للاعتقال أو التوقيف أو الإعدام أو سُوء المعاملة بناء على إرادة فرد أو مجموعة من الأفراد. والحرية بهذا المعنى هي مجموع الحقوق التي أصبح يتمتع بها المُواطنون في إطار الدولة الحديثة باعتبارها الحريات العامة والأساسية التي تميز الإنسان: حق التعبير، حق الشغل، حق الملكية، حق التنقل، حق التجمع، حق الانتخاب والترشح. ومن الواضح، إذن، أن المفهوم الحديث للحرية قد صار أكثر تحديدا واتساعا وأنه يتمثل بالأساس في التنظيم القانوني للحياة العمومية.
+ حنا أرندت: يرى أن الفلسفة الكلاسيكية كانت تنظر إلى الحرية كقضية ميتافيزيقية تتعلق بإرادة الإنسان بصفتها قائمة على الفكر بما هو جوهر مُحدِّدٌ للذات، وهذا لا يُساعد على تحديدها وتوضيحها، بل ينقلها من مجالها الأصلي الذي هو التجربة الإنسانية إلى مجال داخلي قائم على الاستبطان والتأمل المجرد. لهذا، فإن الحرية تتعلق أساسا بالتجربة الإنسانية بما هي تجربة سياسية في إطار المجتمع المدني الذي هو بمثابة تنظيم قانوني للحياة الاجتماعية يُؤدي إلى التحقق الفعلي للحرية من خلال بروز الأفراد كمواطنين أحرار ومُتساوِين. وهكذا فإن "الحرية" مرتبطةٌ بالفعل الإنساني كفعل سياسي يتطلب تنظيم مجال العلاقات الاجتماعية على نحو مَدَني يضمن المساواة بين أعضاء المجتمع على أساس القانون الذي يجعل الحرية ممكنة كتجربة إنسانية واقعية.