في الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة لتعزيز البناء الديمقراطي الحقيقي

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية في الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة لتعزيز البناء الديمقراطي الحقيقي

في الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة لتعزيز البناء الديمقراطي الحقيقي

إن للثقافة السياسية تأثيرًا كبيرًا على النظام السياسي بوجه خاص والحياة السياسية بوجه عام؛ إذ تدفع الأفراد والجماعات إما باتجاه الانخراط في النظام السياسي أو تدفعهم باتجاه اللامبالاة والسلبية السياسية، وحسب تقدير (فيربا وألموند)، فإن التوافق بين الثقافة السياسية والبنية السياسية ضروري لتأمين استمرار النظام السياسي، فإذا حصل التفاوت بينهما، يتلكأ النظام ويتعرض حينئذ للزوال، ومع ذلك لا يكون التوافق كاملًا على الدوام لعدم امتلاك الثقافة السياسية التجانس الكامل. ولكل نمط من الثقافة السياسية ما يقابله من البنى السياسية، ينمو ويتطور في ظله، ولا يمكن بناء بنية سياسية معينة خارج إطار البناء الثقافي السائد في المجتمع، ومن دون التلاؤم بين الثقافة السياسية والبنية السياسية، يتعرض النظام السياسي للخطر ويتهدده السقوط، والتلاؤم بينهما شرط أساسي للاستقرار السياسي.
إن روح الديمقراطية الحقَّة لا تقوم على الأساس المؤسساتي/الإجرائي فقط، فقد تكون الثورات استطاعت أن تقوض مؤسسات ونخب النظم الاستبدادية السابقة إلا أنه يبقى الرهان الحقيقي على كيفية محق قيم الثقافة السياسية التسلطية التي تغلغلت في جينات العقل السياسي العربي، سواء على مستوى الشعور واللاشعور الذي يحدد أنماط السلوك السياسي السلطوي، حيث استطاعت لردح من الزمن أن تحصِّن هذه النظم السياسية التسلطية؛ فالظاهر في هذه المخاضات التي تعيشها دول الربيع الديمقراطي، أن عملية هدم المؤسسات السياسية واستبدال أخرى بها تعبِّر عن إرادة الشعب، هي عملية يسيرة بخلاف استبدال قيم ثقافة سياسية ديمقراطية بقيم ثقافة سياسية استبدادية. فالثانية مسألة بالغة التعقيد، وقد تحتاج إلى وقت بفعل موانع وإكراهات تشكِّل التفكير الجمعي السلطوي ليس فقط في علاقة السلطة بالمواطن وإنما بفعل تمكنها حتى من العلاقات الاجتماعية مما يفرض تحديات كبرى.
الثقافة السياسية الجديدة التي تفترضها استراتيجية الانتقال الديمقراطي هي -باختصار- الثقافة التي تحل النزعة النسبية في وعي السياسة والمجال السياسي محل النزعة الشمولية، وتحل التوافق والتراضي، والتعاقد، والتنازل المتبادل، محل قواعد التسلط، والاحتكار، والإلغاء... إلخ، فتفتح المجال السياسي -بذلك- أمام المشاركة الطبيعية للجميع، وتفتح معه السلطة أمام إرادة التداول السلمي عليها. هذا يعني أن في قاع هذه الثقافة السياسية النظري مفهومًا مركزيًّا تأسيسيًّا للسياسة والسلطة، وهو أنهما -معًا بحسبها- ملكية عمومية للمجتمع برمته يتخلص معها أي سلم معياري تتوزع بموجبه أقساط السياسة والسلطة ومستحقاتها على قواعد الامتياز أو الأفضلية أو ما في معناها من أسباب السطو على الرأسمال الجماعي السياسي.
إن كثيرًا من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها بدون ثقافة سياسية جديدة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات المجتمع وقواه قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فكثير من مشكلات الداخل في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من التعدد والتنوع المذهبي والقومي والعِرقي المتوافر في العديد من المجتمعات، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صياغة العلاقة على أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعِرقي والقومي، بدون ثقافة سياسية، تعيد إلى التنوع كينونته ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغي الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع والوطن، دون أن تشرع في الانكفاء والانحباس في الذات
د. عثمان الزياني - أستاذ بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس، مركز الجزيرة للدراسات بتصرف

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button