نقف بكم اليوم عند امرأة ألهمت نفوس الأدباء والشعراء ، فأحبوها لشخصيتها ولرقتها ولأدبها . كاتبة كتومة ، هادئة ، ومتقلبة كتقلب فصول السنة ، إنها الأديبةميّ زيادة .
من هي مي زيادة ؟
ولدت ماري ابن إلياس زيادة في بلدة الناصرة بفلسطين عام 1886 ، وعقب ولادتها انتقلت مع والديها إلى لبنان ، فدخلت مدرسة للراهبات ، وأتقنت الكتابة باللغة الفرنسية ، وذاع صيتها الأدبي وهي في العشرين من عمرها ، وصحبت أبويها إلى مصر قبيل الحرب العالمية الأولى .
ولقد اختار والدها أن يستقر بمصر ، وأصدر جريدة ” المحروسة ” السياسية العربية ، فاتجهت مي إلى تقوية أسلوبها العربي..فدرست الأدب العربي ، والفلسفة الإسلامية ، والتحقت بالجامعة المصرية القديمة ، وأخذت تنشر مقالاتها باللغة العربية في جريدة ” المحروسة ” وفي المجلات الأدبية التي كانت مزدهرة في ذلك الحين…
كان اسمها ” ماري زيادة ” فاختارت لتوقيع كتاباتها اسم ” ميّ ” وقد لصق بها هذا الاسم العربي ، في اللغة العربية ، وفي جميع اللغات التي انتقلت إليها آثار ” ميّ “…
مي زيادة ملكة الصالون الأدبي
لقد بدأت مي حياتها الاجتماعية بأن أعدت في بيتها صالونا يجتمع فيه الأدباء وأهل الفكر والسياسة يوم الثلاثاء من كل أسبوع ، وكان يضم أسماء ذات وزن ثقيل في مجالها ، منهم عميد الأدب العربي طه حسين ، وشيخ العروبة أحمد زكي ، وشيخ الشعراء إسماعيل صبري ، وأمير الشعراء أحمد شوقي… .
وكان يوم الثلاثاء يوما مقدسا عند رواد الصالون… قلما يتخلف منهم أحد في هذا اليوم عن زيارة مي إلا إن كان مريضا أو على سفر ، ويقول في ذلك إسماعيل صبري :
روحي على بعض دور الحي حائمة * كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بميّ ناظريّ غدا * لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء
مي زيادة الوطنية
لقد تشبعت مي زيادة بالأفكار التحررية الثائرة التي تدعو لنبذ التفرقة والظلم ، ومحاربة الأفكار التي تدعو إلى التحجر والعبودية ، لكن ثورتها كانت لا تخرج عن تلك الهالة المحافظة التي اقتضتها تربيتها الشرقية . ولقد حرصت في أبحاثها وكتاباتها على تبني مختلف القضايا الاجتماعية ومعالجتها بنظرة الفيلسوف الناقد .
وكانت مي على رأس المناضلات اللاتي يدافعن عن المرأة وحقوقها ، دون أن يكون هذا الدفاع خارجا عن العقل والحكمة ، فهي تعتبر المرأة إحدى مقومات صلاح المجتمع ، إن فسدت فسد المجتمع ، وفي ذلك تقول مي :
– نحن في حاجة شديدة إلى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال دون أن يفقدن صفاتهن النسائية الجميلة من لطف العاطفة ، وعذوبة الخلق ، والرقة ، والدعة ، والاستقامة ، والإخلاص .
حقيقة جنون مي زيادة
شكلت سنة 1929 بداية مأساة مي زيادة ، حيث فجعت بوفاة والدها ، ثم بعد ذلك بسنة رحلت والدتها ، فتحطمت نفس مي ، وزادت عزلتها ونظرتها التشاؤمية ، ولقد استغل أقاربها هذه المأساة ، فحاربوا مي طمعا في مالها ، فادعوا أنها قد أصيبت في عقلها ونقلوها إلى مستشفى العصفورية بلبنان…
قضت مي أسوأ أيام حياتها في المستشفى ، فهزل جسدها وشاب شعرها ، وقد تمكنت من كسب قضية المرافعة ضد أقاربها ، وأثبت الطبيب أنها تتمتع بكامل قواها العقلية ، فخرجت من المستشفى عائدة إلى القاهرة حيث لم تجد من أصدقاء الماضي المؤنسين سوى القليل .
يقول الكاتب المفكر سلامة موسى : “… عندما عادت من لبنان ، كانت سيدة بيضاء الشعر كأنها في السبعين ، لقد قاست في المستشفى كثيرا ، ثم عادت فلم تجد أحدا ينتظرها أو يترقبها ، كانت تضحك مرة وتبكي أخرى ، وكانت دموعها تنهمر بالبكاء ثم بعد لحظات تنشج بالضحك “ .
وفاة مي زيادة
توفيت مي زيادة في مستشفى المعادي عام 1941 ، بعد أن اشتدت عليها آلام المرض ، ومرارة تنكر الأهل والأصدقاء ، وقد وصفت إحدى المقربات من مي جنازتها فقالت :
– لو رأيت جنازتها لرأيت البساطة ممثلة فيها . كان هناك أحمد لطفي السيد باشا ، وكنت معه ، وأنطون بك الجميل وخليل مطران بك وبعض أصدقائها . لقد كنت راكبة مع لطفي السيد باشا في سيارة خلف نعشها . ولما وصلنا إلى الديار البعيدة الساحقة… ودنونا من قبرها ، فوقف عليه لطفي السيد باشا وذرف السخين من العبرات حينما تلقوها من بين أيدينا ليسلموها إلى سكون الموت ووحشة القبر ، ويودعوا جسدها التراب .
مؤلفات مي زيادة
خلفت مي زيادة مؤلفات أدبية مهمة ، منها ما هو موضوع ، ومنها ما هو منقول .
فمن مؤلفاتها الموضوعة :
– أزهار حلم : شعر باللغة الفرنسية .
– باحثة البادية : وضعته سنة 1920 ودرست فيه شخصية الأديبة والداعية لتحرير المرأة حفني ناصف .
– كلمات وإشارات : مجموعة من الخطب الاجتماعية .
– سوائح فتاة : مجموعة من النظريات والآراء جمعت بناء على اقتراح من الأديب ولي الدين يكن .
– المساواة : معالجة لقضية الطبقة الاجتماعية .
– الصحائف : ظهر هذا الكتاب سنة 1924 وفيه مقدمة تنطوي على نظرة قيمة في النقد الأدبي ، وقسمان : قسم لصحائف بعض الأشخاص ، وقسم لرحلات السندباد البحري .
– بين الجزر والمد ، وظلمات وأشعة : في الكتابين مقالات أدبية وفنية وشعرية .
أما مؤلفاتها المنقولة فهي :
– ابتسامات ودموع : عن الألمانية .
– الحب في العذاب : عن الإنجليزية .
– رجوع الموجة : عن الفرنسية .
أدب مي زيادة
بدأت مي حياتها الأدبية بتحرير فصول في جريدة أبيها ” المحروسة ” تحت عنوان ( يوميات فتاة ) ..ومن أجمل هذه الفصول مقال ” غرفة في مكتبة ” تحدثت فيه عن فترة قضتها بين صور مشاهير الكتاب في إحدى غرف الجامعة المصرية .
كانت مي في بداياتها تكتب باللغة الفرنسية ، غير أن بعض المحيطين بها نصحوها بدراسة اللغة العربية ومطالعة الكتابات العربية الفصحى ، ثم أخذت تقرأ ما يكتبه الكتاب حتى تكونت لها ملكة عربية شجعتها على الترجمة ، فترجمت ” ابتسامات ودموع ” … وغيرها .
وكان أول كتبها في اللغة العربية عن ” باحثة البادية ” صدر سنة 1920 . تقول مي زيادة : “ وعلى ذلك أستطيع أن أقول أن أهم ما أثر في مجرى حياتي الكتابية ثلاثة أشياء : أولها النظر إلى جمال الطبيعة والثاني القرآن الكريم بفصاحته وبلاغته الرائعة والثالث الحركة الوطنية التي لولاها ما بلغت هذه السرعة في التطور الفكري “ .
وتظهر شخصية مي الأدبية بتلك النظرة الناقدة صاحبة التحليل العميق للظاهرة الأدبية والشعرية . تقول في ذلك : ” الأدب هو فن التعبير عن العواطف والميول والتأثيرات نظما ونثرا “ . وتعتبر الشعر عاطفة ذائبة أو خاطرة عميقة سكبت في قالب موزون الكلام والنغمة .
قال عنها طه حسين : ” إن ميّ تمثل في نفسي بداوة البادية ، وحضارة الحاضرة ، وثقافة العرب القدماء ، وما يتمنى المثقف أن يصل إليه “ .
من أقوال مي زيادة
– يجب أن يتألم المرأ ليدرك عذوبة الحنان . يجب أن يحتاج إلى الآخرين ليعلم كم يحتاج غيره إليه . يجب أن يرى حقوقه مهضومة يزدرى بها ليفهم أن حقوق الغير مقدسة يجب احترامها .
– الحياة الإنسانية ثلاث خطوات : خطوة من الجهل إلى المعرفة ، وخطوة من المعرفة إلى الارتقاء ، وخطوة إلى ذلك اللامع هناك في أقاصي الآمال : إلى المثل الأعلى الذي نجهله ويحيينا جميعا .
– الإحسان إلى الناس لا يقوم بإعطائهم مالا وقوتا وثيابا يتمتعون بها دون تعب ، فيحسبون الحصول عليها من حقوقهم ، بل الإحسان إليهم في فتح عيونهم وأفهامهم ليدركوا أن الذي لا يؤدي واجبا لا حق له في شيء .
– الثورة ككل جرأة : في وقتها ، ومكانها عبقرية وانتصار ، وفي غير ذلك حماقة وانحدار .
– السلاسل والقيود أقل رموز العبودية هولا ! القيود في دمائنا وأهلنا وأوطاننا . القيود في رغباتنا وحاجاتنا . القيود في بشريتنا .
– كيف تستطيع الأفعى الزاحفة على الأرض أن تفهم النسر المحلق في الفضاء .
– الدموع الراسبة في أعماق القلوب تذيب منا الكبرياء والغرور ، وتأتينا بخبرة عجيبة تدنينا من جوهر الأشياء ، وتخرج منا الحكماء والأنبياء .
– صديقك الحقيقي هو الذي يعرف أنه يضربك ضربة عظيمة عندما يرى ضرورة لذلك ، غير أنه لا يفعل ذلك إلا بمحبة .