وَا حَـرَّ قَلبـاهُ
اليوم سأعرض عليكم قصيدة أحبها
كثيرا ، للشاعر أبي الطيب المتنبي ، وسبق لي أن حللتها تحليلا أدبيا لتلاميد الثلثة ثانوي اعدادي ، لكنني اليوم وددت أن ألقي الضوء على أبيات
محددة أشعر بروعتها ، ولعل بعضكم يعرفها ويحبها كذلك ، إنها في نظري أبيات فخمة لا
زالت معانيها تمتد عبر الزمن لتدهشنا في كل مرة …
يقول المتنبي في مطلع القصيدة :
وَا حَـرَّ قَلبـاهُ مِمَّـن
قـَلْـبُهُ شَبـِمُ
ومَـن بِجـِسمـي وَحـالي
عِنْـدَهُ سَقَـمُ
ما لي أُكَتِّـمُ حُبّـاً قد
بَـرَى جَسَـدي
وتَدَّعِـي حُـبَّ سَيـفِ
الدَولـةِ الأُمَـمُ
إِنْ كـانَ يَـجمَـعـُنـا حُبٌّ
لِغُـرَّتـِهِ
فَلَـيتَ أَنَّـا بِقَـدْرِ
الحُـبِّ نَقـتَسِـمُ
وأقول في ظلال هذه الأبيات : في
الحياة من نحبهم حبا عظيما نخبئه لهم في سويداء قلوبنا ، هذا الحب لا يجد من
يستوعبه ويثمنه ، لكنه مع ذلك مستمر باق رغم الألم ، فنجبر على كتمان
شعورنا خاصة لو وجد حولنا متملقون يدعون الحب ويتظاهرون به ، ولو أن الحب شيء يظهر
للعيان لعرف من نحب عظم محبتنا وخواء محبة المتملقين ..
وقال أيضا في القصيدة ذاتها:
أَلزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئاً
لَيـسَ يَلْزَمـُهـا
أَنْ لا يُـوارِيَـهُـم أرضٌ
ولا عَـلَــمُ
أكُلّمَا رُمتَ جَيشاً
فانثَنـَى هَرَبـاً
تَـصَـرَّفَـتْ بِـكَ في
آثـارِهِ الـهِمَـمُ
أعلم أن هذه الأبيات قيلت في
معرض البطولة والقتال ، ولكن لوتأملنا انعكاسها على حياتنا لرأينا أن من بين
الرائعين الذين نقابلهم أناس بادروا بالخير والكرم وسعوا إليه دون أن يطلب منهم
أحد ذلك ، فهم من ألزموا أنفسهم صفات راقية ، وحتى لو قابلهم الآخرون
بالنكران فإن هممهم تأبى إلا أن تستمر على كل جميل ، فهم لا يفعلون ما يفعلون طمعا
في مكسب دنيوي بل لأن هذه هي شيمهم الحقيقة التي سيظلون محافظين عليها ما وسعتهم
الحياة .
ويقول كذلك:
يا أَعـدَلَ النـاسِ إِلاَّ في
مُعامَلَـتي
فيكَ الخِصـامُ وأَنـتَ
الخَصْـمُ والحَكَـم
أُعِيـذُهـا نَظَــراتٍ مِنْـكَ
صادِقـَـةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَحمَ فيمَـن
شَحْمُـهُ وَرَمُ
هذه الأبيات مليئة بالمحبة
المختلطة بالعتاب الجميل ، وهو عتاب يرجع الحكم للمحبوب حتى لو كان هو الجاني ،
ومن بين القلوب التي نعايشها قلوب تملكنا وتأسر عاطفتنا وحتى تفكيرنا فهي مصدر
سعادتنا وحزننا في الوقت ذاته ، والغريب أننا لا نرضى سواها ، ونحاول دوما أن نوضح
ونبين المغالطة في الفهم ، وكم نكون سعداء حين تميز تلك القلوب الغث من السمين
وترد الوداد إلى أصله ومنبعه فتعلم قدره وعظمه…
ويردد المتنبي :
أنا الَّذي نَظَرَ الأَعمَـى
إلى أَدَبـي
وأَسمَـعَـتْ كَلِماتـي مَـن
بـِـهِ صَمَـمُ
أَنـامُ مِـلءَ جُفُـوفي عـن
شَوارِدِهـا
ويَسْـهَـرُ الخَلْـقُ
جَرَّاهـا ويَختَـصِـمُ
وَجَـاهِـلٍ مَــدَّهُ في
جَهـلِـهِ ضـَحِكـِي
حَـتَّـى أَتَـتْـهُ يَـدٌ
فَـرَّاسـةٌ وفَـمُ
إِذا رَأيـتَ نُيُـوبَ اللّيـثِ
بـارِزَةً
فَـلا تَظُـنَّـنَ أَنَّ
اللَيـثَ يَبْـتَـسِـمُ
تأسرني روعة هذه الأبيات ،
فالأيام تطالعنا بثلة من الناس تهزأ بقيمنا التي نتقلدها بالفعل والقول ، ونحن إذ
نفتخربها فإننا نجعلها واضحة وضوح الشمس لكل فطن عاقل ، فهم يهزأون
لأنهم لا ولن يجدوا شيئا يحبونه وهدفا يصلون إليه لأنهم بكل بساطة سطحيون يغيظهم
العمق الذي يعجزون الوصول إليه ، فلا زالوا يفسرون الأمور بظواهرها ، فتعجز
نظراتهم القاصرة عن تبين الحقيقة ، فيظنون صبرنا وحلمنا عجزا ولا يعلمون أنه يخفي
خلفه قوة وتصميما فوق ما يتصورون.
وأختم تأملاتي في شعره بهذه
الأبيات التي قال فيها :
يـا مَن يَعِزُّ عَلَينـا أن
نُفارِقَهـم
وَجداننـا كُـلَّ شَيءٍ
بَعـدَكـُمْ عَـدَمُ
إذا تَرَحَّلْتَ عن قَـومٍ وقد
قَــدَروا
أَن لا تُفـارِقَهم فالـراحِـلُونَ
هُـمُ
شَـرُّ البـِلادِ مَكـانٌ لا
صـَديـقَ بـهِ
وشَرُّ ما يَكْسِـبُ الإِنسـانُ
مـا يَصِـمُ
أحيانا لا نملك الخيار في
مفارقة من نحب ، ونعلم أننا بالفراق نحكم على أنفسنا بألم وهم كبير، ولكن قد يضطر
المرء لترك أحبابه حين يسيئون له من غير أن يحسبوا حسابا لمشاعره أو حين يصبح
وجوده عندهم شيئا عاديا ليس له أثر أو مكانة ، في تلك اللحظة يكونون هم من
قرروا الفراق وهم من حكموا لأنفسهم بمساحة من الدنيا تخلو من الأصدقاء الحقيقين ..
رائع أيها المتنبي !