لم تكن المجازر المروعة التي ارتكبها الصهاينة خلال عدوانهم على غزة حادثا استثنائيا في السجل العسكري الإسرائيلي الدموي، بل يندرج في سجل طويل وممنهج من المذابح على مرأى ومسمع من العالم الذي يصف نفسه مزهوا مفتخرا ب"المتحضر" ابتداء من النكبة عام 1948، وخلال ما يفوق 60 سنة، ارتكبت إسرائيل المئات من المجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين بصفة خاصة والعرب بصفة عامة بهدف التهجير والتطهير العرقي والاستيلاء على المزيد من الأراضي ومنابع المياه العربية، وآخر فظاعات الصهاينة المنقطعة النظير كان المحرقة التي ارتكبتها آلة الحرب المجرمة الجبانة في غزة مع مطلع عام 2009 بأيادي صهيونية مجرمة وعتاد غربي صليبي مدعوم.
كان الصهاينة مصممين على الإبادة الجماعية للفلسطينيين وإرهابهم وإرغامهم على الفرار وإغراق مصر مما تبقى منهم إلى لاجئين داخل الأراضي المصرية، وما كان للعدوان الهمجي الغاشم على غزة الشامخة الصامدة أن يتوقف لولا حدث تتويج الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما الذي أربك حسابات الصهاينة قبل إتمام مهمتهم القذرة، وتفاديا لفضيحة حفل التتويج وسط شلال من دماء وأشلاء الأطفال والنساء والشيوخ وليس خوفا من أكثر من مليار ونصف مسلم لأنهم على الرغم من كثرتهم ليسوا سوى غثاء كغثاء السيل، ولا خوفا من قرارات ما يسمى ب"مجلس الأمن" لأنها لا تعدو أن تكون سوى قصاصات من ورق، فرأينا كيف دب النشاط والحيوية في أجساد الدول الغربية المنافقة بعدما كانت طيلة 23 يوما من المحرقة الصهيونية المروعة تلعب معنا لعبة "الغميضة"، وكيف بدأت المشاورات والاجتماعات تعقد هنا وهناك ليس لمحاسبة مجرمي الحرب الصهاينة على أفعالهم الهمجية البربرية وليس لتقديم الدعم المالي والمعنوي ورفع الحصار وفتح جميع المعابر لأجل إحقاق الحق ورد الاعتبار لأبناء غزة الصامدة المجاهدة، ولكن كل هذه التحركات المشبوهة كانت كلها تصب في كيفية خنق المقاومة وتقزيمها وتجريدها من السلاح، وذلك بتنفيذ حصار آخر جوا وبرا وبحرا يتواطأ فيها الغرب الصليبي مع المجرمين الصهاينة علانية وبدون استحياء، وإنه لمن المؤسف جدا أن تنخرط بعض الدول العربية مع هذه الجوقة النشاز إرضاء لليهود والنصارى.
وسبق قبل ذلك بثلاث سنوات الإساءة البالغة والتهجم الصارخ بوقاحة وخبث الذي أحدثته الرسومات الكاريكاتورية النرويجية والدانماركية التخيلية بشخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، التي تظهره تارة بمظهر إرهابي يحمل قنبلة في عمامته وتارة أخرى كأحد المجرمين الخطرين المطلوبين "للعدالة" أو إنسانا شهوانيا إلى غير ذلك من الصور المشينة والغير أخلاقية بكل الموازين، مما أدى إلى إلحاق إساءة بالغة بالدين الإسلامي وبالمسلمين في كافة أنحاء المعمور!!، وهذه الهجمة الشرسة المنظمة والمتصاعدة باطراد على مقدسات المسلمين منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والمتجلية في تدنيس القرآن الكريم بشتى الوسائل وتشويه صورة الرسول عليه الصلاة والسلام واتهام المسلمين بالإرهاب والظلامية من طرف الغرب الصليبي المتغطرس بقوته المادية، تُظهر بما لا يدع مجالا للشك على أن مفاهيم الديمقراطية وحرية التعبير كما هو متعارف عليها غربيا حتى ولو انتهكت اللياقة وآداب السلوك والأعراف الحضارية ودعت إلى التحريض على الكراهية وشتم قيم الآخرين المقدسة ورموزهم ليست سوى مفاهيم جوفاء مثلها كمثل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، ومما زاد الطين بلة هو تمادي السلطات الدانماركية آنذاك وإلى يومنا هذا في الدفاع عن مقترفي هذه المنكرات بدعوى حرية التعبير، وهو عذر أقبح من زلة، بدلاً من إنقاذ الموقف باحتواء الأضرار التي تسببت بها هذه الصحف وتقديم اعتذار للمسلمين في جميع أنحاء المعمور.
وفي نفس السياق لا يمكن تجاهل القانون الذي صدر في الولايات المتحدة الأمريكية منذ مدة والذي يقضي بإدراج الأنشطة والممارسات كافة التي تنتقد أو تتعرض في أي بقعة من بقاع العالم إلى اليهود ضمن تقرير سنوي تصدره الخارجية الأميركية عن حقوق الإنسان، يهدف إلى مناهضة السامية ضمن إطار دولي يسمح للسلطات الأميركية بملاحقة أي فرد أو جماعة تنتقد اليهود، ولا يمكن أيضا نسيان مجرد تصريح لرئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدكتور أحمدي نجاد في خطابه أمام مجموعة من طلاب إحدى الجامعات، والذي دعى فيه إلى محو دولة إسرائيل من الخريطة وما أحدثه من موجة شجب واستنكار واستهجان وصل حد التهديد من طرف هذا الغرب المنافق، في الوقت الذي تدك فيه آلة الحرب الصليبية المدمرة والغاصبة بيوت المستضعفين من أمة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام في كل من الشيشان والبوسنة والهرتسك وإفغانستان والعراق المكلوم، وما ترتكبه عصابات الصهاينة من جرائم يومية في حق الأشقاء الفلسطينيين واللبنانيين من تقتيل ومحو للذاكرة والتاريخ والثقافة وتشويه للجغرافيا، وما يتعرض له المسلمون ومقدساتهم من إهانات وشتائم في جنان الديمقراطية الغربية التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأحيانا الله حتى رأينا مؤخرا النفاق الغربي في صورة أخرى من صوره حينما غادر ممثلو دول الاتحاد الأوروبي مؤتمر ما يسمى ب"الأمم المتحدة" لمناهضة العنصرية المعروف ب"دوربان الثاني" القاعة عندما تحدث رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية محمود أحمدي نجاد في خطابه عن حكومة الصهاينة بأنها أخطر نظام عنصري في العالم المعاصر مدعوم من الغرب وهو قول حق، وأثار هذا الخطاب وسط الدول الغربية حنقا شديدا واستنكارا قويا لم نر مثله عندما كانت آلة الحرب الصهيونية تدك وتُبيد قرى وبلدات بأكملها بنسائها وحيواناتها وجمادها إبان العدوان على غزة، فالرئيس الفرنسي 'نيكولا ساركوزي 'وصف خطاب أحمدي نجاد بأنه دعوة إلى الحقد العنصري لا ينبغي السكوت عنها، وأنه يدين تماما خطاب الكراهية هذا، ودعا 'ساركوزي' الاتحاد الأوروبي إلى رد فعل شديد الحزم، أما 'روبرت وود' المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فقال بأن مثل هذه التصريحات لا تساعد وهي تأتي بنتائج عكسية وتغذي الكراهية والعنصرية، وأضاف بأن هذه ليست تصريحات تستخدم في القرن الحادي والعشرين، وإذا كانت إيران ترغب في علاقات مختلفة مع المجتمع الدولي عليها أن توقف تصريحاتها الفظيعة، أما رئيس الوزراء البريطاني 'غوردون براون' فقد أدان بشدة تصريحات الرئيس الإيراني واعتبرها مسيئة واستفزازية، وأعرب الأمين العام لما يسمى ب"الأمم المتحدة" 'بان كي مون' في بيان عن الأسف للكلام المناهض لإسرائيل الذي ورد على لسان الرئيس الإيراني، كما وصف الفاتيكان تعليقات الرئيس الإيراني حيال الصهاينة أمام المؤتمر بأنها متطرفة وغير مقبولة.
إنه منتهى التواطؤ الغربي مع الصهاينة ومنتهى النفاق الغربي المكشوف والحاقد حقدا تاريخيا دفينا على كل ما يمت للإسلام بصلة، إن سقوط المبادئ وقيم الحق والعدالة والمساواة بين البشر في هيئة الأمم لمن أتعبونا ليل نهار بخرافة حقوق الإنسان هو أكبر مصيبة حلت بهذا العالم المتحضر المحتضر، وإن انحياز ما يسمى ب"مجلس الأمن" بمباركة غربية قوية لإسرائيل الظالمة والمعتدية هو الكارثة الرهيبة عندما تُوفر الحماية للظلم الغاشم القاتل وتُهدر دم المستضعف القتيل، إن الخراب الحقيقي هو خراب الذمم وجميع منظمات الأمم وليس الخراب الذي حل بغزة الجريحة الذي حافظ أبناءها وحيدين بلا معين إلا الله تعالى على كرامة أبناءه وأمته بشرف وعزة وتضحية بالغالي والنفيس على الرغم من تخاذل ذوي القربى و كيد الأعداء.