المعلم الاستراتيجي لتربية القرن الحادي والعشرين

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية المعلم الاستراتيجي لتربية القرن الحادي والعشرين

المعلم الاستراتيجي لتربية القرن الحادي والعشرين

المعلم الاستراتيجي لتربية القرن الحادي والعشرين

هل التعليم وظيفة أم مهنة؟ لقد نظّر كثيرون لأهمية أن يكون التعليم مهنة لا وظيفة. وعلى الرغم من وجاهة المبررات التي يقدمها المدافعون عن وجهة النظر هذه، إلا أنني سأقدم بديلاً ثالثاً أقترح فيه التعامل مع التعليم كـ “قضية”. والمعلم المتبني لقضية التعليم يُسخِّر جُلّ وقته وجهده لخدمتها. كما أنه يسعى نحو توسيع معارفه وتطوير مهاراته في سبيل تحقيق أهدافها, وبمناسبة الحديث عن الأهداف، ستقدم هذه المقالة لمفهوم المعلم الاستراتيجي الذي يخدم قضية التعليم عبر محاولة تحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية الواضحة والمحددة. وبدقة أكبر، يقترح كاتب المقالة على المعلم الأردني والعربي أن يفكر في خدمة قضية التعليم بالسعي لتحقيق اثني عشر هدفاً استراتيجياً. وسيتم تناول كل هدف بالتفصيل الذي تسمح به مساحة هذه المقالة. وأرجو أن يتم التعامل مع هذه الأهداف كمقترحات قابلة للنقاش والحوار. كما أرجو إخضاعها لما يلزمها من تأمل، علماً بأن قاعدة التفكير التأملي هي: “عدم قبول كل شيء فوراً شريطة عدم رفضه فوراً”. وفيما يلي استعراض للأهداف الاستراتيجية للمعلم الأردني والعربي في القرن الحادي والعشرين.
أولاً: تذويت القيم
هل أتجرأ على القول بأن الأنظمة التربوية العربية قد أخفقت بدرجة كبيرة في تعليم القيم؟ لعلي أفعل. فمن المعروف أن القيمة تتشكل من ثلاثة مكونات رئيسة؛ هي: المعرفي والانفعالي والسلوكي. ويمثل السلوك المرتبط بالقيمة المؤشر الأكبر على تعلمها. وعليه، لا يستطيع المدافع عن الأنظمة التربوية العربية إثبات أن تعلماً للقيم قد حصل. إنّ كل ما يقع هو أن الطلبة “يُحشّون” بكل المعارف التي تتعلق بقيمة ما أو بأهميتها، لكننا نجدهم آخر النهار يسلكون بطريقة تتناقض معها. على سبيل المثال، لا يوجد طفل في العالم العربي إلا ويعرف أهمية الصدق وحرمة الكذب. على الرغم من ذلك نجد كثيراً من الأطفال “والكبار” على السواء يكذبون. ثم، هل من بيننا من لا يعرف أهمية احترام حق الآخر في التعبير والاختلاف والراحة والاستقلالية والتمتع بمساحة معينة من الخصوصية؟ كلنا “نعرف”، لكن المشكلة ليست في نقص المعرفة بل في غياب السلوك الذي يترجم هذه المعرفة.
إن المطلوب من النظام التربوي العربي عموماً، ومن المعلم العربي على وجه الخصوص، الانتقال من مرحلة اقتصار التركيز على المكون المعرفي للقيمة، والبدء في تناول مكونها السلوكي. وقد أسمح لنفسي بالإدعاء أن أحد أهم تفسيرات الفرق الحضاري الكبير بين مجتمعاتنا العربية من جهة، والمجتمعات المتقدمة شرقاً وغرباً من جهة أخرى، يتمثل في ضعف ترجمة القيم العربية والإسلامية إلى ممارسات.
ثانياً: التحضير المهني
أشار “ريشارد ريلي” سكرتير التعليم الأمريكي السابق إلى أن المهن الأكثر طلباً في العام 2010 لم تكن موجودة في العام 2004. وقد خرج بخلاصة مفادها “علينا إعداد طلبتنا لمهن غير موجودة حالياً”. أيضاً، مثّل التمكن من المعارف في موضوع التخصص المتطلب الرئيس للعمل في القرن الماضي. أما اليوم، فإن هناك قائمة طويلة من المتطلبات اللازمة للعمل يتذيلها “التمكن من المعارف في موضوع التخصص”. والسؤال المشروع هنا: هل تعي مدارسنا ومعلمونا هذا التغير الكبير، والأهم، هل يعتبرونه في برامجهم وممارساتهم؟
من ناحية أخرى، تشير الدراسات إلى أن غالبية الأفراد في القرن الماضي قد قضوا أعمارهم وهم يمارسون العمل نفسه. وفي أعلى حد، غيّر إنسان القرن الماضي عمله ثلاث مرات في حياته. في المقابل، يُتوقع أن يضطر العاملون في القرن الحالي إلى تغيير عملهم أو أماكن عملهم لعدد كبير من المرات قد يصل إلى 14 مرة في العمر.
وعليه، من الواجب هنا تشجيع المعلمين على مراجعة دورهم في تحضير طلبتهم للعمل، خاصة إذا تذكرنا أن التربية هي “إعداد الإنسان للحياة”، وأننا نقضي ثلث أعمارنا الراشدة في العمل.
ثالثاً: التدريب على المنافسة
لطالما سمعنا كثيرين يرددون مقولة أن العالم أصبح أصغر من قرية صغيرة. على أية حال، لا نسمع إلا قليلاً من التفاصيل التي تشرح ما الذي ترتب عن هذه الحقيقة. ولأن المقام لا يسمح بتناول كل النتائج التي تولدت عن هذا الواقع، فإنني سأركز في عجالة على أثره على التنافسية بين شعوب الأرض. فقد يكون من المفيد لك عزيزي القارئ أن تعرف أن 32 ألف هندي يعملون من الهند لصالح شركة IBM الأمريكية. وأن من يعملون في إمارة عربية صغيرة، تدعى دبي، ينتمون إلى 137 جنسية مختلفة. ثم، هل بدأنا نتحسس، ولو قليلاً، أن الفرصة الجيدة تعطى للأفضل؟ ألن تسهم عمليات الخصخصة التي عمت الأردن والوطن العربي في رفع مستوى المنافسة بين العاملين الباحثين عن فرصة؟ هل يمكن للسياسات الحمائية التي تعطي أولوية للمواطن في التعيين أن تستمر إلى الأبد؟ أليس من المحتمل أن يثور المستثمرون في القطاع الخاص على السياسات الحمائية والتي تتعارض مع توظيف الأكفأ؟ والسؤال الأهم، أليس من حقهم فعل ذلك؟
وعلى الرغم من أهمية التدريب على العمل التعاوني والجماعي، إلا أن الحاجة اليوم أصبحت ماسة لإكساب المتعلمين مهارات المنافسة التي يستطيعون من خلالها حجز مكان لهم في هذا العالم. وحتى يتمكن طلبتنا من المنافسة فإنهم بحاجة أن يتعرفوا أكثر على منافسيهم، وأن يتواصلوا بهم، ويتعلموا معهم. وهنا يحتاج المعلمون أن يرقوا بعملية استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للوصول بها إلى مرحلة التعلم مع التكنولوجيا، وعدم الاكتفاء بالتعلم عن التكنولوجيا ومنها.
رابعاً: تطوير اتجاهات إيجابية نحو التعلم وإكساب مهارات التعلم مدى الحياة
هل تعلم أن هناك ثلاثة ملايين صفحة تضاف يومياً على الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنت)؟ وأنّ 19 بليون رسالة إلكترونية تُرسل عبر نفس الشبكة؟ وأنّ حجم الشبكة يتضاعف مرة كل أربعة أشهر؟ ثم هل قرأت أننا نفقد أكثر من 70% مما نتعلمه في أقل من خمس سنوات، وأن النسبة المتبقية تمثل المعرفة التي نستعملها؟ من المؤكد أنك سمعت، عزيزي القارئ، أنّ المعارف في بعض العلوم تتضاعف في كل سنة، وأن ما أنتجته البشرية من معرفة في الخمس سنوات الماضية يعادل ما أنتجه أجدادنا في خمسة آلاف سنة. وأنت بالتأكيد على وعي بأن التكنولوجيا التي سيستخدمها أطفالنا عندما يكبرون لم يتم اختراعها بعد.
وعليه، لم يعد من المقبول اليوم أن يتم التعامل مع إكساب المعرفة كهدف تعلّمي تتبناه المدارس أو المعلمون. ولم يعد مقبولاً أيضاً أن يدرك المعلم نفسه على أنه المصدر الوحيد، ولا حتى الأفضل، للمعرفة. ولأن الوصول للمعرفة أصبح أمراً يسيراً ومتاحاً للغالبية العظمى من المتعلمين، فإنه من غير الجائز التمسك بالدور التقليدي للمعلم الملقن أو المزود بالمعرفة. لقد ظهرت في القرن الحادي والعشرين أهداف بديلة مثل “إكساب مهارات الوصول للمعرفة”، و “تقييمها”، و “تطبيقها”، ثم “توليدها”.
وينظر إلى الأمية في القرن الحادي والعشرين بطريقة مختلفة كلياً عن تعريفها في القرن الماضي. فحتى العقد قبل الأخير من القرن الماضي كان الأُمي هو الشخص الذي لا يعرف القراءة والكتابة. وفي العقد الأخير من القرن الماضي، وحتى قبل خمس سنوات مضت، فقد نُظر لمن لا يعرف استخدام الحاسوب على أنه أُمِّي. أما اليوم فهناك من يقترح أن الأُمِّي هو: من لا يستمر في التعلم، ومن لا يعرف ماذا يتعلم، وماذا لا يتعلم. ومن هنا، نوصي معلمينا، حفظهم الله، بأن يركزوا على إكساب الطلبة مهارات التعلم مدى الحياة، دون أن ينسوا أهمية تطوير الاتجاهات الإيجابية نحو التعلم. وما نحلم به هو أن يأتي اليوم الذي يتعامل فيه طلبتنا مع تخرجهم من المدرسة والجامعة على أنه بداية لرحلة تعلم لا تنتهي.
خامساً: إكساب مهارات التفكير الناقد
يحيا الإنسان العربي عموماً، والمثقف العربي بشكل خاص، ازدواجية عقلية لأنه يعيش ذهنياً معطيات الحداثة الغربية، ويفكّر فيها وبها، وفي الوقت نفسه يعيش واقعياً في العصور الوسطى. وهذه الازدواجية التي ترتفع في الحياة والفكر إلى مستوى الإشكالية التي لا يمكن حلّها هي التي تجعل خيار التحديث أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد.
أرجو أنني لا أبالغ إذا قلت أن الغالبية العظمى من أفراد مجتمعاتنا العربية ينتمون إلى إحدى فئتين: الأولى تسعى نحو “التطابق” مع الماضي، في حين تسعى الثانية نحو “التطابق” مع الآخر. وتبقى أقلية من المواطنين العرب الذي يجدون أنفسهم على حافة الخيارين، ولم يفلحوا بعد في إدراج هذين الخيارين في إطار من الحوار والتفاعل ليصلوا إلى خيار ثالث مختلف عنهما لكنه غير متقاطع معهما، وهذا الخيار هو الذي اصطلح على تسميته “الاختلاف” بوصفه بديلاً عن “المطابقة” التي هي امتثال سلبي للماضي والآخر معاً.
وقد كثر الحديث هذه الأيام عن تربية القرن الحادي والعشرين التي تركز على إكساب جملة من المهارات في التواصل والتفكير، ومن بينها مهارات التفكير الناقد. وينظر “تقليدياً” لمهارات التفكير الناقد على أنها أدوات تحسن من نوعية التعلم وتحافظ على ديمومته. أيضاً، يهدف البعض من تدريب الطلبة على التفكير الناقد إلى جعلهم أكثر قدرة على التأمل في كل ما يعترضهم من مثيرات وما يعيشونه من خبرات. على أية حال، تقترح هذه المقالة أن نتجاوز هذين الهدفين التقليدين لنأمل في أن ينجح المتعلم العربي في توظيف التفكير الناقد في حل إشكالية الازدواجية العقلية بين معطيات الحداثة الغربية وواقع العصور الوسطى.
سادساً: التدريب على عدم الطاعة
“أنا حر إذن أنا موجود” مع شديد الاعتذار من الفيلسوف الفرنسي الشهير “رينيه ديكارت” الذي ربط الوجود بالتفكير. وقبل أن تبتعد عزيزي القارئ كثيراً في تخيلك لما أقصده بالتدريب على عدم الطاعة، أرجو أن أسارع في شرح نفسي. وعلى الفور أسأل، هل يمكن للقطيع أن يسهم في إحداث التغيير؟ إن الراصد لسلوك أبنائنا وبناتنا يكتشف دليلاً قوياً على أنهم لا زالوا يتمثلون ثقافة القطيع. فنجد مثلاً أن “الكل بدو يغني”، أو أن معظمهم يتوقف عن الاهتمام بالنظافة عندما يصبح المظهر الوسخ “Dirty Look” مؤشراً على مواكبة الموضة، وهكذا. “إن الثورة على ما تُـقرِّه الجماعة بغض النظر عن الحكم الموضوعي بشأن ما أقرته” هو أحد معاني عدم الطاعة المقصودة هنا. وقد يكون من المثير للبعض أن يسمعوا أن من الشروط الأساسية لكي يكون الفرد قوة تغيير منظمة وفاعلة أن يكون “ذاتاً لا موضوعاً”. ذاتاً تفكر وتنتج الآراء والأفكار، ولا ترضى بوصاية عليها سواء كانت لنص أم لمألوف أم لسلطة. من ناحية أخرى، ألا يتطلب الإعداد الجيد للحياة تدريب المتعلمين على عدم الطاعة؟ ألن يواجَهوا في حياتهم المستقبلية بعشرات الأوامر والطلبات غير المنطقية والمجحفة والتي يجب عليهم رفضها ومقاومتها والتمرد عليها؟
وفي هذا السياق، اقترح على الجهاز التعليمي العربي أن يرسخ في الفرد منذ نعومة أظفاره رفض ثقافة الخضوع والوصاية والتنميط والقطيع. إنّ الاعتراف بالتنوع الموجود بين أفراد المجتمع الواحد وتوظيفه هو السبيل نحو تحررهم وإبداعهم الشخصي ونهضة أمتهم. كما أشجع المعلم العربي على أن يتبنى فهم الشهيد “غسان كنفاني” للحرية عندما قال:
“أنا أتكلم عن الحرية التي لا مقابل لها… الحرية التي هي نفسها المقابل”.
سابعاً: تطوير القدرة على الضبط الذاتي- الداخلي
“تقترب الساعة من الخامسة مساءً، ولم يبق سوى عشر دقائق على انتهاء الدوام الرسمي. تجلس موظفة التسجيل في الجامعة خلف جهاز الحاسوب وتُدخل بعض البيانات. يدخل عليها أحد المراجعين من الطلبة، فتقفز من فورها، وتسأله: أهلاُ، كيف لي أن أساعدك؟”
يقدم المشهد السابق مثالاً حياً ودليلاً عملياً على نجاح التربية في تحقيق أحد أهم أهدافها والمتمثل في تطوير القدرة على الضبط الذاتي- الداخلي عند المتعلمين. ومع شديد الأسف، فإن المشهد السابق لا يتعلق بموظفة عربية في جامعة عربية. إنه مشهد طالما ألفه كاتب هذه المقالة عندما كان طالباً في بريطانيا. ولأن الحكمة ضالة المؤمن، اسمحوا لي أن أنحني احتراماً لمئات الغربيين الذين تعاملت معهم في حياتي، والذين قدموا أفضل الأمثلة في الضبط الذاتي والإحساس بالمسؤولية الشخصية. ثم أذنوا لي أن أبتهل إلى الله تعالى أن يضاعف أعداد القلة من أبناء أمتي ممن ينتهجون النهج نفسه.
وتعتمد التربية الأسرية والمدرسية العربية على توظيف درجات عالية جداً من الضبط الخارجي. وينسحب هذا الأمر على الممارسات المجتمعية في الشارع والملاعب الرياضية والمرافق العامة ومؤسسات الدولة. وقد أفقد هذا الأمر الفرد العربي ثقته بقدرته على أن يتحكم بسلوكه في ظل غياب الرقيب. فأصبحنا نُعيِّن مراقِباً لكل خمسة عمال، ومراقِباً لكل خمسة مراقِبين للعمال، ثم مراقِباً عاماً على جميع المراقِبين، المراقِب منهم بكسر القاف، والمراقَب بفتحها. فتحول الجميع في النهاية إلى مراقًبين.
في إحدى زيارتي العلمية للسويد، استمعت بكثير من الألم إلى أحد أساتذة علم اجتماع التربية وهو يقول: “هناك علاقة عكسية بين عدد القوانين في المجتمع ودرجة رقيه”. وقد أضاف مفسراً: “عندما يفشل العُرف وينحدر مستوى رقي الأفراد، تضطر الجماعة في النهاية لوضع قانون”. والتساؤل الموجع هنا: كيف تُـصنف المجتمعات التي تشتمل قوانينها على تفاصيل تنظم سلوكاً مثل المحافظة على نظافة الشارع، ثم تضع نصاً يوضح العقوبة التي تلحق بمن يلقي منديلاً ورقياً من نافذة سيارة؟ وبالمناسبة، قد تحب أن تعرف عزيزي القارئ أنّ الموظفة المشار إليها في المثال أعلاه لا تُوقِع على سجل للحضور والانصراف، كما أنها لا تستمر في عملها حتى آخر لحظة خوفاً من مدير أو حتى سعياً وراء إرضائه. إنها قيمة الإخلاص في العمل، والقدرة على الضبط الداخلي التي تشكلت على مدى زمني طويل، ومن خلال ممارسات أسرية ومدرسية ومجتمعية منسجمة. فهل نحن مقتدون؟
ثامناً: التدريب على إدراك التنوع وإقراره وتقبله والاحتفاء به
على الرغم من كثرة القواسم المشتركة التي تربط بين أفراد المجتمع الواحد، إلا أنهم ينتمون، في واقع الحال، إلى ثقافات فرعية متعددة. ويتسبب غياب التدريب على إدراك الاختلاف والتنوع الموجود بين الأفراد في كثير من الصراعات التي تستنزف وقتهم وجهدهم. علاوة على ذلك، قد تتسبب هذه الصراعات على المدى الطويل في إحداث شروخ في بنية المجتمع، وهو أمر جِدُُّ خطير. وعليه، من الضروري أن تتناول المناهج المدرسية هذه المسألة بجدية، وكذا الحال بالنسبة للمعلمين. وبالتحديد، يجب تعريف الطلبة بأن التنوع من سنن الكون، وأنه يمثل بالنسبة للبشر مصدر غنىً وثراء. ومن المفيد أن يُعّرض الطلبة لأمثلة توضح كيف أن الأمم الحية قامت وتقوم على توظيف التنوع الموجود بين أبنائها. والمأمول عند تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي أن يصبح أفراد مجتمعنا أكثر قدرة على التحمل، وأن يتمكنوا من الاستمتاع بالعيش معاً، لا أن يتعايشوا. ويتوقع نتيجة لهذا أن تختفي كثير من مظاهر العنف التي نرصدها في أحيائنا وشوارعنا وملاعبنا الرياضية وحتى في جامعاتنا.
تاسعاً: التدريب على التبسم
كثيراً ما نسمع غزلاً بطيبة الشعب الأردني وكرمه. على أية حال، لم يحصل، لي على الأقل، أن سمعت من تغزل بـ “بشاشة” الشعب الأردني. وأرى أنه من غير المقبول التبرير بصعوبة الظروف الاقتصادية، أو بحجم الضغوط الناتجة عن سخونة المنطقة التي قدّر الله لنا أن نعيش فيها. فأي زائر لمصر الشقيقة يكتشف سريعاً خفة الظل التي ترتبط ارتباطاً عكسياً بالحالة الاقتصادية للإنسان المصري. إذن، يضحك المصريون على الرغم من فقرهم، وتتجهم الغالبية العظمى من الأردنيين على الرغم من كل شيء. وأرجو أن تأذنوا لي بالقول بضرورة التعامل مع تدريب الأردنيين على التبسم كقضية أمن وطني. ولأن إنتاجية الأردنيين تتأثر بروحهم المعنوية، وطالما أن ابتسامة تحدث فرقاً في مستوى الروح المعنوية لعامل أردني، إذن التبسم قضية أمن وطني.
وبالنسبة للمعلمين، تعتبر ابتسامتهم في وجوه طلبتهم عاملاً رئيساً في تحسين اتجاهات هؤلاء الطلبة نحو المدرسة والتعلم، مما ينعكس إيجاباً وعلى المدى الطويل على إنتاجيتهم ومدى إسهامهم في خدمة مجتمعهم.
عاشراً: تعزيز تقدير الذات
“ارفع رأسك أنت عربي”. هذا هو الشعار الذي اقترح أن تتم ترجمته إلى هدف تسعى ممارسات المعلمين نحو تحقيقه. فمن غير الممكن، في ظني، أن تنجح المجتمعات العربية في الخروج من حالة التردي التي تعانيها دون أن يؤمن أبناؤها بأنفسهم كأفراد، ثم يعتزوا بهويتهم القومية كجماعة. وأتجرأ هنا لأقدم للمعلمين توصية عملية أقترح فيها تعريض الطلبة إلى نماذج لشخصيات عربية معاصرة تمثل مصدراً للفخر والإلهام. ومن بين هذه النماذج، على سبيل المثال لا الحصر، العالم المصري الفائز بجائزة نوبل أحمد زويل، أو أعظم جراحي القلب في تاريخ الطب الحديث “الصعيدي” مجدي يعقوب، أو السوري “علي جهاد فارس” طالب السنة الأولى في جامعة تشرين، الذي اخترع أصغر قمر صناعي في العالم، أو جراح الوجه والفكين الطبيب الأردني محمد السرطاوي. وحتى عندما يتعلق الأمر بالرياضة، فالأفضل أن نستعين بنماذج مثل “محمد أبو تريكة” الذي ترصده الكاميرا وهو يسجد شكراً لله تعالى بعد كل هدف يسجله، والذي أثار تعاطف العالم كله مع غزة أثناء العدوان الإسرائيلي عليها.
ويحتاج المعلم، كي يتمكن من لعب دوره في تعزيز تقدير الطلبة لذواتهم وبالتالي خدمة المشروع النهضوي العربي، أن يمتلك فكراً تنويرياً يساعد المتعلمين، وبالتالي المجتمع، على التخلص من سطوة الماضي، وقيادته في الطريق إلى المستقبل اعتماداً على العقل وعلى التفكير الحر والرؤية النقدية للسائد بكلِّيته. كما أنّ من واجب المعلم العربي تعزيز قدرة الطلبة على التأمل في الذات، وقبولها ونقدها، ثم التوقف عن حالة الانبهار بالآخر التي لا تتجاوز حدود استهلاك ما ينتجه دون التفكر في تجربته ومعطياتها التاريخية.
حادي عشر: غرس قيمة الحب
هناك علاقة طردية بين مستوى إشباع الفرد لحاجة الحب وصحته النفسية. ومن المفيد التذكير هنا بهرم “ماسلو” للحاجات الذي اعتبر فيه الحب حاجة حرمانية يهدد عدم إشباعها حياة الفرد، تماماً مثلما يهددها الحرمان من الطعام والشراب. وأسمح لنفسي بأن أضيف إلى ما جاء به ماسلو بإدعاء وجود علاقة طردية بين وزن قيمة الحب لدى الفرد وصحته النفسية.
وللانسجام مع ما جاء في الهدف الاستراتيجي الأول حول “تذويت القيم” يجب أن يركز المعلمون على الجوانب السلوكية لقيمة الحب والتي تدلل فعلاً على أن الطلبة قد تعلموها. فمن يحب وطنه يحرص على ثرواته، ويقتصد في استعمال مياهه، ويسهر على أمنه وأم ساكنيه، ويخدم اقتصاده بتشجيع استهلاك منتجاته المحلية، وهكذا. والدليل الأقوى على حب المعلم يكون بتوقيره وإجلاله وإعلاء شأنه في المجتمع. ومن يحب أمته يتقن لغتها، ويعتز بتاريخها، ويبذل الغالي والنفيس في سبيل أن تستعيد دورها ومكانتها. وأخيراً، لقيمة الحب معنى استراتيجي يترجم في التفكير بأحفادنا الذي سيرثون ما على ظهر الأرض عندما نكون قد سرنا إلى بطنها.
ثاني عشر: التدريب على الحلم
هل فقد الناس في مجتمعاتنا العربية القدرة على الحلم؟ أخشى أن الإجابة نعم. فعندما يستعرض الناجحون قصصهم نجدهم يتحدثون عن إنجازات بدأت أحلاماً، أو عن أحلام تحولت بالرؤية الواضحة والعمل الدؤوب إلى حقائق يمكن تحسسها والاستمتاع بآثارها. إذن، هل يمكن تفسير قلة الإنجازات في بلادي بانخفاض عدد الحالمين؟
وبمناسبة الحديث عن ضرورة الأحلام، تجدر الإشارة أن أهمية الحلم لا ترتبط بحجمه. فمن المسموح أن تصغر أحلامنا، ومن المفيد أن تكبر؛ المهم أن نحلم، وأن تكون نتاجات أحلامنا عندما تتحقق خيّرة ونافعة.
ولكي يكون الفرد حالماً فإنه يحتاج إلى أكثر من الخيال الخصب. وفي اعتقادي، أن الحلم الجيد يحتاج إلى جرأة من نوع خاص. والسؤال: هل يتمتع معلمونا بما يكفي من الجرأة ليقدموا نماذج لحالمين حقيقيين تُلهم طلبتهم وتجعلهم أكثر جرأة على الحلم؟ هل نتوقع من معلمينا، مثلاً، أن يتبنوا الحلم الكبير بأن تسترد العربية، أم اللغات، مكانتها في العالم كلغة معرفة وعلم؟ وهل يحق لنا أن نحلم باليوم الذي يزاحم فيه طلبتنا أفضل طلبة العلم، في اليابان والولايات المتحدة والسويد. أليس جميلاً، على بساطته، أن يتحقق حلم اصطفاف منتظري حافلة الركاب في طابور، ثم أن تأتي الحافلة في موعد منتظم لا تُخطِئه. ثم، لعلنا نحلم على طريقة معالي الأستاذ الدكتور خالد الكركي عندما خاطب الطلبة المستجدين في الجامعة الأردنية:
“الأماني التي تبدأ ولا تنتهي حتى تصل إلى حلم قديم كان يردد في ساحات الجامعة في ستينيات القرن الماضي: الولايات العربية المتحدة. كانت تلك الأحلام في جيلنا، مرّ بنا العمر مسرعاً قبل أن نراها، فإن حصَّلتم منها ما تريدون ذات زمان ولو كنا خارج المشهد، أو كنا قد رحلنا، فابعثوا لنا بالتحية، وقولوا: لقد تحقق الحلم”.
وفي الختام، أجد لزاماً عليّ التذكير بمتطلبات تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية. إنها تتطلب أولاً معلماً يؤمن بأهميتها، قادراً على خلق البيئة الملائمة لنجاحها، ثم ينجح في اختيار التوقيت الملائم للبدء في رحلة تحقيقها. علاوة على ما سبق، يحتاج العمل الاستراتيجي شراكة وتعاوناً مع الآخرين. كما يحتاج إلى ذهنية متفتحة تتوقع المعيقات وتقاوم الفشل. أخيراً، لا بدّ للمعلم الاستراتيجي من اعتبار الزمن ودوره في نجاح الأفكار. لقد أثبتت التجربة التاريخية أن لا شيء يضيع أبداً، فالفكرة –مهما كانت- تترك انطباعاً معيناً، سلبياً أو إيجابياً، فقد تشكك في مسلمة من المسلمات، وقد تعزز ظناً من الظنون، وقد تنبه إلى شيء منسي، وقد تنقذ أمة من كارثة. فالفكرة الأصيلة لا تضيع أبداً، وهي إن لم تورق اليوم أورقت غداً. فنجاح الفكرة مرهون بقوة الإيمان بها، وبتوفر الإخلاص في سبيلها، وزيادة الحماسة لها، ووجود الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل من أجل تحقيقها. كل هذا على قاعدة: “زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون”.
والله ولي التوفيق،،،
د. رمزي فتحي هارون

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button