تحليل قصيدة المساء خليل مطران

إعلان الرئيسية

تحليل قصيدة المساء للصف الثاني عشر ( مهارات التذوق الأدبي ) .التعريف بالشاعر :
ولد خليل مطران سنة 1872 م في بعلبك من أسرة عربية أصيلة ينتهي نسبها إلى الغساسنة ، وكانت
أمه فلسطينية تحب الأدب ، وتقرض الشعر وقد أجاد العربية والتركية والفرنسية . وتنقل بين بيروت
وأنقرة وباريس ، ثم استقر في مصر سنة 1892 م ولذلك لقب بشاعر القطرين ، وقد عمل في جريدة الأهرام ، وفي ترجمة مسرحيات ( شكسبير ) ، توفي سنة 1949 م وهو رائد ( المدرسة الرومانسية ) في الشعر العربي المعاصر ، وله ديوان شعر مطبوع .
جـو النــــص :
مرض خليل مطران سنة 1902 م فنصحه الأصدقاء بالذهاب إلى الإسكندرية ليستشفي من مرضه بهواء البحر المنعش ، وسحر الطبيعة هناك . فأقام في ضاحية ( المكس ) غربي الإسكندرية . ولكنه شعر بألم الفراق لحبيبته التي تركها في القاهرة فاجتمع عليه الحب والمرض وما فيهما من ضعف الجسم وعذاب الروح والقلب فكتب هذه القصيدة يصور مشاعره وقد وقف على الشاطئ عند المساء .
الأفكار الأساسية :
أ- الألم الذي ألم بالشاعر من جراء بعده وغربته.
ب- عذاب الحب وآلام المرض .
ج- شكوى وضيق .
د?-خواطر حزينة .
المقطع الأول
)1- 5 ) الألم الذي ألم بالشاعر من جراء بعده وغربته.

1- دَاءٌ أَلَمَّ فخِلْتُ فيــــــــــهِ شِفَائي من صَبْوَتي ، فتَضَاعَفَتْ بُرَحَائي
2- يَا لَلضَّعيفَينِ ! اسْتَبَدَّا بي ، ومَا في الظُّلْـــــمِ مثــلُ تَحَكُّمِ الضُّعَفَاءِ
3- قَلْـــبٌ أَذَابَتْهُ الصَّبَابَةُ وَالجَوَى ، وَغِلاَلَــــةٌ رثتْ مِــــــنَ الأَدْوَاءِ
4- وَالـرُّوحُ بَيْنَهُمَــا نَسِيـــمُ تَنَهُّــدٍ في حَالَيِ التَّصْوِيبِ وَالصُّعَدَاءِ
5- وَالعَقْـلُ كَالمِصْبَاحِ يَغْشَى نُورَهُ كَدَرِي ، وَيُضْعِفُهُ نُضُوبُ دِمَائي
المفردات :
1- الصبوة : شدة الشوق والحب ، البرحاء : اشتداد المرض .
2- الضعيفان : الجسم والقلب .
3- الصبابة : الحب الشديد ، الجوى : حرق القلب ، الغلالة : الثوب الرقيق ، رث : بلي .
4- التصويب : الشهيق ، الصعداء : الزفير .
5- الكدر : ما يخالط النفس من حزن أو كآبة ، نضوب : جفاف .
الشرح :يتحدث الشاعر عن المرض الذي أصابه وحل به وظن أن الداء يشفيه من عذاب الحب ولكنه زاد عذابه وشقائه ، وأتعبني قلبي وجسدي ظلما رغم ضعفهما وأقسى الظلم ظلم الضعيف ، وأن الضعيفان بلي قلبي الذي ذاب حرقة وحبا وجسمي الذي أبلته الأسقام ، فلم يبق مما يشير إلى بقائي على قيد الحياة إلا روح ضعيفة تتردد بين القلب والجسد ، وأن الحزن الشديد أعمى قلبي وأضعفه جفاف دمي فلم يعد يرى الأمور بوضوح .
الخيـــال :تشيع في هذه الأبيات مجموعة من الصور منها : في البيت الثالث ( قلب أذابته الصبابة ) استعارة مكنية ، والعقل كالمصباح تشبيه ، ومن الأساليب الإنشائية ( يا للضعيفين ) أسلوب نداء غرضه التعجب والدهشة ، تضاعفت : كناية عن الشدة ونجده يصور ما بقي من حياته وروحه الضعيفة التي تتردد بين القلب والجسد كما في البيت الرابع .
اللغــــــــة :
- الألفاظ واضحة ، سهلة موحية بالآلام النفسية ، نجده يستعمل الكلمات التي أصابها المرض مثل ( العقل ، والقلب وغيرها من الألفاظ ) ، كما استعمل الشاعر الكلمات التي تدل على الشوق مثل ( الصبوة والصبابة والجوى ) ويستمر الجو النفسي الحزين وما أصابه من يأس رغم تفاؤله بالشفاء القريب لكن انعكست الصورة من تفاؤل وفرح إلى تشاؤم وحزن .
[ ]المقطع الثاني ( 6 – 7 )عذاب الحب وآلام المرض .[/
6ـ إنــــــي أقمت على التعلة بالمنــى فـــــي غربة ـ قالوا ـ تكون دوائي
7ـ إن يشـف هذا الجسم طيب هوائها أيلـــطف النيران طيــــــــــب هواء ؟
8ـ عبــــث طوافي فـــــي البلاد وعلة في علـــــــة منفــــــاي لا ستشفاء
9ـ متفـــــــرد بصبابتـــــــي، متفـــــرد بكآبتـــــــي ، متفـــــــــــرد بعنائـى
المفــــــــــردات: (6)التعلة: التعلل. المنى: آلامال جمع منية.
(8) منفاى: نفي وغربتي . لا ستشفاء: طلبا للشفاء.
(9) صبابى: شدة شوقي . كآبتي: حزني . عنائى: ألمي أو تعبي .
الشـــرح : لقد عملت بنصيحة الأصدقاء . وأقمت غريبا في الإسكندرية متعللا بالأمل في الشفاء ـ ولو فرضنا أن طيب الهواء سينعش الجسم . ويخفف مرضه فهل يعقل أن الهواء يخمد نيران الحب في القلوب ؟ أو أنه يزيدها اشتعالا ـ؟ ولذلك أحس أن هذه الغربة طلبا للعلاج عبث فقد جمعت بين المرض والشوق فأضافت إلى علة الجسم علة الحب ، وعذاب القلب ـ فأنا أعانى شوقا وحزنا وآلاما فريدة لا نظير لها .
الخيــــــال :
في البيت السادس (( في غربة تكون دوائى )) تشبيه للغربة بالدواء وفيه تجسيم وإيحاء بالألم والنفور . وفي البيت السابع (( إن يشف هذا الجسم طيب هوائها )) استعارة مكنية تصوير الهواء الطيب دواء يشفي . وفيها توضيح للفكرة ، وإيحاء بنقاء الجو ، و(( النيران)) استعارة تصريحية فقد شبه الأشواق بالنيران وحذف المشبه ، وصرح بالمشبه به وفيها تجسيم وإيحاء بشدة الحب ، وفي البيت الثامن (( منفاي للاستشفاء علة في علة )) تشبيه فقد جعل النفي مرضا آخر يصيبه ، والبيت التاسع كناية عن كثرة همومه .
اللغــــــــة :
- الألفاظ واضحة ، سهلة موحية بالآلام النفسية . انظر إلى كلمة (( التعلة )) التي توحي بالآمال الكاذبة ، ثم إلى (( قالوا )) بعدها وهي جملة معترضة تؤدي معنى زعموا ، وتوحي بالشك في فائدة هذه الرحلة وتمهد لقوله (( إن )) الدالة على الشك في البيت السابع ، ثم يؤكد هذا الشك بالاستفهام المبنى على حقيقة علمية وهى أن الهواء يزيد النار اشتعالا فكيف يزعمون أنه يلطفها ؟ ثم يقرر بعد ذلك أن الرحلة عبث فيقول : (( عبث طوافي )) وهو أسلوب قصر حيث قدم الخبر النكرة على المبتدأ المعرفة ، وعرضه البلاغي التخصيص ، وقصر الطواف على العبث ولا شيء آخر ، وكذلك (( علة في علة منفاى)) فالنفي هو العلة المضاعفة بعينها . ثم انظر إلى حسن التقسيم في هذه الجمل المتناسقة في البيت التاسع (( متفرد بصباتي ، متفرد بكآبتي ، متفرد بعنائى )) لتجد الموسيقى واضحة ، وإضافة كل منها إلى ياء المتكلم للإيحاء بأنه ألم خاص به ، ثم تكرار لفظ متفرد لتوكيد هذا الشعور بالألم .
- من الأساليب الإنشائية (( أيلطف النيران طيب هواء )) ؟ استفهام غرضه البلاغي النفي وبقية الأساليب خبرية للتحسر .
من المحسنات البديعية الطباق بين (( أقمت ، غربة )) وبين (( علة ، استشفاء )) ، وحسن التقسيم في البيت التاسع وأثره إحداث موسيقى ظاهرة .
[
 ]المقطع الثالث
( 10 – 20 ) شكوى وضيق
.[/ 

10ـ شاك إلى البحر اضطراب خواطري فيجيبنــــي برياحــــه الهوجــــاء
11ـ ثاو علـــى صخـــــر أصم وليت لي قلبا كهـــــذي الصخـــرة الصماء
12ـ ينتابهــا مــــوج كموج مكارهـــــي ويتفها كالسقــــــم فـــي أعضائي
13ـ والبحـــــر خفاق الجوانب ضائــــق كمـــــدا كصدري ساعة الإمســـاء
14ـ تغشـــــى البريــة كـــدرة وكأنهــــا صـعــدت إلى عينــــي من أحشائــي
15ـ والأفــــــق معتكــــــر قريح جفنه يغضى على الغمــــــرات والأقــذاء
16ـ يا للغـــــــــروب وما به من عبرة للمستهــام وعبــــــــــرة للرائي
17ـ أو ليــــــس نزعا للنهـار وصرعة للشمس بيـــن مآتـــــم الأضواء ؟
18- أَوَلَيْسَ طَمْسَــــاً لِلْيَقِينِ ، وَمَبْعَثَاً لِلشَّكِّ بَيْنَ غَلائـــــــــِلِ الظّلْمــــَاءِ ؟
19- أَوَلَيْسَ مَحْوَاً لِلوُجُودِ إلَــــى مَدَى وَإبـــــادَةً لِمَعَالِـــــــمِ الأَشْيــــــــَاءِ ؟
20- حَتَّى يَكُونَ النُّـــــورُ تَجْدِيدَاً لَهَا ، وَيَكُونَ شِبْهَ البَعْـــــــــثِ عَــوْدُ ذُكَاءِ
المفـــــــردات : (10)
خواطري : أفكاري . جمع خاطر . الهوجاء : الشدة. وجمعها : هوج .
(11) ثاو : مقيم . صخر أصم : صلب مصمت .
(12) ينتابها : يصيبها ويتوالى عليها . مكارهي : جمع مكره ، وهو ما يكرهه الإنسان والمراد الشدائد التي تتوالى على قلبه . يفتها : يفتتها . السقم : المرض . والمعنى أن الموج يتوالى على الصخرة فيفتتها كما يضعف المرض الأعضاء .
(13) خفاق : مضطرب . كمدا : حزنا مكتوما .
(14) تغشى : تغطى. البرية : الكائنات . كدرة : ظلام . أحشائي : الأحشاء كل ما يدخل الجوف والمراد القلب .
(15) الأفق : منتهى ( مد البصر ) . متعكر : مظلم . قريح جفنه : جريح والمراد محمر بلون الشفق عند الغروب . يغضى : يغمض . الغمرات : الشدائد . الأقدار : جمع قذى وهو ما يقع في العين من تراب ونحوه ، ومعنى (( يغضى على الأقذاء )) يغمض جفنيه على الآلام والأقذاء .
(16) يا للغروب : أسلوب تعجب . عبرة بفتح العين دمعة ، وبكسرها عظة . المستهام : المشتاق . الرائي : المتأمل .
(17) نزعا : النزع خروج الروح واختصار المريض والمراد أن الغروب نهاية النهار. صرعه : موتا . مآتم : جمع مآتم وهو كل مجتمع في حزن أو فرح ، وغلب استعماله في الأحزان . وللبيت رواية أخرى فيها (( جنازة )) (( بدل )) (( مآتم )) .
( 18) طمس : محا .
( 20 ) البعث : الإحياء ، ذَكاء : اسم علم للشمس .
الشـــــــــرح :
يقول الشاعر : في هذه المساء وقفت على شاطىء البحر، وشكوت له حزني واضطراب نفسي وأفكاري . فأجابني بما يدل على اضطرابه هو أيضا فزاد حيرتي وألمي ـ وجلست على صخر من صخور الشاطئ متمنيا أن يكون قلبي قاسيا مثله ، لا يتأثر بعواطف الحب والشوق ولا يحس بالألم والعذاب ـ فوجدت الصخرة ضعيفة معذبة مثلي فالأمواج تتوالى عليها كما تتوالى المصائب على قلبي فتضعف . وتتناثر أجزاؤها كضعف أعضائي من السقم والمرض والبحر الواسع أصبح مضطرب الجوانب ضيقا كما يضيق صدري من الحزن في المساء ( وقد كرر الشاعر اضطراب البحر لتأكيد حزنه وضيق صدره ) والكون كله مغلف بالسواد كأن الأحزان السواد التي تملأ نفسي صعدت إلى عيني فجعلتني أرى كل شيء يغطيه السواد ، حتى الأفق الممتد مظلم يختلط سواده بحمرة الشفق ، فكأنه شخص مهموم مقرح الأجفان وتوالت عليه الشدائد فأصبح يغضى على الآلام والهوان ، عجبا للغروب وما يحمل من معادن مختلفة فهو يحرك الحزن في نفس العاشق فيبكي ، ويوحي للتأمل معاني وعظات بالغة ـ فهو نهاية للنهار ، وموت للشمس ، تبكي عليها الأضواء وهى تشيعها ـ وفي قلب هذا المشهد المؤلم حيث يرحل النهار ، يمحو المساء كل معالم الوجود الواضحة ، فيغالبك الشك في ما ترى لأنك لا تستطيع تبين المرئيات والمعنى الظاهر : إذا حل الغروب ساورتك الشكوك وامحى يقينك ، ما يزال الشاعر في إطار الصورة ذاتها : يمحو الظلام حدود الأشياء فلا تستبين بوضوح وقوله إلى مدى يقصد منه فترة الليل ، إذا عاد النور ظهرت معالم الأشياء فكأن الشمس بعثتها من العدم .
الخيــــال:
انعكست الحالة النفسية الحزينة للشاعر على الطبيعة حوله فرسم صورة كلية لموقفه على شاطئ البحر عند المساء وقد امتزجت فيها الأفكار بالمشاعر. فاكتملت أجزاؤها وعناصرها وهي (( الشاعر والبحر، والرياح والصخر، والأفق ، والظلام ، وحمرة الشفق )) وتتجلى فيها خطوط اللون ، والصوت ، والحركة . فاللون نراه في زرقة البحر ، وغبرة الصخر ، ورغوة الموج ، وكدرة المساء ، واعتكار الأفق ، وقروح الجفن . والصوت نسمعه في شكوى الشاعر، وإجابة الحر الهادر ، وعصف الرياح الهوجاء . والحركة نحسها في اضطراب الموج، وتفتت الصخر، وخفقان البحر . وفي خلال تلك الصورة الكلية جاءت صور جزئية ففي البيت العاشر : (( شاك إلى البحر )) استعارة مكنية تصور البحر صديقا يبثه الشاعر شكواه ، وفيها تشخيص وإيحاء بامتزاج نفس الشاعر بالطبيعة وكذالك (( يجيبني برياحه الهوجاء )) حيث تخيل البحر إنسانا مضطربا والرياح الشديدة تعبر عن شدة هياجه وانفعاله . فالتصوير هنا ممتد وفي البيت الحادي عشر (( قلبا كهذه الصخرة الصماء )) تشبيه يوضح أمنية الشاعر في عدم الإحساس . وهو يوحي بكثرة الآلام . وفي البيت الثاني عشر (( موج مكارهي )) تشبيه للمكاره في تتابعها بالموج ، و (( موج كموج مكارهي )) تشبيه لموج البحر في تتابعه على الصخور بالمكاره في تتابعها على النفس ، و (( يفتها كالسقم في أعضائي )) تشبيه لموج البحر حين يفتت الصخر بالمرض في إضعاف الأعضاء ، وفي البيت الثالث عشر (( البحر ضائق كمدا )) استعارة مكنيه تصور البحر على اتساعه إنسانا حزينا ضيق الصدر ، وفيها تشخيص وإيحاء بضيق نفس الشاعر . و (( البحر ضائق كمدا كصدري )) تشبيه يوحي بكثرة هموم الشاعر وقت المساء ، وفي البيت الرابع عشر (( كأنها صعدت إلى عيني من أحشائي )) كناية عن شدة حزن الشاعر ، وفي البيت الخامس عشر (( الأفق معتكر قريح جفنه )) استعارة مكنية تصور الأفق إنسانا معذبا تقرحت أجفانه . وفيها تشخيص وإيحاء بما في نفس الشاعر من قلق . و(( يغضي على الغمرات والأقذاء )) ترشيح لها يقويها ، ولعلك تلحظ من خلال تلك الصور الامتزاج القوي بين الشاعر والطبيعة فهو يدير معها الحوار ، ويبث فيها الحركة ، ويتخذ منها أصدقاء تنعكس عليهم مشاعره .
رسم الشاعر في هذه الأبيات صورة كلية أخرى حزينة للغروب وأثره في نفسه وأجزاؤها : ( عاشق بيكي، ومشاهد يتأمل ، ونهار يتحضر ، وشمس تموت ، وأضواء تشيع ) . وهي كما ترى أجزاء مؤتلفة تعكس آلام شاعر مريض عاشق يوحي إليه مساء الطبيعة بمعنى نهاية حياته ، ورسم أمام عينة صورة يرى فيها مصيره . وحركة تحسها في (( نزعا ، وصرعة ، ومآتم )) وهى امتداد للوحة الفنية التي رسمها في القطعة . وفي خلالها جاءت صور جزئية ففي البيت السابع عشر (( نزعا للنهار )) استعارة مكنية تصور النهار عند الغروب مريضا يحتضر ، ويلفظ أنفاسه الأخيرة . وفيها تشخيص وإيحاء بالانقباض النفسي و(( صرعه للشمس )) استعارة مكنية ، و(( مآتم الأضواء )) تشبيه للأضواء بجماعة تودع الشمس وفيها تشخيص وإيحاء باستمرار كآبة الشاعر .
- كما أن لفظ (( تغشي )) يوحي بالانتشار.
ومن الأساليب الإنشائية (( يا للغروب )) أسلوب تعجب يوحي بقوة الانفعال ، و(( أوليس نزعا للنهار ... ))؟ ، و(( أوليس طمسا لليقين ... )) ؟ ، (( أوليس محوا للوجود ... )) ؟ أساليب استفهامية غرضها البلاغي التقرير ، وبقية الأساليب خبرية لإظهار الأسى والألم .
ومن المحسنات البديعية الجناس الناقص بين (( عبرة ، عبرة )) وسر جمالة الموسيقي وتحريك الذهن .
اللغـــة :
الألفاظ منتقاة بدقة وعناية فهي فصيحة أصيلة . ولكنها سهلة واضحة ويغلب عليها طابع الحزن والاضطراب لتلائم ما في نفس الشاعر من آلام وأحزان . انظر إلى (( شاك )) و (( اضطراب خواطري)) و (( ثاو )) و (( ينتابها )) و (( مكارهي )) و (( السقم )) و (( ضائق )) و (( كمدا )) و(( كدرة )) و (( معتكر )) يطالعك جو نفسي كئيب يلف الشاعر من كل جانب كما أن تخصيص ضيق الصدر بساعة الإمساء طبيعة بشرية منذ القدم فالمساء ينذر بقدوم الليل الذي يهجم على القلوب بجيوش الهموم . وقد تردد ذلك في شعر امرئ القيس حيث يقول :
وليل كموج البحر أرخى سدوله علــــي بأنواع الهموم ليبتلى
المقطع الرابع
( 21 – 27 ) خواطر حزينة
.

21ـ ولقــــــــــــد ذكرتك والنهار مودع والقلــــب بيــــــن مهابة ورجاء
22ـ وخواطـــــــري تبدو تجاه نواظرى كلمــى كـــدامية السحاب إزائـى
23ـ والدمــع من جفني جفني مشعشعا بسنـا الشعــــاع الغارب المترائي
24ـ والشمس فـــي شفق يسيل نضاره فــــــوق العقيق على ذرا سوداء
25ـ مــــرت خــلال غمامتين تحــــــدرا وتقطـــــرت كالدمعــــــة الحمراء
26ـ فكــــــأن آخر دمعـــــة للكون قـــد مزجــــت بآخــــر أدمـــعي لرثائي
27ـ وكأننــــي آنست يومــــي زائـــــلا فرأيــت فـــــي المرآة كيف مسائي
المفــــــــــردات:
(21) ذكرتك : الخطاب لحبيبته التي تركها في القاهرة . مودع : راحل ، مهابة : خوف .
(22) تجاه : أمام . نواظرى : عيوني . كلمى : جريحة . دامية : ملطخة بالدم والمراد حمراء . إزائي : أمامي .
(23) مشعشعا : ممزوجا . سنا : ضوء . الغارب : المنحدر إلى الغروب . المترائى : الظاهر .وهى مجلوبة للقافية لأنها لا تخدم المعنى .
(24) الشفق : أشعة حمراء تصبغ الأفق عند الغروب وتستمر بعده أكثر من ساعة . النضار : الذهب والمراد هنا لونه . العقيق : الياقوت وهو من الأحجار الكريمة لونه أحمر والمراد هنا السحاب الأحمر ، ذرا : جمع ذروة وهى أعلى الشيء .
(25) خلال : بين . غمامتين : سحابتين . تحدرا : وهى تنحدر إلى الغروب . تقطرت : سقطت .
(26) رثائي : البكاء على.
(27) آنست : أحسست . يومي : المراد عمري . مسائي : المراد نهايتي .
الشــــــــــرح:
ويقبل المساء فيختلط اليأس بالأمل والخوف بالرجاء ذكرتك أيتها الحبيبة وذلك تبدو أمام عيني كالسحاب الأحمر الذي أراه أمامي ودمعي يسيل من جفني ممزوجا بحمرة الأشعة الغاربة ـ والشمس غارقة في الشفق الذي يجمع بين صفرة الذهب وحمرة الياقوت ويترامى هناك بعيدا على قمم الروابي السوداء ـ ثم انحدرت الشمس بين غمامتين كأنها دمعة حمراء بين جفنين ـ فتخيلت الكون يذرف آخر دمعة له ليشاركني حزني ودموعي وكأنني أحسست قرب نهايتي في تلك الصورة الحزينة التي عرضها هذا المساء الكثيب .
الخيـــــــال: .
وفي البيت الحادي والعشرين (( والنهار مودع )) استعارة مكنية فيها تشخيص للنهار .وفي البيت الثاني والعشرين (( خواطري تبدو تجاه نواظري كلمى )) استعارة مكنية تصور الخواطر جسما جريحا وفيها تجسيم وإيحاء بالتمزق النفسي و(( دامية السحاب )) استعارة مكنية تصور السحاب الأحمر جسما يسيل منة الدم وفيها توضيح للفكرة برسم صورة لها و(( خواطري كدامية السحاب )) تشبيه يوحي بقوة امتزاجه بالطبيعة والخيال في البيت المركب ، وفي البيت الرابع والعشرين (( نضارة )) تشبيه للشفق بالذهب و(( العقيق )) استعارة تصريحية شبه السحاب الأحمر بالياقوت وحذف المشبه وصرح بالمشبه به وفيها توضيح للفكرة برسم صورة لها ولعلك تحس ما فيها من مخالفة الجو النفسي الحزين لأن الذهب والعقيق يوحيان بالفرح وفي البيت الخامس والعشرين تشبيه تمثيلي فقد شبه صورة الشمس وهي تمر بين سحابتين بصورة دمعة تسقط من بين جفنين وهو يوضح الفكرة ويوحي بحزن الشاعر . وفي البيت السادس والعشرين (( آخر دمعة للكون )) استعارة مكنية تصور الكون إنسانا يذرف آخر دمعة ، وفيها تشخيص وإيحاء بتجاوب الكون معه . وفي البيت الأخير (( يومي )) مجاز مرسل عن العمر علاقته الجزئية . و(( المرآة )) استعارة تصريحية تصور مشهد الغروب مرآة تعكس نهايته و(( مسائي )) استعارة تصريحية تصور نهايته مساء .
رسم الشاعر في هذه الأبيات صورة كلية أخرى حزينة للغروب وأثره في نفسه وأجزاؤها : ( وخواطر جريحة ، وسحاب أحمر ، ودمع يسيل ، وشفق ذهبي ،وحمرة وسواد ) . وهي كما ترى أجزاء مؤتلفة تعكس آلام شاعر مريض عاشق يوحي إليه مساء الطبيعة بمعنى نهاية حياته ، ورسم أمام عينة صورة يرى فيها مصيره .
وخطوطها الفنية لون تراه في حمرة الشمس والشفق وكلمي ودامية ، والنضار والعقيق ، والدمعة
الحمراء ، والذرا السوداء ، وصوت تسمعه في بكاء العاشق ، ووداع النهار ، وذكر الحبيبة ، وحركة تحسها في (( يسيل ، ومرت ، وتحدرا ، وتقطرت )) وهى امتداد للوحة الفنية التي رسمها في القطعة . وفي خلالها جاءت صور جزئية ، والطباق بين (( مهابة ، رجاء )) . الأساليب في هذا المقطع خبرية لإظهار الأسى والألم .
- اللغــــــة :
يستمر الجو النفسي الحزين مسيطرا على هذا الجزء من النص . كما سيطر على ما سبق . فجاءت الألفاظ موحية بالحزن مثل (( عبرة ، نزعا ، صرعة ، مآتم ، كلمى ، دامية ، دمعة ، رثائي )) وكلها تتعاون في التعبير عن لآلام الشاعر .
ـ الموسيقي :
في النص الوزن والقافية والجناس وحسن التقسيم وداخلية خفية نابعة من اختيار الألفاظ وحسن تنسيقها وترابط الأفكار ، وروعة الصور وقد اختار للوزن بحر الكامل ليتسع لمشاعره وعاطفته الفياضة ، كما اختار للقافية همزة مكسورة لتلائم انكسار نفسه ، والحزن الذي يملؤها ، واختار الشكل التقليدي للقصيدة العربية التي تقوم على عمودين متقابلين .
دَاءٌ أَلَمَّ فخِلْتُ فيــــــــــهِ شِفَائي من صَبْوَتي ، فتَضَاعَفَتْ بُرَحَائي
دا ئن أ لم م ف خل ت في ه ش فا ئي من صب و تي ف ت ضا ع فت ب ر حا ئي
- - ب - ب ب - ب - ب ب - - - - ب - ب ب - ب - ب ب - -
متْــفاعلن متـَـفاعلــن فعلاتـــن متْــفاعلــــن متـَــفاعلـــــــن فعلاتـــــن
وقد حرص الشاعر على التصريع في مطلع قصيدته كما نجد ذلك من خلال تقطيع البيت الأول من القصيدة .
التعليـــــــــــــــــــــــــــــــــق حول القصيدة .
هذه القصيدة من الشعر الغنائي الذاتي غرضها الوصف الذي تطور في العصر الحديث ، فأصبح تعبيرا عما في النفس من مشاعر وانفعالات ، مع امتزاج بالطبيعة وتشخيص لها ، وبث الحياة والحركة فيها ، وجعل الإنسان عنصرا من عناصرها إيمانا بوحدة الوجود التي هي أساس (( المدرسة الرومانسية )) في الشعر . فالشاعر هنا جالس على الشاطئ وحوله مظاهر الطبيعة في وقت المساء . وفي نفسه آلام المرض ، وعذاب الحب ، وذلك ينعكس على نظرته للطبيعة فيصفها حزينة مثله . قلقة ، مضطربة كخواطره . ثم يندمج في هذا الوصف والتأمل الحزين حتى ينتهي إلى أن نهاية النهار تمثيل له نهاية حياته . فكأنه يرى في المرآة صورة لمساء عمرة . وهذا يوضح لنا سبب اختلاف الأساليب الأدبية باختلاف الجو النفسي للأديب ، فلو كان سعيدا لأحس لونا ورديا ، ولكن كل شيء في نظر الشاعر هنا حزين لأن هذا الحزن نابع من قلبه هو ، ولذلك يقول :
تغشى البرية كدرة وكأنها صعدت إلى عيني من أحشائي
الأفكار واضحة ، مرتبة ، عميقة ، جديدة ، فالقصيدة مترابطة الأفكار والمعاني ، وكل فكرة تسلمك إلى ما بعدها في تسلسل رائع ، وإحكام قوى .
الصور :
جمع فيها الشاعر بين التصوير الكلى القائم على الصوت واللون والحركة ، والخيال الجزئي من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز ، ومعظمها صور جديدة تعتمد على التشخيص ، وبث الكائنات في الحياة الحامدة ، فالبحر إنسان حزين ، والنهار يحتضر ، والشمس تموت ، والأضواء تقيم لها مآتم ، والخواطر جريحة ، والكون يبكى ، وان كان بعضها قديما كتشبيه الشفق بالنضار ، وتشبيه القلب بالصخرة الصماء .
اللغة :
تمتاز الألفاظ بالسهولة والوضوح مع السلامة والفصاحة . فقد كان مطران من المجددين الأوائل الذين حافظوا على أصالة اللغة محافظة شديدة ، ولكن بعض الألفاظ جاءت للقافية فكان قلقا في موضعه كما في البيت الثالث والعشرين ، وبعضها لم يلائم الجو النفسي كما في البيت الرابع والعشرين . ولكنها مع ذلك هفوات هينة لا تخل بإحكام الصياغة ، ووضوح المعنى ، وروعة النص ، وقد استعان ببعض الأساليب الإنشائية التي تثير المشاعر . كما استعان بقليل من المحسنات البديعية غير المتكلفة .
مطران زعيم (( المدرسة الرومانسية )) في الشعر العربي المعاصر ، وهي المدرسة المتأثرة بالثقافة الغربية ولاسيما الفرنسية ، وتتميز بالعاطفة القوية ورفض الواقع ، والتحرر من التقليد ، والامتزاج بالطبيعة .
6- الخصائص الفنية لأسلوب مطران :
سهولة الألفاظ ووضوحها مع التمسك بالفصاحة والأصالة ، وإحكام الصياغة ، والزهد في المحسنات والتنويع بين الخبر والإنشاء ، وعمق المعاني والأفكار وترابطها والابتكار فيها ، ورسم الصورة الكلية ، وتشخيص الطبيعة وإجراء الحوار معها ، وصدق التجربة مع التزام وحدة الوزن والقافية .
7- ملامح شخصية الشاعر كما تبدو من خلال النص : رقيق الشعور ، مرهف الحس ، واسع الثقافة ، عميق الفكر ، رائع التعبير والتصوير .
9- المحافظة والتجديد :
أ- من ملامح المحافظة على القديم :
1- التزام الوزن ووحدة القافية .
2- أصالة اللغة ودقتها .
3- انتزاع بعض الصور من التراث القديم .
ب- من ملامح التجديد :
1- اختيار عنوان للقصيدة تدور حوله الأفكار .
2- رسم الصور الكلية .
3- الوحدة الفنية المتمثلة في وحدة الموضوع ووحدة الجو النفسي .
4- التشخيص ومزج النفس بالطبيعة .
مع تمنياتي لكم دوام التوفيق والنجاح .

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button