البكاء بين يدي زرقاء اليمامة للشاعر أمل دُنقل.. رؤية أخرى

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية البكاء بين يدي زرقاء اليمامة للشاعر أمل دُنقل.. رؤية أخرى

البكاء بين يدي زرقاء اليمامة للشاعر أمل دُنقل.. رؤية أخرى

البكاء بين يدي زرقاء اليمامة للشاعر أمل دُنقل.. رؤية أخرى
الشاعر المصري / امل دنقلتقديم: حمادة نصار
كانت نكبة 67 نتيجة حتمية لتغييب الأمة المتعمد في وادي النسيان.. كانت إفرازا طبيعيا لسياسة الإهمال والتهميش التي مارسها الأشاوس أبطال مسرحية الانقلاب اليوليوي ضد شعب بأكمله.. تاركين له مساحة تكاد لا ترى بالعين المجردة للعب الأدوار الهامشية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
أقصى ما يمكن تأديته هو أن يصطف على جانبي الطرقات لتوديع الذاهب.. واستقبال الآيب من أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. أن يلتف حول المذياع لسماع الخطب النارية والبيانات الثورية.. وانتصارات الزعيم الأسطورية على الرجعية وأعوانها ولو في بلاد الواق واق !!.
وتظل هذه هي مهمة الشعب الأساسية التي ينبغي أن لا يتعداها أو يتجاوزها بحال .
لكن يبقى المجال مفتوحا لمن يجيد التسلق والتملق.. لمن يتقن النفاق بكل صوره وأشكاله.. لمن يحمل المجامر.. ويحرق البخور.. لمن يُجيد قرع الطبول ونفخ المزامير !! .
ويبقى الشرفاء خارج الملعب يعضون الأنامل من الغيظ.. على الأوضاع المقلوبة.. والحقوق المسلوبة ويظل آلهة الأوليمب يشعلون الحرائق ويلهبون المشاعر في حرب إنشائية لا نهاية لها على طريقة " دون كيشوت" ومحاربة طواحين الهواء.
حتى إذا وقعت الواقعة.. وزلزلت الأرض زلزالها.. وضًَُُرب طيراننا وهو قابع مستكين كالبط على الأرض.. واحتلت أرضنا الحبيبة.. هنا تذكر السادة الحاكمون الشعب المنسي في صحراء عبس.. الشعب الذي رباه السادة على الحلب والصر لا على الكر والفر.
تذكر السادة شعبهم المنسي ليستدعوه هنا كي ما يدفع من دمه ودمعه وقوت أولاده ومقدراته الضريبة الباهظة ثمنا لقرارات الزعماء الارتجالية.. كي ما تظل قصورهم مضاءة بالمسرات وألوان الترف.
وقد أحسن الشاعر هنا في عرض هذا المعنى ولو بشكل رمزي.. وإليكم البكائية كاملة وعليكم السياحة في الأقاصي البعيدة للمعاني:
أيتها العرافة المقدَّسهْ..
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسهْ
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ..
عن فمكِ الياقوتِ عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسهْ
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسهْ!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!
أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدارْ!
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهارْ؟!
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسهْ؟!
تكلَّمي أيتها النبية المقدسهْ
تكلمي.. باللهِ .. باللعنةِ.. بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان..
تلعقَ من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!
تكلمي.. لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي.. ولا الجدرانْ!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..
ولا احتمائي في سحائب الدخانْ!
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين.. عذبةُ المشاكسهْ
(ـ كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي.. ونحن في الخنادقْ
فنفتح الأزرار في ستراتنا.. ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحراء المشمسهْ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسهْ..
وارتخت العينان!)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدانْ؟
والضحكةُ الطروب: ضحكته..
والوجهُ.. والغمازتانْ!؟
أيتها النبية المقدسهْ..
لا تسكتي.. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ «اخرسْ..»
فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيانْ!
ظللتُ في عبيد (عبسِ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها.. أردُّ نوقها..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ: الكسرةُ.. والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسهْ.
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسانْ
دُعيت للميدانْ!
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأنْ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأنْ..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيانْ،
أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة!!
تكلمي أيتها النبية المقدسهْ
تكلمي.. تكلمي..
فها أنا على التراب سائلً دمي
وهو ظمئً. يطلب المزيدا.
أسائل الصمتَ الذي يخنقني:
«ما للجمال مشيُها وئيدا.. ؟!»
«أجندلاً يحملن أم حديدا..؟!»
فمن تُرى يصدُقْني؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا:
«ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!»
«ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!»
أيتها العَّرافة المقدسهْ..
ماذا تفيد الكلمات البائسهْ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!
ونحن جرحى القلبِ،
جرحى الروحِ والفم.
لم يبق إلا الموتُ..
والحطامُ..
والدمارْ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ
مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة!
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ.. عمياءْ!
وما تزال أغنياتُ الحبِّ.. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ.. والأزياءْ!
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء.. الأبله.. المموَّها..

شرح لقصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة - أمل دنقل

هذه قصيدة تدين الأنظمة التي أوقعت الهزيمة بشعوبها، و تدلّ على أن الهزيمة تتخلق في الداخل قبل أن تأتي كالعاصفة القادمة من الخارج، و تدلّ على أن الشعوب المحكومة لا تملك سوى البكاء عندما تشعر بهوان وضعها، ولكن من الزاوية التي تجعل من بكائها تمرداً على كل من تسببوا في هزيمتها.

والواقع أن قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أهم قصائد أمل بعد هزيمة العام (السابع والستين ) وأعادت إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الإبداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام ( 1967م )  فلم يصدقه أحد إلا بعد أن حدثت الكارثة. وإذ أكدت (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر، فإنها أكدت الهوية القومية للشاعر من حيث وصل الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى إمكاناً للمستقبل إلا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات، وتتجاوز ما في الحاضر من ثغرات.

ولا شك أن جانباً لافتاً من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه إلى (زرقاء اليمامة) التي هي مثله بمعنى من المعاني، كي ينفجر في حضرتها بالكلمات والشكوى..

ولذلك كان بكاء هذا العبد علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الحرية والديموقراطية عن قبائل (عبس) العربية، من العصر الجاهلي إلى العام السابع والستين، حين كتبت هذه القصيدة، كما كان هذا البكاء تأبيناً لزمن مضى، وإدانةً لأخطاء زمن لم يخلف سوى الكارثة، وبحثاً عن زمن يأتي بالخلاص من هذه الكارثة! 

وأعترف أنني كلما طالعت شاشات التليفزيون الأجنبية والعربية، ورأيت المذابح البشعة التي ارتكبها الإسرائيليون في حق الشعب العربي الفلسطيني، في رام الله أو نابلس أو جنين أو طولكرم وغيرها من الأماكن الفلسطينية العزيزة، شعرت بالهزيمة والانكسار والعجز ووجدت نفسي أستعيد الصوت الصارخ في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من عجزه ومحنته، ومضيت مثله أسأل عن السواعد المقطوعة التي ظلت ممسكة بالرايات العربية المنكسة، وعن جثث الأطفال ملقاة بين الخيام، وعن وقفة المرأة الفلسطينية بينما الدبابات الإسرائيلية تمضي فوق حطام منازلهم التي هدمتها القذائف الغادرة، فأقول لنفسي إلى متى نحمل - نحن العرب - هذا العار؟ إلى متى؟!

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button