مدخل إلى دراسة “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ
الأربعاء 4 يونيو 2025

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية مدخل إلى دراسة “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ

مدخل إلى دراسة “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ

محتويات المقال

    من أجل المساهمة في دعم تلاميذ 2باك أدب وعلوم إنسانية وهم في خضم الاستعداد للامتحانات الوطنية ، وتعميما للفائدة ، تنشر جمعية أساتذة اللغة العربية بوزان مجموعة من المقالات التوجيهية والملخصات في بعض مواد اللغة العربية .عسى أن ينفع بها الله تلامذتنا و يتوجون مجهوداتهم بالتوفيق والنجاح إن شاء الله .
    / لمحة تاريخية عن نشأة الرواية العربية وتطورها
       اختلف النقاد والدارسون حول تحديد فترة نشوء الرواية العربية، كما اختلفوا حول النصوص الروائية التي تعد نصوصا رائدة في الرواية، لكن الأكيد أن نشأة الرواية العربية ترجع إلى أواخر القرن 19  مع محاولات أولى في اقتباس بعض الأعمال الغربية ومحاولة تقليدها من طرف بعض الأدباء في منطقة الشام (فلسطين-لبنان)، ثم جاءت مرحلة لاحقة حاول خلالها أدباء آخرون تجاوز اقتباس المضامين وتقليد بعض خصائص الرواية التقليدية الأوربية والروسية لمعالجة قضايا ترتبط بالمجتمعات العربية، وقد كانت هذه المحاولات الأولى في كتابة الرواية ينقصها الإتقان والنضج الفني. وقد أرجع بعض النقاد الفضل إلى محمد حسين هيكل صاحب رواية “زينب” 1914 في استواء الرواية العربية وبداية امتلاكها للنضج الفني، غير أن الدراسات الحديثة والأبحاث المتواصلة في الكشف عن النصوص الأولى بينت وجود بعض الأعمال الناضجة سبقت رواية “زينب”، منها “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران 1912، ورواية “بديعة وفؤاد” لعفيفة كرم 1906، ولا شك أن هناك أعمالا أخرى سابقة على هذه الأعمال لكتاب آخرين من أقطار عربية مختلفة.
       وقد تطور فن الرواية بدءا من ثلاثينيات القرن العشرين على يد رواد آخرين أسهموا بدور كبير في جعل الرواية فنا متميزا من فنون الأدب العربي نذكر منهم: محمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيى حقي وغيرهم، ثم جاء الجيل الثاني الذي تفرغ كليا لفن القصة والرواية فأبدع فيهما وعلى يديه احتلت الرواية المكانة الأولى بين أنواع الأدب، فصارت الرواية متداولة بشكل كبير بين القراء، وهو جيل نجيب محفوظ ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم…وقد تميزت الكتابة الروائية عند هؤلاء بطابع جمع بين التقليد والجدة.
       ومع جيل الستينيات ستشهد الرواية العربية تحولات كبرى في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية والحضارية للمجتمعات العربية، كما أصبحت الرواية تستفيد من التقنيات الفنية الحديثة في الرواية العالمية، وفي هذه الفترة ستبرز أسماء عديدة في مختلف البلاد العربية، نذكر من بينها: جمال الغيطاني ويوسف القعيد وجبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه وغائب طعمة فرمان وعبد الرحمن منيف ومحمد زفزاف ومحمد برادة…
    2/ سيرة نجيب محفوظ
       ولد نجيب محفوظ سنة 1911 بحي الجمالية في القاهرة، تلقى تعليمه الابتدائي بمدارس فؤاد الأول، ثم بالمدارس الخديوية الثانوية، والتحق بجامعة القاهرة، قسم الفلسفة، حيث حصل على الإجازة في الفلسفة. سجل رسالته للحصول على شهادة الماجستير في الفلسفة لكنه تخلى عنها لينقطع إلى كتابة القصة والرواية. بدأ نجيب محفوظ نشر قصصه القصيرة في الصحف والمجلات المصرية، وقد نشر أول قصة له بعنوان:”ثمن الضعف” سنة 1934 ثم تتابعت أعماله بالظهور إلى أن أصدر روايته الأولى بعنوان “عبث الأقدار” وتلتها “رادوبيس” و”كفاح طيبة” باعتبارها روايات تتخذ التاريخ الفرعوني منطلقا لها، قبل أن ينتقل إلى الرواية الواقعية التي دشنها برواية “القاهرة الجديدة”. وقد حصل نجيب محفوظ على عدة جوائز مصرية وعربية وعالمية أهمها جائزة نوبل للآداب سنة 1988 وتوفي نجيب محفوظ في 31 غشت 2006.
    3-إنتاجه الأدبي
       تنوع الإنتاج الأدبي الذي تركه نجيب محفوظ ما بين القصة والرواية والمقالة والترجمة، وكان أول كتاب أصدره نجيب محفوظ كتابا مترجما عن الإنجليزية بعنوان:”مصر القديمة” لجيمس بيكير، قبل أن يصدر أعماله الروائية والقصصية. ويقسم النقاد والدارسون المراحل التي مر بها إنتاجه الأدبي/ الروائي خاصة إلى أربعة مراحل:
    أ/المرحلة التاريخية الرومانسية
       وبدأها نجيب محفوظ بعبث الأقدار ثم رادوبيس وعبث الأقدار. وفي هذه الأعمال تناول جوانب من التاريخ الفرعوني المصري القديم وربطها عبر إشارات رمزية بالتاريخ المعاصر.
    ب/المرحلة الواقعية النقدية
       بدأها برواية “القاهرة الجديدة” التي تلتها مجموعة من الروايات التي عالجت الواقع الاجتماعي السياسي الاقتصادي لمصر خلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. من أهم هذه الأعمال: خان الخليلي- زقاق المدق- بداية ونهاية، وتوج هذه المرحلة بثلاثيته الشهيرة: بين القصرين- قصر الشوق- السكرية.
    ج/المرحلة الرمزية السيكولوجية
       وفي هذه الفترة انتقل نجيب محفوظ إلى معالجة قضايا إنسانية وكونية شاملة من منظور فلسفي رمزي يطرح الأسئلة ويغوص في قضايا الروح والدين والنفس والعلم، وإلى هذه الفترة تنتمي أهم أعماله الروائية: الطريق- الشحاذ- اللص والكلاب- ثرثرة فوق النيل، وتوج نجيب محفوظ هذه المرحلة برواية:”أولاد حارتنا”.   
    د/المرحلة التجديدية التجريبية
       وفي هذه الفترة ركز نجيب محفوظ على استثمار التراث العربي إلى جانب توظيف تقنيات فنية حديثة في كتابة الرواية، وإلى هذه الفترة تعود روايات مثل: ملحمة الحرافيش- رحلة ابن فطومة- حديث الصباح والمساء- ليالي ألف ليلة…
       إلى جانب الأعمال السابقة أصدر نجيب محفوظ حوالي 20 مجموعة قصصية وعملين آخرين حمل الأول منهما:”أصداء السيرة الذاتية” والثاني كان بعنوان:”أحلام فترة النقاهة”، كما جمعت، بعد وفاته، مقالاته الأدبية والفلسفية والسياسية في عدة أجزاء.
    4-قراءة عنوان الكتاب
       إن لعنوان النص دلالات ترتبط بالمتن الحكائي وتتخذ منحى رمزيا بحكم أن الرواية تعالج قضايا ذات أبعاد فكرية ونفسية واجتماعية. قد يوحي العنوان بنوعية الرواية من خلال ما يحمل من إشارات إلى احتمال المطاردة بين الشرطة وكلابها المدربة واللص الهارب مما يجعل القارئ يصنفها في سياق الرواية البوليسية، غير أن الدلالات العديدة والمكثفة للعنوان إذا ما نظر إليه في سياق الرواية يجعل التصنيف الأول/المحتمل مجرد عنصر واحد من عناصر أخرى تشكل فنية رواية اللص والكلاب. إن لفظة اللص في النص تحمل دلالة مزدوجة إنها تدل على فعل مرفوض في المجتمع وعلى جريمة في عرف القانون من جهة، وتدل من جهة ثانية على فعل مبرر محمود لدى البطل الذي آمن -بإيعاز من صديقه رؤوف علوان- بأن السرقة حق مشروع للفقير. أما لفظة الكلاب فقد تدل على الكلاب بمعناها الحقيقي المباشر (الحيوان) وقد تحمل دلالات رمزية فتحمل معاني متنوعة وترمز إلى شخصيات روائية ذات سمات خاصة جعلت السارد يصفهم بهذا الوصف.
       ومن يعود إلى الرواية ويقرأ سياقات ورود لفظة الكلاب بين ثناياها يجد أن هذه الكلمة ارتبطت بعدد من الشخصيات، ولعل أهمها عليش ونبوية ورؤوف علوان والبوليس والأغنياء…مما يدل على حمولتها الرمزية، وعلى دلالاتها الاجتماعية.    
    5-المتن الحكائي
       حين خرج سعيد مهران من السجن، بعد أربع سنوات مستبقا نهاية الحكم المقرر بعام نتيجة حسن سيرته، اكتشف متأخرا أن سبب معاناته، إنما كان تآمر زوجته نبوية مع صديقه عليش عليه، فبعد التنسيق مع عشيقها ، جاءت نبوية التي كانت تعمل في البيت موضوع السرقة، بخبر كاذب عن سفر سكانه، صدقها زوجها سعيد مهران، وراح للتنفيذ، كي يلقى عليه القبض بعد التبليغ عنه من طرف صديقه، ومن هنا بدأت المعاناة مع الخيانة ومكابدة التفكير في الثأر والانتقام، ممن سيشكلون أمامه الصورة الأولى للكلاب بالمعنى القدحي، لما يمثلونه من خداع ومكر وضرب لأعمق القيم التي لا يمكن أن يتنازل عنها حتى اللص في مستوى سعيد مهران. و مما يزيد في عمق الجرح، عجزه عن التواصل مع ابنته ” سناء” التي أنكرته ببراءة، ورفضت حتى مصافحته في لقاء بالبيت القديم، مشحون بالانفعالات في حضور الغفير وبعض الجيران. فلم يجد وجهة غير الشيخ الجنيدي صديق أبيه، يكاشفه بحزن الصدمة، قبل البحث عن اسم كان يعرفه أيام العمل ببيت الطلبة، توصل إلى أنه صار محررا في جريدة، يتذكر جيدا كيف كان رؤوف علوان، مدافعا عنه لتبرئته من تهمة سرقة الساعة، رغم أن سعيد اعترف له بظروف حاجته إليها، بل يتذكر بالتفصيل، ما أقنعه به لتبرير ما أقدم عليه من فعل السرقة، ما دام الأمر يتعلق باسترجاع حق الفقراء من أيدي الأغنياء ، لقد كان رؤوف علوان مرجع سعيد مهران في الوعي الذي تشكل لديه فأصبح لصا ، لكنه ليس كسائر اللصوص”الحرامية”. بعد الفشل في لقائه بالجريدة، ذهب سعيد مهران إلى السؤال عن صديقه في بيته، ليفاجأ بالنعيم الذي يعيش فيه، كما تفاجأ بالتحول في شخصيته، فالرجل ما عاد نفس الرجل الذي يحمل قيم الدفاع عن الكادحين. وأمام الصدمة، وبعد الخروج مهزوما وبيده عشر جنيهات كأنها صدقة من رؤوف علوان، تحركت في أعماق سعيد مهران مشاعر الغضب, وتحولت إل رغبة في الانتقام منه. لكنه بعد انتظار الليل للعودة إلى بيته كي يسرقه، سيجده له بالمرصاد، فلم يسلمه للشرطة بعد استعطافه، لكنه زاد من تعميق جرحه بالإهانة والاحتقار، مما سيولد لدى سعيد مهران، حقدا جديدا على الواقع، تجسده خيانة من مستوى آخر، لكنه لا يختلف من حيث التأثير النفسي ، عن خيانة زوجته نبوية وصديقه عليش. لتبدأ رحلة السجن الكبير في واقع تحكمه خيانة القيم الاجتماعية والفكرية، حيث الضحية في النهاية، هذا الإنسان البسيط الذي صدق زوجته وصديقه كما صدق وآمن برؤوف علوان. من هذه الوضعية تحديدا، يبدأ التحول نحو الفعل، بعدما تحققت شروط الصراع في مواجهة إكراهات الظروف.
    بحث سعيد مهران عن مسدس للدخول في مغامرة استعادة الحق في الحياة، ممن سلبوه كيانه وكينونته. لجأ أولا إلى البيت الذي يحتله الخائنان العشيقان، طرق الباب، وما
    إن استوي خيال الرجل المستعد لفتحه، حتى يطلق سعيد مهران رصاصات عليه. ليكتشف بعد ذلك ، أنه قد قتل بريئا بعدما رحلت نبوية وابنتها مع زوجها الجديد إلى بيت آخر. ولم يكن القتيل الضحية سوى الساكن الجديد لنفس البيت. يتجه سعيد مهران للانتقام هذه المرة من رؤوف علوان باغتياله، لكنه يخطئ الهدف، إذ تبين أنه قد أطلق الرصاص على بواب رؤوف علوان فأرداه قتيلا. وتبدأ مطاردة الشرطة لسعيد مهران، بعد إحكام الطوق عليه بتواطؤ علوان مع الأمن، والذي توصل إلى عنوان نور من وصفة طبية كان سعيد مهران قد قدمها للصيدلي من أجل دواء لمغص مزمن تعاني منه نور. ضاق الخناق عليه فاتجه إلى الشيخ الجنيدي، لكنه اضطر لمتابعة فراره حتى آخر رمق، رافضا الاستسلام لنداءات الشرطة و توسلات ”نور”، وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة… بلا مبالاة…
    6-القوى الفاعلة
         تستثير القارئ ظاهرة المقابلة بين شخصيات الرواية ، انسجاما مع تقابل المواضيع المهيمنة على دلالاتها العامة. حتى ليبدو كأن نجيب محفوظ يمرر من خلال شخوصه المنتقاة بعناية، جملة من الصور الذهنية المتصلة بحمولة وعيه عن الواقع الكائن وما يمكن أن يكون عليه، باعتبار تلك الشخوص نماذج اجتماعية تعبر عن مواقف وقضايا المجتمع في صيرورته. فمن جهة، نجد سعيد مهران ونور والعتر والشيخ الجنيدي و طرزان، ممثلين بقوة لحالات البساطة والبراءة والصدق والنظرة الإنسانية بمشاعر التعاطف والتآلف على خلفية علاقة تنطلق من قيم الوفاء والحب والصداقة والتناصح. ومن جهة أخرى، نجد نبوية وعليش ورؤوف علوان، مجسدين بنفس القوة لحالات التراجع والخيانة والمكر والنظرة الحسابية للمصالح الذاتية في بعدها المادي الضيق. وقد ينسحب هذا التقابل بين القوى الفاعلة على الواقع، باعتبار ما كان يعيشه من تحولات، انتهت إلى وضعية كارثية على مستوى القيم، وتراجيدية على مستوى السلوك الفردي، في غياب ضوابط التحكم الموضوعية، والتي تخفي وراءها فقدان التوازن بين رغبات الناس وإكراهات الواقع.
    بوقفة أولية مع الشخوص الروائية في ”اللص والكلاب”، يمكن ملاحظة ظاهرتين بارزتين، أولاهما متصلة بالظهور والاختفاء، وثانيهما مرتبطة بما يمكن أن تحيل عليه دلالة أسمائها، فبينما يظهر سعيد مهران منذ البداية، ليستمر في الحضور المكثف كشخصية محورية، يطفو وجود نور ورؤوف علوان برمزيتهما في مسار الرواية، لمسايرة جل التحولات التي يعيشها سعيد مهران حتى آخر لحظة من حياته. وفي المقابل ، نجد اختفاء سريعا لكثير من الشخصيات رغم تأثيرها القوي في تنامي الأحداث، لعل أبرزها شخصيتا نبوية وعليش ومعهما سناء ابنة مهران، بعد تغيير سكناهم خوفا من انتقام الجريح في وجدانه العاطفي. ويمكن أن يلحق بهم العتر رفيق الزنزانة أو الصيدلاني، بينما ظلت الجارة طاهرة و المعلم طرزان والشيخ الجنيدي ضمن الذين تواصل وجودهم متأرجحين بين الظهور والاختفاء، وهي ظاهرة تثري الأسئلة حول أبعاد الظهور والاختفاء لتلك الشخصيات، فيما يمكن أن تكون له صلة باختيار مسبق للمؤلف، كالإيحاء والدلالة على ما يمكن للقارئ أن يشارك به في الاحتفال بالمشهد الروائي كرسائل مشفرة.
    الثانية، والمتعلقة بأسماء تلك الشخصيات، على افتراض وجود نية مسبقة في اختيارها، فيمكن رصدها من خلال نماذج موحية بدلالات متصلة بالرواية، حتى لتكاد أن تبدو أقرب إلى التمثيل بالمطابقة أو بالمخالفة، فسعيد مهران لم يكن بشقه الأول سعيداً، ولا كان بشقه الثاني موفقا فيما سعى إلى التمهر فيه، بل ظل تعيسا تتراكم عليه الأزمات، بقدر ما ظل فاشلا بعجزه عن بلوغ أبسط رغباته في الانتقام، حين أخذ رصاصه يصيب الأبرياء دون الظلمة ممن انتهى إلى وصفهم بالكلاب. ولم يكن لرؤوف علوان شيء يمكن أن يتصل باسمه المركب، فلا هو مثل الرأفة المعبر عنها في اسمه بصيغة المبالغة ، ولا هو بلغ السمو المطلوب في علوان المزيد بألف ونون لمفرد العلو. بل مثل في الرواية كل ما يناقض القيم التي يحيل عليها اسمه، من وضاعة وانتهازية ووصولية. أما الأسماء المفردة للأعلام في الرواية، فبعضها متصل بمعانيها العامة، كطرزان والجنيدي وطاهرة، إذا تحيل في الرواية على الفتوة والصوفية والبراءة على الترتيب. بينما تقبل الأسماء الأخرى إمكانية الربط بينها وبين دلالاتها، فنور التي صاحبت سعيد مهران على امتداد تطور الأحداث، ظلت تجسد النقطة المضيئة في حياته إلى أن أغمض عينيه بين يديها، بالرغم من وضعيتها القاسية اجتماعيا كفتاة يحضنها الليل كي تجد ما تعيل به نفسها في النهار. ونبوية الزوجة الخائنة، لم تحمل من معنى النبوة في بعدها الديني أي شيء، ربما كانت أقرب إلى النبو بمعنى الابتعاد والانفصال..     
    7-الأبعاد النفسية والاجتماعية في الرواية
    أ/  الكشف عن الأبعاد النفسية في الرواية
       يستند تحليل البعد النفسي في الرواية إلى الكشف عن ثلاثة عناصر:
    الحقل العاطفي- الموضوعات النفسية- دلالات النص وأبعاده السيكولوجية.
    أ/1- الحقل العاطفي
       يتسع الحقل العاطفي في رواية “اللص والكلاب” ليشمل مجموعة من المشاعر والأحاسيس والأفعال وردود الأفعال المرتبطة بالقوى الفاعلة المحورية في النص. ونظرا إلى تعدد الفواعل في النص الروائي سيتم التركيز على الحقل العاطفي المتصل بسعيد مهران وببعض الشخصيات الرئيسية في الرواية. إن الحقل العاطفي الذي يعكسه النص يبين طبيعة العلاقات التي جمعت البطل سعيد بابنته وزوجه وصديقه وتابعه وبباقي الشخصيات التي قد تمثل بعض الفئات الاجتماعية في الرواية. ويمكن اختزال هذا الحقل العاطفي في محاور أربعة:
    علاقة المحبة: هي علاقة ربطته بزوجته نبوية(في البداية قبل خيانته والتآمر عليه لإدخاله السجن) وابنته سناء وصديقته نور والشيخ الجنيدي والمعلم طرزان. إن مهران لم يكن شخصية بلا قلب لا تفكر إلا في الانتقام ولا تعرف إلا الكراهية. إن الشعور بثقل الخيانة والإحساس بخيبة الأمل في الأقربين هما اللذين حولا محبته الشديدة إلى كراهية عمياء. كان سعيد يحب زوجته وصديقه رؤوف، لكن خيانة الأولى وتبدل الثاني وتحوله عن مبادئه جعلت سعيدا يحمل لهما في قلبه الضغينة والحقد. ولكن رغم هيمنة الشعور بالكراهية على مجرى الرواية إلا أن دفء المحبة لا يخلو من سطورها. إن سعيدا ظل يحمل حبه لابنته سناء على الرغم من تنكرها له، كما ظل محبا للشيخ علي الجنيدي وللمعلم طرزان نظرا إلى إخلاصهما ووفائهما له ومساعدتهما له في محنته. أما نور التي كانت تعتبره رجلا بلا قلب، فقد أحس سعيد أنه يحبها ويخشى عليها من الأذى، بل تمنى لو يفديها بنفسه في مشهد دال من الرواية(ص.126).
    علاقة الصداقة: إن هذه العاطفة الإنسانية الرفيعة ربطته برؤوف علوان والمعلم طرزان، فكانت عاملا هاما في حياة سعيد وبعدا محفزا على التصرف واتخاذ القرار. قبل السجن كان رؤوف علوان صديقا حميما لسعيد، بل كان معلما يشحن ذهنه بالأفكار الثورية وبالحقد على الأغنياء متعللا بالانتصار للفقراء. ولطالما اقتسم الطالب مع ابن البواب أشياء كثيرة، وطالما رافقه إلى منزل الشيخ الجنيدي فشهد مثله جلسات الذكر وشارك مثله في أماسي الشيخ، لكن بعد الخروج من السجن واكتشاف حالة الغنى التي صار عليها رؤوف علوان تتحول صداقة الرجلين إلى عداوة شديدة جعلت سعيدا يسعى إلى الانتقام. أما المعلم طرزان فقد ظل صديقا وفيا لسعيد وناصحا أمينا ومساعدا وفيا على الرغم من إدراكه خطورة ما يفعله.
    علاقة الكراهية: تتجلى في كراهيته لمن خانه جميعا: الزوجة(نبوية)، والصديق(رؤوف علوان)، والتابع (عليش سدرة)، وقبل السجن الاستعمار الإنجليزي والأغنياء والبوليس. إن سعيدا كان قبل السجن يخص بكراهيته الاستعمار الذي كان يجثم على وطنه ويسلب حرية الناس، ولذلك كان يتدرب رفقة المجاهدين على السلاح قرب مقهى المعلم طرزان ليشارك في المقاومة، كما أنه كان يكره الأغنياء لأنهم يسلبون الفقراء حقهم في الحياة والعيش الكريم كما كان يوعز إليه صديقه رؤوف علوان، ومن ثم صار يسطو على ممتلكاتهم ويراه حقا مشروعا لأمثاله. ونظرا إلى أن البوليس كان يطارده بسبب سرقاته فقد كان يخص المخبرين ورجال الشرطة بكراهيته لأنهم إن أمسكوا به سيسلبونه حريته. وبعد خروجه من السجن سينضاف إلى العناصر السابقة أولئك الذين كان يخصهم بثقته ومحبته لأنهم سلبوه كل مقومات وجوده. هكذا ستتحول محبته إلى كراهية- وبعنف شديد- نحو نبوية وعليش ورؤوف. أصبحت الكراهية الشعور المهيمن عليه بحيث دفعته إلى الرغبة في الانتقام من الأعداء. إن خيانة الزوجة والتابع والصديق غيرت مشاعر البطل نحو الكراهية المطلقة للمرأة : “لم تعد لي ثقة في جنسها كله…”(ص.32 )، وجعلته يسعى إلى تصفية الخونة الثلاثة جسديا دون أن يفلح في ذلك.  
    علاقة التوتر: وهي علاقة طبعت علاقة البطل بالأغنياء والبوليس. في مرحلة ما قبل السجن كان سعيد يرى أن الأغنياء هم سبب بؤس أمثاله من الفقراء والمهمشين، فكانت هذه الرؤية حافزا له على اقتحام قصورهم وفيلاتهم للسطو على أموالهم ومجوهراتهم، كما أن البوليس بحكم سعيه إلى الإمساك بسعيد كان سببا من أسباب شعوره بتوتر العلاقة بينهما، وسيزداد هذا التوتر حين تتطور وقائع الرواية ليسقط البطل في فخ جريمة قتل الأبرياء، وقد انتهى هذا التوتر إلى المطاردة وتبادل إطلاق النار الذي أدى إلى موت سعيد برصاص الشرطة.   
    أ/2- الموضوعات النفسية
       تتعدد الموضوعات (التيمات) النفسية في الرواية ويمكن أن نشير إلى بعضها: المعاناة- الندم- الغربة- الشعور بالاضطهاد- الإحساس بالقهر- اليأس- الانتقام- ثقل الخيانة- نكران الجميل- الوفاء- الإخلاص- الإخفاق- الموت …وغيرها من الموضوعات التي تحفل بها الرواية. وكل هذه التيمات تكشف عن نفسية سعيد مهران وتبلور علاقته بالشخصيات الأخرى التي يتفاعل معها سلبا وإيجابا في الرواية. ولعل هذه الموضوعات هي التي شكلت توتر هذه الشخصية ودرامية وضعها في الرواية. وقد تمكنت هذه التيمات أيضا من تجسيد موقف سعيد من الحياة والوجود كما سنرى في العنصر اللاحق. إن هذه الأحاسيس النفسية المتضاربة والمشاعر المتناقضة تبين لنا أن سعيدا لم يكن شخصية نمطية ونموذجا ثابتا؛ بل إنه يتجلى في صورة إنسان مظلوم يعاني من تآمر الخونة والانتهازيين، ويطارد من الكلاب والبوليس بسبب أخطائه القاتلة وعدم قدرته على الانتقام من أعدائه حتى انتهى به الأمر إلى الموت. 
    أ/3- دلالات النص وأبعاده السيكولوجية
       في ضوء العناصر السابقة يمكن الكشف عن دلالات وأبعاد سيكولوجية هامة في النص الروائي. يعد سعيد مهران القوة الفاعلة الأولى في النص، فهي التي تحرك الأحداث أو بالأحرى إن الوقائع تتطور بفعل أفعالها وردود أفعالها. ومن ثم، فإن الدلالات السيكولوجية في الرواية تتبلور من خلال حالات هذه الشخصية وأوضاعها النفسية. ولعل أهم حالة تهيمن على سعيد تتمثل في الاضطراب النفسي الذي صار يحركه لأنه اصطدم بالواقع من حوله بعد مغادرة السجن، فبعد معاناته من خيانة زوجته وتابعه، سيجد نفسه أمام أوضاع نفسية لا تخلو من توتر وحدة أدت به إلى الاضطراب، ومن ثم فقدان القدرة على الفعل الصحيح والسلوك السوي. وتكشف الأحداث عن هذا البعد السيكولوجي بوضوح بحيث إن محاولات سعيد في الانتقام من أعدائه كشفت عن فقدانه للسيطرة على نفسه والتحكم في قواه، كما أن هذا البعد السيكولوجي يتبين  من خلال حوار سعيد مع رؤوف علوان والشيخ الجنيدي ونور، بل حتى في حواره الداخلي يكشف عن اضطرابه وعدم تمكنه من التحكم في أفعاله، يقول مخاطبا نفسه بعدما اكتشف أنه نسي بدلة الضابط في بيت نور:
    “ولكن كيف نسيت البدلة الرسمية؟ لففتَها مصمما على أخذها معك فكيف نسيتها في آخر لحظة؟. حقا فقدت جميع مزاياك بالسهاد والوحدة والظلمة والقلق.”(ص.133)
      إن الاضطراب النفسي والشعور بالقلق ومعاناة السهاد والوحدة وغيرها من الحالات التي أشرنا إليها سابقا جعلت البطل يسقط في شرك الهزيمة بعد ثقته المطلقة في نفسه وفي مهاراته(السرقة- إطلاق الرصاص- التربص بالأعداء)، ومن ثم كان الفشل والشعور بالإخفاق بعدا سيكولوجيا آخر هيمن على البطل، خاصة بعد قتله للأبرياء وعدم تمكنه من الانتقام من الأعداء.
    ب/ الكشف عن الأبعاد الاجتماعية في الرواية
       يستند الحديث عن البعد الاجتماعي إلى الكشف عن عنصرين:
    الحقل الاجتماعي- الدلالات والأبعاد الاجتماعية.
    ب/1- الحقل الاجتماعي
       تعكس رواية “اللص والكلاب” علاقة سعيد مهران(اللص) بالمجتمع من حوله. ويمكن تقسيم هذه العلاقة إلى مستويين:
    -علاقة بالخونة والانتهازيين(ما يطلق عليهم سعيد الكلاب).
    -علاقة بالأصدقاء وعامة الناس (من المتعاطفين معه باعتباره ضحية أوضاع مختلة وظروف مضطربة).
    وهذه الثنائية في العلاقات تكشف بعض مستويات الصراع  في المجتمع وتناقضاته. ومن خلال هذه العلاقات يرصد النص حقلا سوسيولوجيا تعكسه الوقائع الاجتماعية في الرواية، وما تشير إليه من قيم وأنساق فكرية. هذه الوقائع و الفئات والأنساق والقيم يمكن إجمالها حسب الجدول التالي:
    الوقائع الاجتماعية
    الفئات الاجتماعية
    القيم والأنساق
    -الاحتلال الاستعماري الإنجليزي لمصر.
    -اهتمامات الشرائح الاجتماعية بالمقاومة(التدرب على السلاح: مهران ورؤوف والطلبة ودور المعلم طرزان وزملاؤه في ذلك)
    -موقف الأغنياء من الفقراء.
    -تشكل وعي سعيد بالوضع الاجتماعي من خلال رؤوف وكتبه.
    -السرقة من الأغنياء والرغبة في مساعدة الفقراء.
    -الخروج من السجن واكتشاف تغير الواقع الاجتماعي.
    -تعاطف “الملايين”(بتسمية سعيد)/ عامة الناس معه، واتخاذ الانتهازيين موقع المحرض ضده.
    -تحول الواقع الاجتماعي بعد ثورة 1952. 
    -اللص سعيد باعتباره رمزا للمثقف الذي آمن بالكتاب والسلاح، لكنه تشبث بالأخير وتخلى عن الكتاب بوصفه رمزا للتعقل وإدراك الحياة.
    -رؤوف علوان باعتباره مثالا للمثقف الانتهازي.
    -المعلم طرزان بوصفه نموذجا للإنسان البسيط الذي ينتمي إلى طبقة شعبية متوسطة الحال لكنها ذات قيم ومبادئ.
    -الشيخ الجنيدي مثال الزهد والتصوف والارتباط بالله، والنظر إلى الدنيا باعتبارها دار فتنة وبلاء…
    -نبوية وعليش رمزين للفئة الانتهازية التي تتخذ شتى السبل(الوشاية-الخيانة-النذالة…)للوصول إلى المال والارتقاء الطبقي… 
    -الموقف المعادي للمستعمر الإنجليزي.
    -الوعي الوطني تجاه الاستعمار.
    -تحول هذا الوعي إلى وعي طبقي لدى رؤوف ومهران(صراع الغنى/الفقر).
    -الإيمان بشرعية السرقة من الأغنياء.
    -الارتباط بقضايا الفقراء والفئات المهمشة والضعيفة.
    -رفض الخيانة والسعي إلى مقاومة الاستغلال والانتهازية.
    -حب الانتقام ورد الاعتبار للذات.
    -الهزيمة والفشل.
    -تعاطف الفئات الشعبية مع سعيد.
    -إصرار المؤسسة(الصحافة-السلطة..) على تدمير ثورة سعيد وتمرده.
    -تحول الأفكار وتغير الواقع الاجتماعي وعلاقة الناس بعد الثورة المصرية.
    يحيل الجدول على حقل سوسيولوجي يشكل خلفية الرواية الاجتماعية، خاصة أن نجيب محفوظ يعترف بانطلاقه من وقائع اجتماعية حقيقية ارتبطت بسفاح الإسكندرية محمود سليمان الذي حير البوليس المصري إلى أن مات تحت الرصاص، وذلك خلال بداية الخمسينات من القرن العشرين. وقد شكلت هذه الخلفيات الاجتماعية منطلقا لبلورة رؤية الكاتب للمجتمع المصري خلال فترة ما بعد ثورة يونيو 1952 وما فرضته من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية.
    ب/2- الدلالات والأبعاد الاجتماعية
       إن تركيز نجيب محفوظ في رواية “اللص والكلاب” يقع على التحولات التي شهدها المجتمع المصري بعد فترة الأربعينات وإثر الثورة المصرية. فالفترة التي قضاها سعيد مهران في السجن (أربع سنوات) سيطرت خلالها فئة اجتماعية جديدة هي فئة الخونة والانتهازيين الذين سيطروا على مختلف القطاعات وصار لهم نفوذ في المجتمع: – امتلاك المال والعقار وتوظيفه لصالحها: (نموذج عليش ونبوية) – امتلاك السلطة والتحالف مع رموزها: (عليش والمخبرين- رؤوف وجريدته) – التحكم في الإعلام وتوجيه الرأي العام: (رؤوف علوان الذي ألب الناس على سعيد بعدما فشل في قتله مما جعل البوليس يطارده)…وقد خاض سعيد حربا ضارية ضد هذه الفئة الاجتماعية الجديدة التي سلبت منه كل شئ له معنى وقيمة في الحياة: الحب والدفء الأسري(سناء)-البيت والمال- الحرية والقدرة على الاستمرار والبقاء…
    ويعكس النص من جهة أخرى تعاطف الفئة الاجتماعية المهمشة أو المتوسطة (المعلم طرزان ورجاله، ونور..) وعامة الناس (سائق التاكسي..)، والمؤسسة الدينية الشعبية (الشيخ الجنيدي) مع سعيد مهران في محنة مطاردته ومعاناته مع الخونة، ويبين النص رفض هذه الفئات الاجتماعية للخونة والانتهازيين، وجعلها من اللص بطلا ورمزا. يكشف الحوار التالي بين نور وسعيد هذا البعد الاجتماعي الدال؛ تقول نور مخاطبة سعيد مبينة صورته لدى الناس:
    “-يتحدث عنك ناس كأنك عنترة ولكنهم لا يدرون عذابنا…
    فقال ببساطة:
    -أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم…
    وتواصلت خمس دقائق في التهام الشواء ثم قال:
    -ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب…”(ص.100).
    8-دراسة الأسلوب
    أ/ تقنيات تيار الوعي
       وظف السارد تقنيات تيار الوعي التي تتمثل أساسا في الحوار الداخلي والتداعي الحر والاستبطان. وهذا ما جعله ينتقل من موضوع إلى آخر في ظرف وجيز، ويعمد إلى تفتيت الوجود إلى ذرات متناثرة (هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون والبيوت والدكاكين ولا شفة تفتر عن ابتسامة…)، وينفذ أكثر إلى أعماق شخصية سعيد لنقل اضطراباته النفسية، وإعادة استحضار مشاهد من ماضيه، وإبراز تطلعاته إلى الانتقام ولو كان ظاهريا يوهم بأنه سيغير مجرى حياته حتى يوفر لابنته «مكانا طيبا».
       ويلاحظ أن نجيب محفوظ قد استفاد من التقنيات الغربية على مستوى الكتابة الروائية ( المنولوج، والأسلوب غير المباشر الحر، وفلاش باك، واستشراف المستقبل…)، وفي هذا الصدد يقول نجيب محفوظ:” كانت كل الأساليب أمامنا في وقت واحد. فعندما نشرع في الكتابة قد نستفيد من أي الطرق التي عرفناها ودخلت في آلية المنسي عندنا بدون وعي. فعندما أكتب قد استفيد من الواقعي التقليدي من الواقعي الحديث، من تيار الوعي….من…من…لأنني قرأت كل هذا في فترة واحدة بمعنى أن التجارب التي عاشتها أوربا في مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة اطلعت عليها أنا في عشر سنوات، وبهذه الطريقة استفدت من أكثر من أسلوب روائي ومن كل في لحظة أي في اللحظة المناسبة.”
       وظف نجيب محفوظ في روايته إذن عدة أساليب سردية لنقل الأحداث والتعبير عن مواقف الشخصيات.. وفي نفس الوقت، يلتجئ إلى الحوار قصد معرفة تصورات الشخصيات وتناقض مواقفها الإيديولوجية. كما التجأ أيضا إلى المنولوج للتعبير عن صراع الشخصيات وتمزقاتها الداخلية ذهنيا ونفسيا.  ويحضر أسلوب سردي آخر يسمى بالأسلوب غير المباشر الحر الذي يختلط فيه كلام السارد مع كلام الشخصية وهو كثير بين ثنايا الرواية:” آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر. وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ لاشيء.
    ب/ صورة اللغة
      
       وتمتاز لغة نجيب محفوظ بكونها لغة واقعية تصويرية تستند إلى تسجيل المرجع وتمويهه بلغة تتداخل فيها الفصحى والعامية المصرية ليقترب أكثر من خصوبة الواقع العربي المصري. لذلك استعمل الكاتب تعابير العامية المصرية وأساليبها وألفاظها وصيغها المسكوكة. كما استعمل قواميس تدل على حقول دلالية مثل: حقل الأثاث، وحقل الطبيعة، وحقل الدين والتصوف، وحقل الصحافة والإعلام، وحقل السلطة والجريمة، وحقل الوجود و العبث، وحقل القيم، وحقل المجتمع، وحقل السياسة….
       وعلى الرغم من استخدام اللغة الطبيعية الواقعية المباشرة التي تنبني على  الخاصية التقريرية الجافة الخالية من كل رونق بلاغي وشاعري، إلا أن الكاتب يوظف في بعض الأحيان تعابير قائمة على المشابهة ( التشبيه والاستعارة) ، والمجاورة (المجاز المرسل والكناية)، واستعمال الرموز (اللصوص والكلاب…) لتشخيص الأحداث والمواقف وتجسيدها ذهنيا وإحاليا وجماليا. ويوظف الكاتب جملا بسيطة ومركبة، وغالبا ما تكون  الجمل الروائية جملا فعلية بفواصل قصيرة، تنمي مسار الأحداث وتؤزمها، وقد أورد الكاتب هذه الجمل ليحبك الأحداث، ويحقق حركية السرد وتطوره الدرامي، ويثري توتره على مسار الحبكة السردية والعقدة القصصية.
    9-خاتمــــة
       إن رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، من خلال أساليبها وطرائق عرضها، تجسد برؤيتها الواقعية الانتقادية ذات الملامح الاجتماعية والسياسية عبث الحياة وقلق الإنسان في هذا الوجود الذي تنحط فيه القيم الأصيلة وتعلو فيه القيم المادية المنحطة. وتعتبر هذه الرواية من حيث القالب والبناء والصياغة  كلاسيكية  الشكل والنمط؛ بسبب تسلسل الأحداث وتعاقبها كرونولوجيا وتعاقب الأحداث زمنيا ومنطقيا ، وهيمنة السرد غير المباشر، وتشغيل الرؤية من الخلف وضمير الغياب، واستعمال الوصف الواقعي. والرواية كذلك  في مسارها السردي والدلالي والإيقاعي رواية مأساوية تراجيدية قوامها العبث واللاجدوى واللامبالاة، كما أنها ذات بناء دائري  إلى حد ما تبدأ بالسجن وتنتهي بالاستسلام والعودة إلى السجن مرة أخرى، أو بالسقوط بين أحضان المقبرة وصمت الموت.
       وعلى الرغم من كلاسيكية بناء الرواية، فقد استفاد نجيب محفوظ من تقنيات الرواية الجديدة ومن وتيار الوعي أثناء استعمال المنولوج والاسترجاع واستشراف المستقبل وخطاب الأحلام وتوظيف الأسلوب غير المباشر الحر. لتصبح واحدة من أهم الروايات العربية.

    Back to top button