الماء سر الحياة وتوءَمُها، تعشقه
ويعشقها، فهو سببها وهو مددها، به تزهر الحقول والأشجار، وله تغني العصافير
والأطيار، وبصوته تصدح أعذب الأنهار، حفظته السماء في خزائنها، وجعلته من
دلائل رحمتها .. فإذا أجدبَتْ الأرض حملته بأمر من الرحمن غيومٌ مُبشّرة،
فسقت به الأرض العطشى المتحجرة، فاهتزت ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج،
ولكن هذا الماء الرقيق الرقراق نفسه الذي يحمل الحياة أينما حلّ يصبح
مدمِّراً مهلكاً إذا شاء الله أن يسلبه سبب الرحمة، فيكون عقاباً للكافرين
المنكرين، الجاحدين الظالمين، أصحاب القلوب المتحجرة. يقول البيان الإلهي
في سورة الأعراف: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا
إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ
لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ
وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا
مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا
مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ
إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) }.
يسوق القرآن الكريم أخبار الأمم البائدة
في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويركز على السبب الذي من أجله حقّتْ
عليهم كلمة العذاب الشديد، ووجب عليهم هذا الاستئصال المبيد ! وهذه الأخبار
التي يقصّها البيان الإلهي هي وحدها التي تستطيع أن تقدّم صورة صادقة عن
تاريخ هذه الأمم لأن التاريخ الذي سجله البشر تاريخ قصير الأمد حافل
بالأكاذيب والأغاليط، فالذين يستنبطونه من بني البشر عندهم قصور عن الإحاطة
بجميع العوامل المنشئة والمحركة للتاريخ البشري، والتي يكمن بعضها في
أغوار النفس البشرية ويتوارى بعضها وراء حجب الغيب فلا يبدو إلا بعضها،
وإدعاء أن البشرية قد أحاطت بالتاريخ البشري وأن لديها قدرة على تفسيره
التفسير (العلمي)، وأنها تجزم بحتمياته المقبلة هي أكبر أكذوبة يمكن أن
يدّعيها بشر، والأشد إثارة للعجب أن البعض يصدقها كمسلّمة ! وبات معلوماً
الآن أن كل من بدأ بمسلّمة دارون: أن أصله قرد، انتهى بحقيقة أنه (حمار)!!
ولو زعم مدعو معرفة الحقيقة التاريخية أنهم يتحدثون عن توقّعات وليس عن
حتميات لهان الأمر كثيراً، ولكن الغرور والتبجّح والكبْر قد ضربت أطنابها
في نفوس البشر فأخذوا يتشدّقون بالترهات. وطالما وجد هؤلاء المدّعون من
يصدقهم من مشوشي التفكير فلمَ لا يكذبون ؟!
لقد أرسل الله تعالى لفرعون وقومه آيات
عذاب بيّنات كي تردعهم عما هم فيه من طغيان وظلم وجبروت علّهم يعودون إلى
ربهم، وتعددت أنواع هذه الآيات، فبدأ الابتلاء بالسنين، والمقصود بالسنين:
أي القحوط ، والجفاف، وذلك كله بسبب شح الماء، ولابد من أن ألفتَ لغوياً
إلى أن السنة إذا أُطلقت فإنها تعني: السنة المُجدبة وذلك تشنيعاً لها
واستطالة! فيقال أصابتهم السنة، ويقال أَسْنَتَ القومُ: أي أجدبوا و أصيبوا
بالجفاف، والقرآن الكريم أيضاً يستخدم (السنة) هنا ليس بالمعنى الزمني بل
بمعنى القحط لأنه نزل بلغة العرب، وعلى هذا فإن آل فرعون ابتلاهم الله
بذهاب ثمارهم وغلاتهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
} أي تكون لهم عظة وتذكيراً لينزجروا عن ضلالهم،ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة.
ولابن عباس وقتادة رضي الله عنهما تفصيلٌ في هذا الفهم فقالا: إن الأخذ
بالسنين كان ذلك في باديتهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم
وقراهم. وبسب طلاقة القدرة ولأن الله تعالى فعّال لما يريد يكون الابتلاء
مرة بشح الماء ومرة بفيض الماء وأخرى بتغيير طبيعة الماء بالكلية، وذلك كي
تعلم أيها العاقل أن الأمور لا تجري بالأسباب وإنما بمراد مسبب الأسباب ..
ولكننا مأمورون بالأخذ بالأسباب لأن الله تعالى أقام الدنيا على ذلك، فإذا
أخذنا بها كما أمرنا الله تعالى عندها يخلق الله لك النتيجة، وقد لا يخلقها
لحكمة ما.!! كي لا تظن أن الأمور تجري بشكل تلقائي كما زعم الفلاسفة أن
الله تعالى خلق كونه وتركه يعمل بأسبابه، بل كي توقن أن الله قيّوم على
كونه، يدبره بقدرة وبحكمة معاً، ولذلك ترك الله سبحانه وتعالى شواهد على
ذلك في القرآن وفي الكون، ففي القرآن الكريم مثلاً: خَلقُ عيسى عليه السلام
من غير أب مثال على نتيجة بدون أحد أسبابها (الأب)، وعدم إحراق النار
لإبراهيم عليه السلام هو انعدام نتيجة رغم وجود أسبابها فهم قد أشعلوا
ناراً عظيمة وألقوا إبراهيم فيها ولكنها لم تحرقه ليس لأن ماءً أطفأها بل
لأن الله سبحانه وتعالى سلبها خاصة الإحراق، لأنها لا تحرق بذاتها ولكن
بأمر من خالقها، وفي الكون شواهد على ذلك كثيرة لكن الإنسان لا يلتفت
إليها، ففي الطب أمثلة كثيرة منها شفاء حالات ميئوس منها تماماً، أو نجاح
صدمة كهربائية في إعادة الحياة لقلب وفشلها عند آخر رغم تماثل الحالة
الفيزيولوجية الجسدية عند الاثنين!! أو أن زوجين سليمين تماماً لكنهما لا
ينجبان فلما انفصلا وتزوجا بآخرين أنجبا ! ولعل مرض التوحّد الذي لم يجد
الطب أسبابه إلى الآن هو أحد أبرز الأمثلة إذ لا سبب (علمي) لهذه الحالة
المؤلمة ! وهناك شواهد أخرى كثيرة مماثلة.
نعود إلى آل فرعون لنرى كيف تمضي سنة الله
في الجاحدين المستكبرين عندما يمتحنهم بالسراء والضراء، فإنهم إذا جاءتهم
الحسنة أي السعة والعافية قالوا نحن أهلها ومستحقوها ولم يروها تفضّلاً من
الله عز و جل فيشكروا عليها، وإن تصبهم سيئة وبلاء يتشاءموا بموسى ومن معه،
ويقولون: هم السبب!! فما أصابنا بلاء حتى رأيناهم وما استطاعت قلوبهم
المطموسة الصدئة أن تدرك المغزى من آيات الابتلاء. فيرد عليهم البيان
الإلهي بجملة نجدها تتكرر في القرآن الكريم: { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
} أصل التطيّر في لغة العرب هو ما كان الجاهليون في شركهم يزاولونه، فكان
الرجل منهم إذا أراد أمراً جاء إلى عش طائر فهيجه فإذا طار عن اليمين فهو
(السانح) عندها يستبشر ويمضي في الأمر الذي يريده، وإذا طار عن شماله فهو
(البارح) وعندها يتشاءم ويرجع عما عزم عليه، ولما جاء الإسلام أبطل ذلك
التفكير الخرافي وأحل محله التفكير الإيماني الصحيح فأرجع ذلك إلى سنن الله
في الوجود وإلى قدرة الله التي تحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها، بل
إن الإسلام نظّم حياة العبد وفق أسس ضابطة يحسب فيها نية الإنسان وعمله
وحركته وجهده وتوضع في موضعها الصحيح في إطار المشيئة الإلهية وقَدَر الله
النافذ المحيط بالعبد، ولذلك فإن المقصود بالآية: { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
} أي أن كل ما يقع لهم مصدره كله واحد إنه من أمر الله ولكن باختيارهم،
ومن عند الله تصيبهم الحسنة للابتلاء والسيئة للابتلاء أيضاً كما قال الله
تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ
هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
(79) } لابد من الوقوف عند هذه الآيات الكريمة لأهميتها البالغة،
ولأن المستشرقين وقفوا عندها طويلاً ولم يفهموها، بل زعموا أن في الأمر
تناقض فمرة يقول القرآن: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ومرة يقول : {مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}
فما الحقيقة ؟؟ أولاً على المرء أن يبحث عن الحقيقة الدينية في القرآن
الكريم بعد أن يتمكن من فقه القواعد الكاملة للغة العربية، وفهم أسس
العقيدة مستهدياً بالسنة النبوية الصحيحة وفهم الأفاضل من الصحابة
والتابعين، ويعلم يقيناً أن القرآن لا يضرب بعضه بعضاً، وإلا سيخطئ في كل
استنتاجاته .
إن الآيتين السابقتين من الآيات المحكمات،
والحقيقة التي تقررها الآية 78 مختلفة عن تلك التي الحقيقة التي تحملها
الآية 79 ولابد من دراستهما أولاً وفق السياق العام لهما، فالله سبحانه
وتعالى يخبر عن المعارضين للرسل المعرضين عما جاؤوا به من شرائع سماوية،
فهؤلاء إذا جاءتهم حسنة كخصب و مال و جاه وصحة وأولاد قالوا: {هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وإذا أصابتهم سيئة كجفاف وفقر ومرض وموت قالوا: { هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ
} أي بسبب ما جئت به يا محمد !! عليه الصلاة وأزكى السلام، فهم تطيّروا
برسول الله عليه الصلاة والسلام كما تطيّر أمثالهم برسل الله كما أخبر الله
تعالى عن قوم فرعون: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }، و ثمود قوم صالح قالوا له عليه السلام: { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }، وقوم ياسين: { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
} فلما تشابهت القلوب بالكفر تشابهت الأقوال والأعمال فنسبوا للرسل زوال
الخير وحصول الشر فدخلوا جميعهم في ذم وخيم فقال الله تعالى: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
} أي أن الحسنة والسيئة من عند الله، ولا يملك الرسول ولا غيره إيقاع شر
بالعباد ولا استجلاب خير لهم، ويستنكر عليهم البيان الإلهي عدم فهمهم أو
حتى الاقتراب من الفهم وذلك كله بسبب كفرهم وإعراضهم, والآن إذا بقينا في
سياق الآية الأولى نجد أنها تقرر حقيقة إيمانية وهي أن حياة المسلم تقوم
على أساس الابتلاء والامتحان بالخير والشر وأن كل ما يصيبنا في هذه الحياة
مما نحسبه خيراً أو شراً هو اختبار وفتنة من عند الله تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الأنبياء (35) إذاً كل ما يصيب العبد من ابتلاءات لا يد له فيها تندرج تحت الآية الكريمة: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
} وهذا هو مفهوم القضاء والقدر، وهو واحد من معاني الآية الكريمة، فما
الذي علينا أن نفعله كمسلمين لاجتياز هذا الامتحان ؟ يجب أن نعلم عدة أمور
هامة: منها أن الأمور ليست بظواهرها وإنما هي أبعد من ذلك بكثير فما نحسبه
خيراً لنا قد يكون شراً وهذا لا يستبين بالقريب العاجل، فقد يصيب أحدَنا
مالٌ موروث فيحسبه خيراً له وإذ بهذا المال يجلب عليه المصائب والويلات
ويجعله وأسرته بعيدين عن الله يجترون الشهوات اجتراراً وينحرفون بقوة نحو
الدنيا وأهلها من المتفلتين عن منهج الله. ولا يُفهم من كلامي أن كل مال
يجلب المصائب والويلات فالمال سماه القرآن خيراً في القرآن الكريم: {وإنه لحب الخير لشديد}
العاديات 8 ، وهذا إذا أحسن الإنسان استخدامه وكانت طرق مصارفه موافقة
للشرع الحكيم وعلى رأسها الزكاة والصدقة. وما نحسبه شراً على المدى القريب
قد يحمل في طياته خيراً مخفياً! ولعل قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما
السلام أبلغ دليل على ذلك وهي بكاملها في الجمانة الخامسة. ومن المعاني
الهامة التي تقررها هذه الآية أن الله تعالى هو الفاعل الأول الواحد الأوحد
لكل ما يقع في الكون ابتداء من تقدير الأشياء في اللوح المحفوظ قبل خلق
الكائنات بعلم وبحكمة، وانتهاءً بخلق كل الأشياء بقدرة، والدليل القرآني
على أن الله يخلق كل أفعالنا: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
} الصافات (96)، وهذه الآية ترد على المعتزلة الذين يزعمون أن الإنسان
يخلق أفعاله الشريرة – وذلك كي يدفعوا بزعمهم صدورَ الشر عن الله – وبهذا
التصور الخاطئ يصبح الإنسان شريكاً لله في الخلق !!! أما الآية الثانية : {
مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ
رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) } فإنها تقرر حقيقة أخرى
تماماً، وهي ما يترتب على اختيار الإنسان لأفعاله التي تصدر عنه بإرادته
ويحاسب عليها. فمعلوم أن الله تعالى أرسل للناس منهجاً كي يعملوا به وأرسل
لهم رسولاً دلّهم على الخير وحذّرهم من الشر، فإذا اتبع الإنسان هذا المنهج
وسار على طريق الشرع المستقيم وحاول الخير وحاذر الشر فإن الله تعالى
يعينه على الهدى كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
} العنكبوت (69) فيظفر الإنسان بالثواب نتيجة لحسن اختياره واستجابته
لمنهج السماء، وفي نفس الوقت تكون هذه الحسنة من الله تعالى وبفضله وحده
لأنه شرع له منهجاً قويماً وأرسل له رسولاً حكيماً دله على طريق الخير
ويكون فعلاً : { مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
} وبالمقابل فحين لا يتبع الإنسان منهج السماء ولا يفعل الخير بل يفعل كل
الشرور بهوى أرعن واختيار أحمق، فإن السيئة ستصيبه لا محالة وتكون هذه
السيئة من لدن نفسه حصراً لأن الله لم يأمره بها بل حذره منها، وتجر عليه
هذه السيئة الخسران الحقيقي في الدنيا والآخرة معاً وخسران الآخرة أشنع
وأفظع، ويكون هذا كله مصداق الآية الكريمة: {وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}.
أي هذه السيئة التي جاءتك إنما هي بسبب نفسك أي بسببك، وليس من خلق نفسك
كما زعم المعتزلة وأجدها فرصة ممتازة لأقول لكم: إن سوء الفهم عن الله
ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً كما قال ابن
القيم رحمه الله تعالى في كتابه ( الصواعق المرسلة ) : (وهل أوقع سائر
طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله) !! حيث فصّل رحمه الله
تعالى الأسباب التي دعت كل فرقة للانحراف -كالقدرية والمرجئة والمعتزلة
والخوارج وغيرها- وأوضح كيف أن استنتاجات العقل تضل صاحبها وترديه إذا قامت
على أساس الهوى وتقديم العقل على النقل الصحيح بالإضافة إلى سوء الفهم
الذي أشرت إليه. وهكذا نرى أن الآية الأولى تشير إلى الإرادة الكونيّة المهيمنة على كل شيء في الوجود ولا يملك أحد مخالفتها أما الآية الثانية فهي تشير إلى الإرادة الشرعيّة
– مراد الله من عباده في تطبيق شرعه- وهذه يخالفها الكفرة والفسقة والعصاة
باختيارهم أي باختيار الضلال على الهدى، وهم حتى بهذه المخالفة الشرعية لا
يخرجون عن مشيئة الله الكونية، فقد قدّر عليهم كفرهم وعلم وقوعه منهم قبل
خلقهم، ولذلك قال الله تعالى: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ } الأنفال (59)
وإذا تابعنا الحديث عن ابتلاءات آل فرعون
نجد أن الله تعالى ابتلاهم بعد شح الماء بفيضان الماء !! فأصابهم الطوفان
فامتلأت بيوت أتباع فرعون بالماء ولم يدخل الماء إلى بيوت بني إسرائيل، كي
يوقنوا أن الماء أصبح من جنود السماء يأتمر بأمرها، وفاضت أراضيهم بنهر
النيل وركد الماء عليها فما استطاعوا حرثها ولا زراعتها فطلبوا من موسى
عليه السلام كشف البلاء عنهم وأعطوه عهودهم ومواثيقهم، فلما كشف الله تعالى
عنهم الضّر عادوا لما كانوا عليه من الكفر !!! فأرسل الله تعالى عليهم
الجراد فأكلت الزروع والثمار وورق الأشجار، ثم جاؤوا موسى عليه السلام من
جديد فدعا السماء ورُفع البلاء وعادوا من جديد لجحودهم ونكرانهم فأرسلت
السماء عليهم القُمّل وبعض العلماء يقولون: هو القمل المعروف الذي يصيب جسد
الإنسان فيمنعه المنام، ومنهم من يقول بل هي آفات أصابت الزرع أيضاً
كالسوس والدَّبَى. وبهذا قال مجاهد وقتادة والسّدي، واسترحموا موسى ودعا
لهم ونكثوا عهدهم!! فأرسل الله تعالي عليهم الضفادع فأفسدت طعامهم وأطفأت
نارهم وقفزت في قدورهم وحرمتهم الراحة والسكينة والنوم ولقوا منها أذى
شديداً ولكن لا جدوى فهم قد عادوا سيرتهم الأولى من الاسترحام إلى المعصية
!! وهنا تبدلت طبيعة الماء بالكلية فتحول بأمر من الله القادر القاهر إلى
دم، نعم تحول الماء الرقيق الشفاف الجميل إلى سائل أحمر لزج يصيب بالغثيان
!! فاستحالت مياههم دماً، وما يستسقون من الآبار والأنهار إلا وجدوه دماً
عبيطاً أحمر !! وكان الفرعوني والإسرائيلي يجتمعان على مورد ماء واحد فيكون
للإسرائيلي ماءً وللقبطي دماً وهو نفس الماء !! فمكث أتباع فرعون في مصيبة
عظيمة ولكنها على فظاعتها لم تغير منهم أحداً ولم تغير فيهم شيئاً !! ولعل
أتباع فرعون هم القوم الوحيدون الذين تتابعت عليهم الآيات القاهرة ولم
يلتفتوا لها ولم تخيفهم قدرة الله العظيمة ولم تلفتهم طلاقة هذه القدرة !!
لذلك كان عذاب الله عليهم شديداً وكان غضبه عليهم مريعاً واستئصالهم فريداً
حيث تم بمعجزة مريعة عندما انفلق البحر بهم بغتة والتهمهم جميعاً !!! { وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } هود (102)
لقد شاهد بنو إسرائيل العذاب الشديد الذي
تواصل على قوم فرعون وشهدوا مهلكهم بأم أعينهم ومع ذلك ما خافوا وما اتعظوا
وكانوا ماكرين جشعين وكافرين جاحدين وما حمدوا الله تعالى على نعمه
وأفضاله الذي ذكّرهم بها في كل مناسبة: {و
إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ
بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } البقرة(49) وإذا كان الإسرائيليون
الحقيقيون أتباع موسى ومن عاشوا معه بهذه النفوس المنحرفة والقلوب المتعفنة
فكيف بالإسرائيليين المزيفين حثالة الأقوام الذين لا أصل لهم مغتصبي
فلسطين ؟؟!!
والآن ما الوظيفة التي تقوم بها آيات
التخويف في القرآن الكريم وكيف تمارس فعلها في تربية النفس البشرية؟ ولماذا
هذا التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يُدفع ومن مكر الله الذي لا يُدرك
؟
القرآن الكريم كتاب الخالق الحكيم إلى
العقلاء من مخلوقاته إنساً وجناً، فهو يعلم حقيقةَ النفس وكيف تُضبط طريقةُ
التعامل معها متراوحةً بين الترغيب والترهيب، وهذا اللون من الآيات يعطي
النفس جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله ولاسيما حين تركن هذه النفس
إلى طين الأرض ومغريات الحياة، وفي نفس الوقت تدعو هذه الآيات إلى اليقظة
والاحتراز فهي لا تعطل الحياة وإنما تحرسها من الطغيان والاستهتار وتأخذ
القلوب المؤمنة جرعة من الطمأنينة والثقة لأنها إلى جوار الله فلا يصيبها
بأسه فالله وعد بالدفاع عن الذين آمنوا وإنجائهم من غضبه: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } الحج 38
إن مصيبة القلب الكافر تكمن في تحجره
وعماه، فهو لا يريد أن يتدبر ويتفكر، ولا يريد أن يرى يد الله في جدب الأرض
ونقص الثمرات، ولا يريد أن يتذكر وعد الله ووعيده، ولا يريد أن يعترف
أصلاً أن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقع الحياة العملية لأن
هذه العلاقة من عالم الغيب، والكافرون أغلظ حساً وأجهل بصيرة مِن أنْ يروا
وراء الواقع المحسوس شيئاً فهم كالأنعام لا بل أضل سبيلاً، وإذا رأوا
شيئاً من عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق مشيئته المطلقة
وإنما نسبوه إلى الطبيعة والمصادفات العابرة التي لا علاقة لها بخالق الكون
وواضع نواميس وجوده الدائرة، وهكذا عندما نقصت الغلاّت في روسيا الشيوعية
وفي المعسكر الشيوعي كله لم يجد (خروشوف) حينئذ ّإلا أن يقول: ( إن الطبيعة
تعاكسنا ) وهو الرجل الذي يدعي ( الاشتراكية العلمية ) ! إنه العمى عن
رؤية يد الله القاهرة وإلا فما هذه (الطبيعة ) التي لها ( إرادة ) و(تعاكس)
بها البشر !!!
وأخيراً نختم بعطر النبوة وأريج الحق نختم
بكلام سيد المرسلين وإمام المتقين سيدنا محمد الأمين صلى الله عليه وسلّم
وهو يتحدث عن أخص صفات المؤمن عند ابتلائه في حديث أخرجه مسلم: (عَجَبًا
لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ
لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ
خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).
اللهم اجعلنا من المؤمنين الصابرين
الشاكرين، وابعثنا تحت راية خير خلق الله أجمعين، وشرّبْنَا من حوضه
اللجين، وأدخلنا برحمتك الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين.