قراءة في إرادة الحياة الانتصـار والتجديد
الأثنين 21 يوليو 2025

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية قراءة في إرادة الحياة الانتصـار والتجديد

قراءة في إرادة الحياة الانتصـار والتجديد

محتويات المقال

    قراءة في إرادة الحياة
    الانتصـار والتجديد

    السيد رمضان السيد
    أبو القاسم الشابي شاعر تونسي في شعره نفحات أندلسية، ولد سنة 1324هـ/ 1906م في قرية الشابية من ضواحي توزر عاصمة الواحات التونسية في الجنوب، وقرأ العربية بالمعهد الزيتوني بتونس، وتخرج في مدرسة الحقوق التونسية وعلت شهرته، ومات شاباً بمرض الصدر سنة 1353هـ / 1934م ودُفن في روضة الشابي بقريته، وله ديوان شعر بعنوان «أغاني الحياة» وكتاب «الخيال الشعري عند العرب»، وتعدُّ قصيدته «إرادة الحياة» من أروع ما جادت به قريحته، وفيما يلي محاولة لتقديم قراءة نقدية جديدة للقصيدة.
    حرية منضبطة
    لقد نجح أبو القاسم الشابي في جعل قصيدته خير مثال على رفض كل مظاهر التقليدية؛ فبدت قصيدته ثورة ملتهبة على كافة الأصول والقواعد التي تعوق الشاعر أثناء عملية الإبداع، إلا أن هذه الحرية التي انتهجها الشاعر لم تكن حرية عبثية هدفها الوحيد هو الخروج على المألوف، كما هي الحال في كثير من الكتابات الشعرية الحديثة المدَّعية للحداثة، بل كانت حرية واعية، ومنضبطة بقواعد الشعر العربي، بحيث نجح الشاعر في إعادة تشكيل النص بما يخدم عملية الإبداع، فأسقط من عناصره كل عنصر لا يُعَدُّ موجِّهاً للمتلقي في عملية القراءة النقدية، ولم يكتفِ بالإبقاء على العناصر الأخرى الفاعلة، بل قام بتطويرها وجعلها أكثر فاعلية، وقد تجلى هذا بوضوح في جميع مستويات القصيدة.

    فعلى مستوى المضمون الفكري الذي يحمله النص، تجلت ثورة الشاعر على الاستعمار الفرنسي الذي أذاق الشعب التونسي مرارة الضيم والاستعباد، فرأينا أبا القاسم الشابي يعلنها صريحة في مطلع القصيدة بأن الشعب الذي يريد الحياة الأبية ويسعى إليها لابد أن تستجيب له صروف القدر، وتحقق له حريته التي يطمح إليها، ويمضي الشاعر في رحلته الشعرية ليثبت لنا فكرته من خلال أدلته العاطفية التي تخاطب الوجدان والضمير، إلى أن ينهي قصيدته بالفكرة نفسها التي ابتدأ بها:
    إذا طـَمِحَـتْ لـِلـْحَـيـَـاةِ الـنـُّـفـُـوسُ
    فـَلا بـُدَّ أنْ يـَسْـتـَجـِيبَ الـْقــَدَرْ
    وهو بهذا المسار الدائري يجعل من قصيدته حلقة محكمة الاتصال، بحيث يجد القارئ عند الوصول إلى البيت الأخير رغبة ملحة في العودة إلى البيت الأول، وإعادة القراءة مرات ومرات.
    وعلى مستوى المعاني التي تناولها أبو القاسم الشابي، فإن النص يُعدُّ ثورة على التبعية، حيث يرفض الشاعر تكرار المعاني التي درج عليها الشعراء السابقون عند معالجتهم فكرة حب الوطن والدفاع عنه ضد الغزاة والمستعمرين، فقد اعتاد الشعراء في مثل هذا المقام على الحديث عن قيمة الوطن في قلوبهم، والتعبير عن استعدادهم للتضحية من أجله بالدماء والأرواح، بيد أن الشاعر هنا رأيناه يضرب بهذه المعاني المتكررة عرض الحائط، ويشيح بوجهه عنها معالجاً قضية حب الوطن بأسلوب جديد لم يعهده السابقون، ولم يجترئ عليه التقليديون.
    وعلى مستوى الألفاظ، وفيما يخص الصنعة البديعية التي أغرق فيها التقليديين تكلفـُهم، فإن أبا القاسم الشابي قد تحرر من قيدها، وأطلق العنان لقريحته الشعرية تعبِّر عن أحاسيسه الصادقة بلا تكلف أو عناء؛ فرأينا مظاهر الصنعة البديعية تطالعنا من جديد في النص، ولكن رأيناها مطبوعة متجردة من ثياب التصنع الزائفة، بحيث يخدم البديع المعنى المراد ويكثف إشعاعاته الدلالية، ولا يطغى عليه؛ فيحرفه عن طريق الطبع والسجية.
    من ذلك ما لحظناه من طباق بين لفظتي (حي) و(الميت)، وبين لفظتي (يحب) و(يحتقر) في قوله :
    هُـوَ الـْكـَوْنُ حَيٌّ يـُحِـبُّ الـْحَـيـَـاةَ
    وَيـَحْـتــَقِـرُ الـْمَـيـْتَ مَهْـمَا كـَبـُرْ
    فلا شك أن مثل هذا الطباق يشد من أزر المعنى، بحيث يعقد لنا موازنة بين الحياة التي يدعونا إليها الشاعر بمفهومها الواسع، وبما تشتمل عليه من الحرية والعدل والتحرر من الظلم، وبين الموت بمفهومه الواسع أيضاً، وبما يشتمل عليه من العبودية والذل والرضا بالهوان، كما يزيد الموازنة اتضاحاً الطباق الآخر، بحيث يؤكد لنا أن تلك الحياة التي عرفناها يحبها الكون، بينما ذلك الموت الذي عرفناه أيضاً يحتقره الكون، وبعدها لا نملك إلا أن نوافق الشاعر في تلبية دعوته للحياة التي أحببناها معه، واستطاع أن يقنع عواطفنا بحبها والطموح إليها.
    ومن مظاهر الصنعة البديعية المطبوعة في النص أيضاً قول الشاعر:
    وَسِـحْـرُ السَّـمَـاءِ الشـَّجيُّ الـوَدِيــعُ
    وَسِحْرُ الـْمُرُوجِ الشـَّهـِيُّ العَطِرْ
    فالجناس الناقص بين لفظتي (الشجي) و(الشهي) في ثنايا هذا الأداء الفني ليس مجرد حلية لفظية تتجانس أصواتها وتتوافق؛ فتتناغم حروفها وتنساب أصداؤها، وإنما هو بنية عضوية تتشكل في رحم المعاني، فتنبثق عنها مشحونة بمشاعر السخط والغضب؛ لتكون بمنزلة الصرخة المدوية، تعبيراً عن الرفض والاستنكار اللذين يطلقهما الشاعر تجاه شبح الموت الذي يعتري مظاهر الحياة، حين يجيء الشتاء بضبابه وثلوجه ومطره؛ فينطفئ سحر الغصون والزهور والثمر، وسحر السماء اللطيف الباعث للشجى، وسحر المروج الخضر الشهي الفواح.
    وعلى غرار هذا، يفلح أبو القاسم الشابي في استغلال هذه الطاقة البديعية في الموقف الذي يميل فيه إلى التطريب والابتهاج، وذلك عندما يجعل من حسن التقسيم في قوله:
    وَنـَاجـِي النـَّسِيمَ وَنـَاجـِي الـْغـُيـُومَ
    وَنـَاجـِي النـُّجُومَ وَنـَاجـِي القَمَرْ
    وسيلة فاعلة في التعبير عن الرضا والسرور بعودة الحياة للبذور، التي جاءها الربيع بأنغامه وأحلامه وصباه العطر، فمنحها الشباب الذي كانت قد افتقدته؛ فتصبح أغصانـاً باسقة تميد وتختال كما تشاء فوق الحقول بثمرها الناضج وزهرها الندي، فقد أفادت هذه التقفية الداخلية للبيت في تصوير مدى السعادة التي أحسها الشاعر، حتى لكأنه يردد مع الغصون نشيد الحياة، كما ساهم التكرار (وناجي ... وناجي ... وناجي ... وناجي) الذي لم يأتِ سذاجة ولا عبثــاً في توكيد فكرة الترديد، وعمل على إعادة توليد الطاقة التي يبعثها فعل الأمر (ناجي)، فكلما خبت قوة هذه الطاقة، عمل التكرار على إحيائها من جديد، وهذا ما لم يكن يتحقق لو اقتصر الشاعر على استعمال الفعل مرة واحدة، واكتفى بعطف المفعولات بالواو (النسيم والغيوم والنجوم والقمر)، فلقد صوًّر لنا هذا التكرار الهادف الغصونَ وهي تناجي النسيم والغيوم والنجوم والقمر كلاً على حدة.
    ويمضي أبو القاسم الشابي في ثورته المتحررة من كل القيود، فنراه لا يبالي بالوقوع في الإيطاء، فيكرر كلمة القافية بلفظها ومعناها، كما هي الحال في هذه الكلمات: (القدر، اندثر، المنتصر، الشجر، الحفر، أخر، المطر، الزهر، العمر، السحر، الثمر، العطر، غبر، القمر)، إلا أنه يباعد بين الأبيات المتواطئة القوافي بصورة تجعلنا نستسيغ صنيعه، ولا نرى فيه تعمُّداً في أن يهدم قواعد الشعر العربي.
    كذلك لا يبالي بالوقوع في التضمين، وهو ألا يتم المعنى في البيت الواحد، كما هي الحال في قوله :
    وَقـَالـَتْ لِيَ الأرْضُ لـَمَّـا سَـألـْتُ:
    أيـَا أمُّ هـَـلْ تــَكـْرَهِـيــنَ الـْبـَشـَرْ؟
    أبـَاركُ فِي النـَّاسِ أهْـلَ الطـُّمـوحِ
    وَمَنْ يـَسْـتــَلـِذُّ رُكـُوبَ الـْخـَطـرْ
    وقوله :
    وَفِي لــَيْـلــَةٍ مِنْ لـَيَالِي الـْخـَريـفِ
    مُثــَقــَّـلــَةٍ بــِالأسَـى وَالـضَّـجَـرْ
    سَكِرْتُ بــِهَـا مِنْ ضِيـَاءِ الـنـُّجُـومِ
    وَغـَنـَّيْتُ لـِلـْحُـزْنِ حَـتـَّى سَـكِـرْ
    وقوله :
    وَقــَـالَ لـِـيَ الــْغــَـابُ فـِـي رقــَّـةٍ
    مُحَــبـَّـبـَةٍ مِثــْـلَ خـَفـْقِ الـْوَتــَرْ:
    يَجـِيءُ الشـِّتــَاءُ شِــتــَاءُ الضَّـبـَابِ
    شِتــَاءُ الثــُّلـُوجِ شِـتــَاءُ الـْمَطــَرْ
    وقوله :
    مُـعَـانـِـقــَةً وَهْيَ تـَحْـتَ الـضَّبـَابِ
    وَتـَحْـتَ الثـُّـلـُوجِ وَتحْتَ المَدَرْ
    لـِطـَيـْـفِ الـْحَـيـَـاةِ الــَّذِي لا يـُمَـلُّ
    وَقــَلـْبِ الرَّبيعِ الشذيِّ الخـَضِرْ
    ولعلنا نلحظ في هذا العيب الذي حذر منه القدماء وتحرر منه أبو القاسم الشابي – على كونه مظهراً من مظاهر الحرية الإبداعية – تطبيقــاً لفكرة الوحدة العضوية التي طالما نادى بها المجددون، فهم لا يرون في مجرد وحدة الوزن والقافية وحدة حقيقية، بل لا بد من ترابط أبيات القصيدة ترابطـاً معنويّاً محكماً، بحيث لا يمكن حذف بيت أو تقديمه أو تأخيره دون أن يختل البناء العام للقصيدة، ومثل هذا التضمين الذي عابه العلماء القدماء يُعين على تحقيق تلك الوحدة المنشودة، حيث يكون البيت الأول في حاجة ملحة إلى البيت الثاني ليتم به معناه؛ وحينها تنهار أسطورة البيت الواحد التي اختلقها التقليديون، ويتم التعامل مع النص على أنه جسد واحد لا يغني بعض أعضائه عن بعض.
    وإيغالاً في التحرر من القيود الفنية وأصول الصنعة الأدبية، يرفض أبو القاسم الشابي، كذلك، التقيد بما حبـَّذه الشعراء القدماء من تقفية مطلع القصيدة أو تصريعه، فنجده لا يصنع ذلك في أي أبيات القصيدة، حتى لتبدو قصيدته وكأنها إحدى قصائد الصعاليك الذين كانوا أول الشعراء خروجاً على هذا التقليد الشعري؛ ليصدق حكمنا عليها بأنها ثورة ملتهبة في كل مستوياتها الفنية.
    بل ربما طغت هذه الثورة في بعض جوانبها؛ لنرى الشاعر وقد خرج على أشد الأصول قداسة وهي قواعد النحو، فيرفع ما حقه الجزم في قوله :
    وَمَــنْ تــَعْـبـُــدُ الـنــُّورَ أحْــلامُــهُ
    يـُبـَاركـُـهُ الـنــُّورُ أنـَّى ظــَهَــرْ
    فإن (مَنْ) اسم شرط جازم؛ ولذا كان الصواب أن يُجزم فعل الشرط (تعبد)، وفعل جوابه (يباركه)، ولعل الشاعر استساغ هذا الانحراف اللغوي لمَّا تم له المعنى المراد؛ فلم يلجأ إلى تغييره، وربما عدَّ (مَنْ) هنا اسماً موصولا، وبناءً عليه رفع الفعلين، وإن كان السياق يدل دلالة واضحة على معنى الشرطية في الجملة.
    استلهام للطبيعة
    لقد عمل أبو القاسم الشابي على استلهام مظاهر الطبيعة والحياة الفطرية في قصيدته، حتى ليتمكن من لم يرَ مثل هذه المظاهر حقيقة اًن يشاهدها بعين ذوقه من خلال القراءة المتدبرة للنص، بل ويمكنه – أيضاً – أن يستمتع بها، والحقيقة أن الشاعر لم يمارس الهروب من الواقع المؤلم إلى الطبيعة بالمعنى المعهود، وإنما كان هروبه هروباً شجاعاً، فهو لجوء إلى الطبيعة بتوظيف عناصرها في النص توظيفـاً شعريّاً يعالج ما في الواقع المحزن من جراح وآلام، ولكي نلمس مظاهر هذه السمة الإبداعية في النص، سنقوم بالكشف عنها في جميع مستويات القصيدة.
    فعلى مستوى الألفاظ، نجد أن أثر الحياة والطبيعة كان واضحاً منذ البدء، حيث تطالعنا كلمة (الحياة) في عنوان القصيدة «إرادة الحياة» بقوة متعمَّدة، بل ويتعمد الشاعر أن يفتتح بها شعره فيأتي بها في مطلع القصيدة:
    إذا الـشـَّعْـبُ يـَوْمـاً أرَادَ الحَـيــَاةَ
    فــَلا بـُـدَّ أنْ يـَسْـتـجـِيـبَ القــَدَرْ
    ويُلاحظ أن الشاعر يستعمل كلمة (الحياة) هنا بمعناها الأعمِّ والأشمل، فالحياة هنا ليست نقيض الموت فحسب، وإنما هي حياة عزيزة كريمة، يشعر فيها المرء بقيمة نفسه كإنسان، وهذا الاستعمال هو أشبه ما يكون بالاستعمال القرآني لمعنى الحياة في قوله – تبارك وتعالى: }وَيـَـتــَجَــنــَّبـُهَـا الأشـْـقــَى (11) الــَّذِي يـَصْـلــَى الـنـَّارَ الـْـكـُبـْرَى (12) ثـُمَّ لا يـَمُـوتُ فـِيـهَـا وَلا يَحْـيَا (13){ (سورة الأعلى: 11– 13).
    إذاً، فهذا الاستعمال لكلمة (الحياة) في النص الشعري – على قوته المتعمَّدة – لم يكن استعمالاً مجانيّاً، بل هو استعمال مختار بعناية فائقة، ودليل ذلك أننا لا يمكن أن نستبدله بكلمة أخرى ونحصل على الطاقة المعنوية ذاتها، وإلا فقارن بين قولنا مثلاً:
    إذا الـشـَّعْـبُ يـَوْمـاً أرَادَ انـْتِصَاراً
    فــَلا بـُـدَّ أنْ يـَسْـتـجـِيـبَ القــَدَرْ
    أو على سبيل المثال أيضاً:
    إذا الـشـَّعْـبُ يـَوْمـاً أرَادَ الظـُّهُـورَ
    فــَلا بـُـدَّ أنْ يـَسْـتـجـِيـبَ القــَدَرْ
    وبين ما اهتدت إليه قريحة الشاعر من الاختيار الصائب، فرغم إتيان لفظتي (انتصاراً) و(الظهور) موافقتين للمعنى المراد والوزن، فإنهما لم يمنحانا تلك القوة المعنوية التي تبثها كلمة (الحياة) بإشعاعاتها المتدفقة، فالحياة في هذا السياق هي النصر والظهور والعزة والكرامة... إلخ، وزد على هذا ما شئت من المعاني المنبثقة من تلك الكلمة الغزيرة المعاني، والتي أكسبها حسن التوظيف في النص تلك القوة الساحرة.
    فإذا غادرنا المطلع وانطلقنا نغوص في خِضَمِّ النص، وجدنا الكلمة نفسها تتكرر بهذا التوظيف نفسه 16 مرة بلفظها واشتقاقاتها (حَيّ، تحيا)، كما وردت لفظة مرادفة لها في المعنى وهي كلمة (العيش)، حيث تكررت 3 مرات بلفظها واشتقاقاتها (يَعِشْ)، وهذا يعني أن النص كله مُفعَم بالحياة، مستمد قوته من قوتها.
    ولم يكن حسن التوظيف هو السبب الوحيد أو المصدر الفريد لهذه القوة، بل يُضاف إلى ذلك ما وُفـِّق إليه الشاعر من التشخيص الذي منح (الحياة) صفات الجلال والعظمة، فالحياة التي يحدثنا عنها أبو القاسم الشابي تطمح وتشتاق إليها النفوس، وويل لمن لم يعانقه شوقها؛ فإنه يتبخر في جوها ويندثر، وتحلُّ عليه لعنة العدم المنتصر، والحياة أيضاً يحبها الكون، وهي التي تعيد ربيع العمر لكل ميت أذبلته، والحياة كذلك تذهب وتجيء، حيث ينتظرها من اشتاق إليها متسائلاً:
    وَأيـْـنَ الأشِـعـَّــةُ وَالــْـكــَائـِـنــَاتُ؟
    وَأيـْنَ الـْحَـيـَاةُ الــَّتـِي أنـْـتــَظِرْ؟
    وتداعبه رؤياها في المنام:
    وَتــَبـْـقَـَى الـْبـُذورُ الــَّتـِي حَـمَـلــَتْ
    ذخِـيــرَةَ عُـمْـرٍ جَـمِـيـلٍ غــَبـَرْ
    وَذِكـْـرَى فــُصُـولٍ (وَرُؤيـَـا حَـيـَاةٍ)
    وَأَشـْبـَـاحَ دُنـْيـَا تــَلاشـَتْ زُمَرْ
    وللحياة شباب يستقبله من باركه النور:
    وَبـَارَكــَكِ الـنــُّورُ فــَاسْـتــَقـْبــِلـِي
    شـَبـَابَ الحَيـَاةِ وَخـَصْبَ العُمُرْ
    والحياة تناجيها البذور بعد أن تصبح أغصانـاً مزهرة مثمرة:
    وَنــَاجــِي الـْحَـيــَـاةَ وَأشـْـوَاقَــهَــا
    وَضِـنــَّةَ هـَـذا الــْوُجُـودِ الأغـَرْ
    وللحياة نشيد مقدس يرن في هيكل حالم حين يُمَدُّ على الكون سحر غريب:
    وَرَنَّ نــَشِـيـدُ الـْحَـيــَاةِ الـْمُـقــَدَّسُ
    فـِي هـَيـْـكـَـلٍ حـَالـِمٍ قــَدْ سُـحِـرْ
    كذلك استطاع أبو القاسم الشابي أن يملأ قصيدته بالألفاظ الدالة على مظاهر الطبيعة: (الليل، الكائنات، الريح، الفجاج، الجبال، الشجر، الشعاب، الحفر، الرعود، المطر، الأرض، الكون، الأفق، الطيور، النحل، الزهر، الخريف، النجوم، الدجى، الربيع، الظلام، السَّحَر، الغاب، الشتاء، الضباب، الثلوج، الغصون، الثمر، السماء، المروج، السيل، البذور، المدر، الصباح، المساء، القمر، الفـَراش، الظل، النبع، النسيم، الفضاء، الثرى، الحقول، الغيوم)، وكل هذه الألفاظ، مع كثرتها الكاثرة، لم تأتِ حشواً مجرَّداً من القيمة الفنية، بل عمل الشاعر أيضاً على تشخيصها، فأضفى عليها صفات آدمية.
    فالكائنات تكلمه ويحدِّثه روحها المستتر، والريح تدمدم وتخبره بأنها إذا طمحت إلى غاية، ركبت الأماني ونسيت الخوف والحذر، ولم تتجنب في سيرها الشعاب الوعرة ولا اللهب المتأجج، ثم تمنحه حكمتها الغالية فتقول له : «إن الذي لا يحب صعود الجبال الشامخة يظل طيلة عمره سافلا بين الحفر فلا يصنع شيئـاً»، كذلك فإن الرعد يكلمه بدويِّه المفزع، والمطر بوقع قطره، والشاعر يصغي إليها جميعاً واعياً ما تبثه إليه من العبرة والحكمة، وكأنما قد أوتي من علم سليمان – عليه السلام – ما يجعله قادراً على فهم منطقها على اختلاف لغاتها.
    ولا يكتفي الشاعر بالإنصات إلى مظاهر الطبيعة، بل إنه ينادي الأرض مخاطباً إياها بقوله: «أيا أمُّ»، ويسألها: «هل تكرهين البشر؟»، فتجيبه بأنها تبارك من الناس أهل الطموح الذين يستلذون ركوب المراكب الخطرة، وتلعن منهم القانعين بالعيش الداني الضئيل، وكذلك تمنحه الأرض حكمتها؛ لتؤكد له أن الكون حي ويحب الحياة، ويحتقر الأموات مهما عظموا، فتقول له: «إن الأفق لا يحضن الطيور الميتة، والنحل لا يلثم الزهور الذابلة»، وتخبره بأنها لولا حنانها وأمومتها، لأبت هي أيضاً أن تضم الأموات في حفرها؛ لشدة حبها للحياة، وعظم بغضها للموت.
    ولما كانت القصيدة دعوة للتفاؤل وحب الحياة، فإن أبا القاسم الشابي قد صوَّر لنا الظلام وقد عجزت شفاهه عن أن تجيبه عن تساؤله، وكأنما قد عمد الشاعر إلى إخراس الظلام لكيلا ينبس بكلمة؛ حتى يتسنى له أن يأخذ الحكمة من مظاهر الطبيعة المتفائلة وحسب، على اعتبار أن الظلمة رمز للموت والتشاؤم:
    سَألـْتُ الدُّجَى: هَـلْ تـُعِـيدُ الـْحَيـَاةُ
    لـِمَـا أذبـَـلــَتــْهُ رَبــِيــعَ الـْعُـمُـرْ
    فــَلــَمْ تــَتــَكـَلــَّمْ شِـفــَاهُ الـظــَّـلامِ
    وَلــَمْ تــَتــَرَنـَّمْ عَـذارَى السَّـحَـرْ
    فإذا جاوزنا الألفاظ والمعاني، وتوجهنا إلى الصور البيانية وأنعمنا النظر فيها، رأيناها مستوحاة من ذلك المصدر الغني نفسه، فلقد أحكم الشاعر نسج خيالاته التي استمدَّ خيوطها من الطبيعة والحياة الفطرية، ولعل أهم صورة في النص هي ذلك التشبيه الضمني الذي عرضه الشاعر بأسلوب درامي مؤثر، وأجراه على لسان الغاب، حيث يقول:
    وَقــَـالَ لـِـيَ الــْغــَـابُ فـِـي رقــَّـةٍ
    مُحَــبـَّـبـَةٍ مِثــْـلَ خـَفـْقِ الـْوَتــَرْ
    ثم يحكي لنا قصة دورة الحياة في الطبيعة، وبطل هذه القصة يتمثل في البذور التي تبقى تحت التراب، بعدما يأتي فصل الشتاء فيقضي على مظاهر الحياة بضبابه وثلوجه ومطره، وتتساقط غصون الأشجار بورقها وزهرها، لكن تلك البذور تظل حالمة بعودة الحياة من جديد بكل مظاهرها المشرقة، إلى أن يأتي الربيع فيتحقق حلمها، وتنشق الأرض عنها، فإذا هي أغصان باسقة مورقة مزهرة، وهكذا تنتصر الحياة على الموت وتعود من جديد.
    فإذا علمنا أن أبا القاسم الشابي نظم قصيدته هذه لدعوة الشعب التونسي إلى التمرد على طغيان الاستعمار الفرنسي، فهمنا حينها أنه إنما أراد من هذا تشبيه الشعب الطموح الحالم بالحياة العزيزة، بتلك البذور الحالمة بالحياة من بعد الموت، إلا أن الشاعر آثرَ أن يعرض لنا فكرته من خلال هذه الصورة المستمدَّة من مظاهر الطبيعة والحياة الفطرية؛ لتكون مقنعة لنا أولاً، وثانياً لتكون فكرة عامة، وليست خاصة بشعب دون آخر، فهو لم يخصِّص فكرته بألفاظ مميزة، بل تركها هكذا فكرةً طبيعية، مفادها أن الطموح هو سبيل الحياة.
    فإذا أصغينا إلى نغمة الوزن والقافية، أدركنا أن الشاعر قد استعار – أيضاً – من الطبيعة أوتاره التي عزف عليها هذا اللحن الشعري المطرب، فإن بحر المتقارب، الذي يتألف من تكرار تفعيلة (فعولن) 4 مرات في كل شطر، يمتاز بنغمة مطربة تصحبها شدة مأنوسة؛ ولذا فهو يجمع في نغمته هدوء الليل ورقة النسيم مع شدة الريح وانهمار السيل، مما يؤهله لأن يكون بحراً ناعماً، – وفي الوقت ذاته – حادّاً ذا جرس رنان، وهاتان الصفتان المتناقضتان جعلتا القصيدة صالحة للقراءة الهامسة والترديد الإنشادي معاً.
    أما القافية المقيَّدة والتي اختار لها الشاعر حرفـاً مجهوراً (الراء)، فإنها توحي بدويِّ الرعد، ولقد أعان على تحقيقها لهذا الصوت المفزع المنفجر إتيان تفعيلة الضرب محذوفة (فـَعُـو) في القصيدة بأكملها؛ لأن الوتد المجموع (//°) يأتي في نهاية البيت مُحدِثــاً نوعاً من المفاجأة لأذن السامع التي تتوقع أن تجيء التفعيلة الأخيرة على الإيقاع نفسه الذي طربت له من أول البيت، والمكوَّن من تكرار (فـَعُـولـُنْ) 7 مرات، 4 في الشطر الأول و3 في الشطر الثاني، فكأني بالمتلقي وقد انشغل سمعه بهذا التكرار الإيقاعي المتساوي (فعولن فعولن فعولن فعولن – فعولن فعولن فعولن) ثم إذا به يفزع من هذا الانحراف الإيقاعي المباغت (فعو)، وهذا الفزع يدركه من سمع صوت دوي الرعد بعد هدوء وصمت.
    تحليق خيالي
    لقد حلَّـق أبو القاسم الشابي بنا في أجواء خياله الفسيح، حتى تبيـَّن لنا أن الخيال عنده غاية في حد ذاته وليس مجرد وسيلة، فهو خيال لأجل الخيال، ويمكننا أن نلمس مظاهر ذلك التحليق الخيالي الذي لا حدود له من خلال القراءة المتأملة في صوره البيانية التي أثرى بها قصيدته.
    فمن أهم هذه المظاهر التي نلمحها اعتماد الشاعر في معظم قصيدته على الصور الكلية لا على الصور الجزئية، حيث جاءت أكثر صور أبي القاسم الخيالية متمتعة بالحيوية والنشاط، وليست مجرد تشبيهات أو استعارات، يربط فيها الشاعر بين شيئين يرى بينهما وجه شبه مشترك.
    فبالنظر إلى هذا البيت على سبيل المثال:
    وَرَفــْرَفَ رُوحٌ غـَريـبُ الـْجَـمَالِ
    بــِأجْـنـِحَـةٍ مِنْ ضِـيـَاءِ الـْـقَــمَرْ
    نرى صورة كلية لهذا الروح الملائكي، تستمدُّ حيويتها مما بثه فيها الشاعر من صوت وحركة متمثلين في رفرفة الأجنحة، ولون متمثل في ضياء القمر الفضي، وبهذه البراعة يخرج الشاعر على الرتابة التصويرية، ويتجاوز مهمته كشاعر في طبع صورته البيانية في أذهاننا، إلى جعل هذه الصورة صورة حية نكاد نبصرها بأعين رؤوسنا.
    كذلك يُلاحَظ أن الشاعر يَعُدُّ الخيال أصلاً يتكئ عليه في قصيدته، حتى إن الحقيقة لتظهر بجانب الخيال وكأنها فرع أو أمر ثانوي، بحيث إذا لجأ الشاعر إلى التشبيه البسيط، المكوَّن من مشبه ومشبه به تتوسطهما أداة تشبيه، شبه لنا الشيء الحقيقي الملموس بالشيء الخيالي المتصوَّر كما في قوله:
    وَيـَـفـْنـَى الـْجَـمِـيـعُ كـَحُـلــْمٍ بـَدِيـعٍ
    تــَألــَّـقَ فِي مُـهْـجَـةٍ وَانــْـدَثــَرْ
    فهو في هذا البيت يقلب لنا القاعدة البلاغية المعتادة، حيث إننا اعتدنا أن الشاعر إذا أراد أن يصوِّر لنا الأمر المعنوي، شبهه لنا بأمر حسي، وذلك انطلاقــاً من قاعدة بديهية هي قياس المجهول على المعلوم، لكنَّ الشاعر هنا شبه مظاهر الحياة الحسية التي أفناها الشتاء، كأوراق الشجر والزهور والثمار، بالحلم المعنوي الذي يتألق في قلب الإنسان، ثم يفنى ويندثر كأن لم يكن، والمسألة وإن بدت معكوسة في أنظارنا نحن، فإنها هي الصواب في نظر الشاعر؛ إذ الإحساس بالمعنويات هو الأصل الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، فإن الأصل في الإنسان أن يكون معنويّاً أكثر من كونه ماديّاً، وعليه فإن قياس المعلوم على المجهول هنا يقتضي تشبيه المحسوس بالمعنوي.
    ومن مظاهر الخيال المحلق في النص التي لا يمكن إغفالها غلبة المجاز على الحقيقة، وهي سمة عامة في الشعر بل في الأدب برمته، إلا أننا هنا نعني بها أن أسلوب المجاز قد هيمن على النص إلى درجة كبيرة اختفى معها أسلوب الحقيقة تقريباً، بحيث إننا بمجرد الابتداء في القراءة والاسترسال فيها نرى المجاز وقد طغى فغطى القصيدة بأكملها، وخلال مُضيِّـنا في القراءة تقع أعيننا إما على تشبيه؛ أو استعارة؛ أو كناية؛ أو غير ذلك من الصور الخيالية التي تندرج تحت مفهوم المجاز، ولا نكاد نعثر خلال هذه الرحلة على حقيقة واحدة، بل تظل أمواج المجاز تتقاذفنا فنبقى سابحين فيها حتى نهاية القصيدة؛ فندرك حينها أن الحقيقة الوحيدة في النص هي ما يمكن استنباطه بتحليل صور المجاز المختلفة.
    غنائية شعبية
    على الرغم من أن قصيدة أبي القاسم الشابي تحمل همّاً جماعيّاً، هو همّ هذا الشعب التونسي الذي يعاني مرارة الاستعمار، فإن النص لم يخلُ من مظاهر الغنائية التي بدت – أولاً – في كون القصيدة تنتمي إلى الشعر الغنائي، وثانياً في التفاتات الشاعر إلى ذاته وتعبيره عما فيها من جراح وآلام.
    فمثلاً في البيتين التاليين:
    وَفِي لــَيْـلــَةٍ مِنْ لـَيَالِي الـْخـَريـفِ
    مُثــَقــَّـلَــةٍ بــِالأسَـى وَالـضَّـجَـرْ
    سَكِرْتُ بــِهَـا مِنْ ضِيـَاءِ الـنـُّجُـومِ
    وَغـَنـَّيْتُ لـِلـْحُـزْنِ حَـتـَّى سَـكِـرْ
    يبدو الشاعر هنا، وكأنما يكابد همّاً ذاتيّاً لا يشاركه فيه أحد، لكنه لا يلبث أن يعود فيما بعد ليعبر عن هذا الهمّ على أنه همّ جماعي شعبي.
    ومعنى هذا أن قضية الشعب قد فرضت على الشاعر أن يعبر عن الهمّ الذاتي بلغة جماعية لا فردية، إلا أن الغنائية قد تطغى على الشاعر في بعض جوانب النص؛ فنجد هذه اللغة الجماعية وقد خفت صوتها واختفى، وسيطرت على الشاعر نبرة الذاتية الخالصة.
    الشابي بعد مائة عام
    وختاماً فهذه جولة نقدية متواضعة في إحدى قصائد هذا الشاعر المجيد، الذي استطاع – رغم وفاته المبكرة – أن يدرك الكثير من جوانب التجديد الشعري الحقيقي، مسجلاً بذلك تجربة واعية، جديرة بأن يقف أمامها الشعراء الشباب في هذا الزمن – وأنا منهم – متأملين موهبة شابة لم تزل تؤتي ثمارها بعد مائة عام.

    التصنيفات:
    تعديل المشاركة
    Back to top button